دلالات المواجهة البحرية قبالة الساحل الأوكراني

بعد انطلاق العمليات العسكرية، شاركت الوحدات البحرية التابعة لأسطول البحر الأسود قتالياً على عدة مستويات.

  • أُعيد إدخال الطراد
    أُعيد إدخال الطراد "موسكوفا" إلى الخدمة في العام 2000، كسفينة قيادة لأسطول البحر الأسود.

ربما كان التركيز الإعلامي والصحافي في ما يتعلق بالمعارك الدائرة حالياً في أوكرانيا منصبّاً بشكل أساسي على الحرب البرية وحجم التقدم أو التراجع في هذه الجبهة أو تلك. في خضم هذا الوضع، تتوارى جوانب مهمة من هذه المعارك، على رأسها الجانب البحري، الذي غاب بشكل كبير عن التناول الإعلامي والصحافي بشكل عام، رغم أهميته وارتباطه بشكل وثيق بالأهداف الروسية العامة من عملياتها في أوكرانيا.

أهمية الجانب البحري في هذه المعارك يكمن بشكل أساسي في أنه أعاد إلى الأذهان معادلات بحرية تم تكريسها في مواجهات عسكرية سابقة، وأعاد تشكيل هذه المعادلات لتبدو أكثر تأثيراً في شكل الحروب البحرية مستقبلاً على مستوى التقنيات البحرية أو على مستوى تكتيكات القتال. بطل هذه المعادلة كان الطراد "موسكوفا"، وهو واحد من 3 طرادات من فئة "سلافا" عاملة في البحرية الروسية.

حادثة "موسكوفا" ودلالاتها

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ورثت روسيا قوة بحرية كبيرة الحجم تضمنت عدة قطع بحرية تعد الأضخم على مستوى العالم، من بينها الطرادات الثقيلة من فئة "سلافا"، التي بدأ إنتاجها في مدينة نيكولايف الأوكرانية أواخر سبعينيات القرن الماضي، وورثت موسكو منها 3 طرادات عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، تم تعيين كل منها كسفينة القيادة لأسطول من الأساطيل الروسية، إذ كان الطراد "موسكوفا" هو سفينة قيادة أسطول البحر الأسود، في حين كان الطرادان "المارشال أوستينوف" و"فارياج" سفينتي قيادة أسطولي بحر الشمال والمحيط الهادئ على الترتيب.

دخل الطراد "موسكوفا" الخدمة في البحرية السوفياتية في العام 1983، تحت اسم "سلافا". وقد كان بمنزلة المنصة التي انتقل من خلالها الرئيس السوفياتي ميخائيل جورباتشوف إلى سواحل مالطا، ليلتقي الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في العام 1989. من المفارقات المتعلقة بهذا الطراد، أنّه ارتبط دوماً بالأراضي الأوكرانية، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تم إرسال هذا الطراد إلى مدينة نيكولايف، لصيانته وإعادة تأهيله، وظلَّ هناك حتى العام 1996، حين قامت بلدية موسكو بدفع تكاليف إعادة التأهيل، ومن ثم تمّ تغيير اسمه إلى "موسكوفا"، وأُعيد إدخاله إلى الخدمة في العام 2000، كسفينة قيادة لأسطول البحر الأسود.

عقب عودته إلى الخدمة، شارك هذا الطراد في التدخل العسكري الروسي في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية - في جورجيا – في العام 2008، حيث قام بتأمين رسو سفن الإنزال البحري الروسية، وإبرارها لوحدات مشاة البحرية. وخلال هذه العملية، تعرض هذا الطراد لصاروخ جورجي مضاد للسفن، أدى إلى خضوعه لإصلاحات متوسطة. 

كذلك، شارك هذا الطراد في عملية السيطرة على شبه جزيرة القرم في العام 2014، وساهم في إغلاق مخارج الموانئ الأوكرانية لمنع قطع البحرية الأوكرانية من الهروب، كذلك شارك في العامين 2015 و2016 في دعم العمليات الروسية في سوريا عبر تمركزه قبالة الساحل السوري. عاد هذا الطراد إلى شبه جزيرة القرم في العام 2016، لإجراء عملية إعادة تأهيل شاملة استمرت لمدة 3 سنوات، نفّذ بعدها عدة دوريات بحرية في نطاق البحر الأسود.

على مستوى التسليح، كان الطراد "موسكوفا"، الذي يتعدى وزنه 12 ألف طن، مسلحاً بشكل ثقيل على مستوى الأسلحة المضادة للطائرات والقطع البحرية السطحية، مع قدرات محدودة على مواجهة الغواصات، إذ يتسلح بـ16 قاذفاً لصواريخ "بي-1000" المضادة للقطع البحرية، بمدى يصل إلى 500 كلم، ورأس حربي تصل زنته إلى 1 طن، إلى جانب 64 أنبوب إطلاق عمودياً للنسخة البحرية من منظومة الدفاع الجوي البعيدة المدى "أس-300"، وقواذف لصواريخ الدفاع الجوي القصيرة المدى "أوسا". بهذا التسليح، كان الطراد "موسكوفا" ينفذ مهام التأمين والحماية لسفن الإنزال، ويعمل كسفينة قيادة تستطيع توفير الحماية للقطع البحرية عبر منظومات الدفاع الجوي الكثيفة الموجودة على متنها.

