سريلانكا.. ضحيّة السياسات غير المسؤولة والصراع الإقليمي الاقتصادي
لم تقتصر أخطاء الحكم في سريلانكا على التوسع في الاقتراض، بل شملت أيضاً خفض الضرائب، ما كلَّف البلاد أكثر من 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، وقلّص قدرتها على سداد ديونها، إضافةً إلى حظر استيراد الأسمدة غير العضوية.
يزخر التاريخ المعاصر بعشراتٍ من نماذج الدول التي أدت السياسات الاقتصادية غير الحكيمة والتجاذبات الإقليمية المحيطة بها إلى وقوعها في هوة اقتصادية سحيقة تنوعت بين إعلان الإفلاس والتحول إلى "دولة فاشلة"، والرضوخ بشكل تام لإرادة الدول الأقوى على المستوى المالي والسياسي.
تعدّ سريلانكا نموذجاً بارزاً في هذا الصدد، وخصوصاً أنَّ أزمتها الاقتصادية الحالية تعد الأسوأ منذ نيلها الاستقلال عام 1948. وقد صاحبها تراجع سياسيّ لافت لأسرة "راجاباكسا"، التي أحكمت قبضتها على البلاد بشكل تام منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 2009.
ربما يجب أن نضع في الاعتبار حقيقة الوضع الإثني والعرقي لسريلانكا؛ الدولة الواقعة قبالة الساحل الجنوبي للهند، والتي تتشكل على المستوى الديموغرافي من 3 عرقيات رئيسية، هي السنهالية والتاميل والمور. تهيمن العرقية السنهالية على النسبة الأكبر من السكان، بواقع 73% من إجمالي سكان سريلانكا البالغ عددهم 22 مليون نسمة.
أسرة "راجاباكسا".. دور أساسي في تاريخ سريلانكا المعاصر
على المستوى السياسي، هيمنت أسرة "راجاباكسا" على كل المفاصل الأساسية في البلاد منذ عام 2005، حين تولى ماهيندا راجاباكسا الرئاسة، عقب توليه منصب رئيس الوزراء لمدة عام. حينها، اكتسب زخماً شعبياً كبيراً، وخصوصاً داخل الأغلبية السنهالية، بعد أن تمكّن عام 2009 من هزيمة متمردي "نمور التاميل"، الذين خاضوا على مدار 3 عقود حرباً شرسة ضد الجيش السريلانكي.
وجود ماهيندا في الحياة السياسية السريلانكية لم يكن وليد اللحظة، فقد احتلّ وشقيقه الأكبر شامال خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي موقعاً شبه دائم في الدورات البرلمانية المتعاقبة، منذ انتخابهما نائبين في البرلمان السريلانكي عام 1970، وكانت لهما آراء عالية النبرة حيال الأوضاع التي سادت البلاد خلال بدايات التمرد الذي أعلنه "نمور التاميل" عام 1983، وهو التمرد الذي اضطرت الهند إلى الوقوف مع الحكومة السريلانكية ضده، لخشيتها من بروز تيارات انفصالية في مناطقها الجنوبية.
تصاعد دور ماهيندا - وعائلة راجاباكسا بطبيعة الحال - في سريلانكا عام 1994، بعد أن تولى منصب وزير العمل، ومن ثم تمَّ تعيينه عام 2004 رئيساً للوزراء، ثم تولى منصب رئيس البلاد لفترتين متتاليتين بين عامي 2005 و2015.
عقب انتهاء الحرب مع "نمور التاميل"، بدأ ماهيندا راجاباكسا عام 2009 خطة للتنمية الاقتصادية، تعتمد بشكل رئيسي على مجموعة كبيرة من مشاريع البنية التحتية، نظراً إلى حاجة المناطق الشمالية والشرقية من البلاد إلى إعادة تأهيل بنيتها التحتية التي تأثرت بشكل كبير من سنوات الحرب مع التاميل.
بدا أنَّ هذه الخطة - في البداية - أحرزت بعض التقدم، بعد أن ارتفع معدل النمو السنوي في البلاد إلى نحو 9% عام 2012، لكن هذا المشهد كان مخادعاً إلى حد كبير، إذ اعتمد ماهيندا بشكل أساسي على القروض والهبات الخارجية، سواء من الصين كمصدر رئيسي لهذه القروض أو دول أخرى مثل الهند واليابان.
هذا الاعتماد تم من دون أن تتضمن خطة ماهيندا للتنمية الاقتصادية أي بنود تتعلق بتأسيس قاعدة صناعية وتمويلية مستدامة تسمح بسداد هذه الديون وفوائدها، وهو ما أدى إلى تداعيات كارثية كان حصادها الأكبر هو ما حدث في البلاد خلال الفترة الماضية.
بشكل عام، توسعت أسرة راجاباكسا في السيطرة على المراكز السياسية والاقتصادية الأساسية في المنظومة الحكومية السريلانكية بشكل تدريجي منذ عام 2005، وتولى عدد كبير من أفرادها مناصب رفيعة، مثل وزير المالية السابق باسيل راجاباكسا، وأيضاً تشامال راجاباكسا، الذي تولى مناصب وزارية عدة في وزارات مثل الثروة السمكية والري والزراعة، وكذلك الرئيس المستقيل جوتابايا راجاباكسا، الذي شغل خلال الحرب مع "نمور التاميل" منصب وزير الدفاع، ونامال ماهيندا راجاباكسا، الذي تولى منصب وزير الرياضة، في حين تولى أخوه، يوشيثا، منصب مدير مكتب رئيس الوزراء.
كانت فترتا حكم ماهيندا بمنزلة تكريس واضح لسيطرة هذه الأسرة على الحياة السياسية في سريلانكا، عبر الدفع بتعديلات دستورية أفضت إلى سيطرته بشكل كبير على المؤسسات الحكومية الرئيسية، وبالتالي تفادي وجود معارضة سياسية حقيقية له، واستمرّ ذلك حتى أوائل عام 2015، حين خسر الانتخابات الرئاسية بفعل تزايد الاتهامات الموجهة إليه وإلى عائلته بالفساد المالي والإداري.
رغم هذه الخسارة، عاد ماهيندا إلى المعترك السياسي سريعاً، حين فاز في العام نفسه بمقعد في البرلمان السريلانكي، ومن ثم قام بمعية السياسيين من أفراد أسرته بتأسيس حزب جديد تحت اسم "الجبهة الشعبية السريلانكية"، تمكنت من خلاله عائلة راجاباكسا من العودة إلى الحكم، بعد أن فاز شقيق ماهيندا، جوتابايا، في الانتخابات الرئاسية التي أقيمت عام 2019، وظل في منصبه إلى أن أجبرته التظاهرات الشعبية على الهروب من البلاد وإعلان استقالته من منصبه.
استكمل جوتابيا وشقيقه وزير المالية باسيل المسار السياسي والاقتصادي الذي سلكه سابقاً شقيقهما ماهيندا، الذي للمفارقة تم تعيينه رئيساً للوزراء بعد فوز جوتابيا في الانتخابات الرئاسية. تزايد هذا الوضع بعد أن تمكَّن حزب الجبهة الشعبية السريلانكية من تعزيز هيمنته على البرلمان، بعد النتائج التي حققها في الانتخابات التشريعية عام 2020، والتي مكّنته من تمرير تعديل جديد في الدستور، عزز السلطات التنفيذية للرئيس السريلانكي بشكل أكبر.
صراع مستتر بين نيودلهي وبكين في جنوب آسيا
حقيقة الأمر أنَّ قصة صعود أسرة راجاباكسا في سريلانكا وهبوطها كان لها ارتباط وثيق بصراع مكتوم وهادئ الوتيرة بين الصين والهند بشأن السيطرة على سريلانكا اقتصادياً، واستغلال موقعها كمحطة بحرية رئيسية في المحيط الهندي. بدأت بكين منذ وصول ماهيندا راجاباكسا إلى سدة الرئاسة عام 2009 بإقراض كولومبو بشكل مستمر وغزير، وأشرفت على تشييد سلسلة من مشاريع البنية التحتية خلال الفترة بين عامي 2009 و2014، وهو ما قرّب سريلانكا بشكل كبير إلى الصين، وأبعدها عن الهند التي كانت تراهن على أن يكون لدورها الداعم للجيش السريلانكي خلال فترة الحرب مع "نمور التاميل" تأثير في العلاقات الاقتصادية بينها وبين سريلانكا.
تنوعت المشاريع الصينية في سريلانكا، الممولة بقروض من بكين، بين المرافق السكنية والتجارية، وبين الموانئ والمطارات، مثل ميناء العاصمة كولومبو، الذي كلف نحو 1.4 مليار دولار، وتم إطلاقه رسمياً عام 2014، وكذا ميناء "هامبانتوتا" المطل على المحيط الهندي، والذي كلف نحو 1.1 مليار دولار.
وعلى الرغم من أن القروض الصينية لسريلانكا توقفت بشكل مؤقت بعد هزيمة عائلة راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية عام 2015، إلا أن عودتها إلى الحكم عام 2019 أعطت لبكين فرصة لزيادة انخراطها الاقتصادي في البلاد.
بشكل عام، تعتبر الصين حالياً ثالث أكبر جهة مقرضة لسريلانكا - بعد اليابان وصندوق التنمية الآسيوي - إذ تمثل القروض الصينية نحو 10% من إجمالي القروض المستحقة على كولومبو، علماً بأن التقديرات تشير إلى أنَّ سريلانكا حصلت خلال الفترة بين عامي 2009 و2020 على نحو 12 مليار دولار من بكين على شكل قروض.
فشل سريلانكا في الإيفاء بهذه القروض، والذي أدى عام 2019 إلى دخول البلاد في أزمة اقتصادية حادة، وفر لبكين فرصة الاستفادة من ميناءين رئيسيين في البلاد، هما ميناء العاصمة وميناء "هامبانتوتا"، اللذان استحوذت عليهما شركتان صينيتان منذ عام 2017، بموجب عقد تصل مدته إلى 99 عاماً.
في الجانب الآخر، عملت الهند بشكل مستمر على محاولة إدامة وجودها في سريلانكا، وخصوصاً بعد أن استشعرت مخاطر الوجود الصيني في موانئ دولة تعد بمنزلة خاصرة جنوبية لنيودلهي، ناهيك بقولها إنها رصدت أنشطة عسكرية صينية في سريلانكا، أهمها زيارات متتالية للغواصات النووية الصينية في ميناء كولومبو منذ عام 2014.
لذا، حرصت نيودلهي على أن تحتفظ بعلاقات اقتصادية قوية مع سريلانكا، وقامت - بعد أن لاحظت التلكؤ الصيني منذ منتصف العام الماضي في منح سريلانكا المزيد من القروض - بتفعيل خط ائتماني أواخر العام الماضي، تبلغ قيمته 4 مليارات دولار، يشمل قروضاً ومقايضة مالية وتسهيلات ائتمانية لشراء الوقود والسلع الأساسية.
هذه الخطوة أفضت إلى بدء تزايد النفوذ الاقتصادي الهندي في سريلانكا واستحواذها على مشروعات مهمة كانت بكين تشرف عليها أو تعتزم الدخول فيها، مثل إدارة مجمع خزانات الوقود العملاق قرب ميناء "ترينكومالي"، ومناقصة بناء وتشغيل محطة الحاويات الغربية في ميناء العاصمة، إلى جانب مشروعات أخرى تتعلق بتوليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح شمالي البلاد كانت ستنفذها سابقاً شركات صينية.
قرارات اقتصادية كارثية خلال السنوات الأخيرة
الصراع المكتوم بين نيودلهي وبكين حول سريلانكا سار جنباً إلى جنب مع السياسات الاقتصادية غير الرشيدة من جانب أسرة راجاباكسا، ما ساهم في النتيجة التي وصلت إليها دولة كانت تعتبر منذ سنوات خلت نموذجاً اقتصادياً مهماً في آسيا.
لم تقتصر أخطاء الحكم في كولومبو على التوسع في الاقتراض، بل تضمنت هذه الأخطاء أيضاً مجموعة من الأخطاء الكارثية، مثل خفض الضرائب عام 2019، بما في ذلك ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة، ما كلَّف سريلانكا أكثر من 2% من ناتجها المحلي الإجمالي في العام التالي، وبالتبعية قلَّص قدرة البلاد على سداد ديونها.
من أمثلة هذه القرارات أيضاً القرار المفاجئ بحظر استيراد الأسمدة غير العضوية أوائل عام 2021، وهو ما تسبب بأضرار كارثية على زراعة الشاي، أحد أهم الصادرات السريلانكية، وأدى كذلك إلى انخفاض إنتاج الأرز بنحو 20%، وبالتالي تعرضت احتياطات النقد الأجنبي للمزيد من الضغوط، نتيجة للتوسع في استيراد الأرز من الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي.
القرارات السابقة، مضافاً إليها انهيار القطاع السياحي السريلانكي، الذي يساهم بنحو 5% من الناتج القومي للبلاد، بعد تفجيرات عيد الفصح عام 2019، ومن بعدها تفشي جائحة كورونا، أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد وتخلّف سريلانكا عن سداد ديونها منذ الربع الأول من العام الجاري، وخصوصاً بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية.
تبلغ قيمة الديون المستحقة على سريلانكا 51 مليار دولار. الجزء الأكبر من هذه الديون مملوكة للمؤسسات التجارية والمصرفية، فقد توسعت سريلانكا خلال السنوات الأخيرة في الاقتراض من البنوك الخاصة، عوضاً عن الحصول على قروض ميسرة من البنك الدولي أو بنك التنمية الآسيوي، كما كانت الحال سابقاً.
وصلت الحكومة السريلانكية إلى قناعة في أيار/مايو الماضي، مفادها أنها لن تستطيع سداد أي من المستحقات الواجب سدادها هذا العام، نتيجة تقلص احتياطيات النقد الأجنبي المتوفر، في حين تحتاج إلى سداد 25 مليار دولار بحلول عام 2026، من بينها 7 مليارات دولار هذا العام فقط.
هذا الواقع الاقتصادي المؤلم الذي صاحبه ارتفاعٌ حاد في أسعار السلع الأساسية والوقود والدواء، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي لمدة تصل إلى 13 ساعة في اليوم، أدت إلى بدء احتجاجات شعبية عارمة في آذار/مارس الماضي، ما لبثت أن تحولت إلى أعمال عنف لفترة وجيزة في شهر أيار/مايو، استقال على أثرها رئيس الوزراء ماهيندا راجاباكسا وحكومته، في حين ظل رئيس البلاد جوتابيا راجاباكسا في منصبه، حتى فر من البلاد إلى جزر المالديف وأعلن استقالته في منتصف تموز/يوليو الماضي.
خلاصة القول أن المهمة الاقتصادية الإنقاذية الملقاة حالياً على عاتق الرئيس السريلانكي المنتخب من البرلمان، رانيل ويكريمسينغه، تبدو في ظل الظروف الحالية صعبة للغاية، لكن بصرف النظر عن مآلات هذه المهمة، يمكن القول إنَّ سريلانكا دفعت ثمناً باهظاً لوقوعها في فخ اقتصادي مزدوج نسجته سياسات أسرة راجاباكسا غير المسؤولة، والصراع المستتر بين بكين ونيودلهي على النفوذ الاقتصادي في جنوب آسيا، وهو ما يطرح تساؤلات إضافية عن مصير دول تتشابه في أوضاعها مع سريلانكا، مثل نيبال وجزر المالديف وباكستان.