دور هذا الطراد في تأمين وجود القطع البحرية الروسية قبالة الساحل الأوكراني على البحر الأسود انتهى الشهر الماضي، حين اندلع حريق كبير على متن الطراد، تم على أثره إخلاؤه من طاقمه المكون من نحو 510 أشخاص، ليغرق بعد ذلك أثناء محاولة جره إلى شبه جزيرة القرم. 

حتى الآن، ما زال الغموض يلفّ هذا الحادث، الذي يمكن اعتباره أكبر حادث غرق سفينة حربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية - إذا ما استثنينا حرب "الفوكلاند" بين الأرجنتين والمملكة المتحدة - لكن تقول كييف من جانبها إن عملية الإغراق تمت باستخدام صاروخين مضادين للسفن من نوع "نبتون".

بدأت كييف تطوير هذا النوع من الصواريخ البحرية منذ العام 2015، اعتماداً على تصميم الصاروخ السوفياتي "كي إتش-35"، وأجرت أول تجربة عملية عليها في العام 2019، تبعتها تجربة ناجحة على الصاروخ المعتمد حالياً لهذه المنظومة، ويسمى "إر-360"، إذ أصاب هذا الصاروخ هدفه البحري خلال هذه التجربة على بعد 100 كيلومتر جنوب ميناء أوديسا.

هذا الصاروخ يتسم برأس حربي يزن 150 كلغ، ويصل مداه الأقصى إلى 280 كم، وسرعته تصل إلى نحو 900 كم في الساعة، ويستطيع التحليق على ارتفاعات منخفضة جداً فوق سطح البحر تصل إلى 3 أمتار فقط. ورغم نجاح تجارب الإطلاق، فإنّ ملف تمويل الإنتاج الكمي لهذا النوع من الصواريخ، الذي يتضمن إنتاج رادارات للتوجيه وآليات لإعادة الملء، وضع معوقات أساسية أمام أوكرانيا، وهو ما أعلنته كييف بشكل واضح. ويبدو أن ذلك خلق قناعة روسية بأنَّ هذا النوع من الصواريخ سيحتاج سنوات طويلة ليدخل الإنتاج الكمي.

بغض النظر عن حقيقة ما أغرق الطراد الروسي، في ظل عدم وضوح الرؤية في ما يتعلق بهذه المسألة، فإنَّ هذه الحادثة تلقي الضوء مجدداً على حجم التهديد الذي تمثله الصواريخ المطلقة من منصات أرضية على القطع البحرية، مهما كان حجمها أو تسليحها، وهو ما أدى إلى فقدان أسطول البحر الأسود الروسي أحد أهم قطعه البحرية، وهو حدث له تأثير معنوي ونفسي لا يمكن إنكاره، وخصوصاً أن هذا الطراد، رغم خضوعه لبعض عمليات التحديث، كان يحتاج إلى عمليات أكبر في ما يتعلق بوسائط الرصد الراداري الموجودة على متنه.

دور البحرية الروسية في العمليات الأوكرانية

رغم هذه الحادثة، فإنّ البحرية الروسية كان لها دور مهم في العمليات الأوكرانية، فقبيل انطلاق العمليات القتالية، تمركزت الوحدات البحرية الروسية في 3 نقاط أساسية، هي شرق البحر المتوسط، ومنطقة البحر الأسود، ومنطقة بحر البلطيق. الحشد البحري الروسي في شرقي المتوسط وبحر البلطيق، كان الهدف منه تكتيكياً بحتاً، وهو مواكبة التحركات البحرية لحلف الناتو في أوروبا الغربية. 

خلال الأيام التي سبقت بدء العمليات الروسية في أوكرانيا، انتشرت الوحدات البحرية الروسية في شرق المتوسط ووسطه على شكل مجموعتين رئيسيتين؛ الأولى كانت وسط البحر المتوسط، بقيادة الطراد الصاروخي "المارشال أوستينوف" التابع لأسطول بحر الشمال، في حين كانت المجموعة الثانية متمركزة قبالة الساحل السوري، بقيادة الطراد الصاروخي "فارياج" من فئة "سلافا" التابع لأسطول المحيط الهادئ.

أما في بحر البلطيق، فتمركزت القوة البحرية الروسية في قاعدة أسطول البلطيق الرئيسية في ميناء "بالتييسك" البحري في منطقة كالينغراد الواقعة بين بولندا وليتوانيا. بطبيعة الحال، تركز الزخم الأساسي لهذا الحشد في منطقة البحر الأسود، المتاخمة للجبهة الأوكرانية الجنوبية، حيث تمتلك البحرية الروسية في هذا النطاق 4 قواعد بحرية رئيسية، بواقع قاعدتين في شبه جزيرة القرم، هما سيباستوبول ونوفوروسيسك، وقاعدتين في الجانب الشرقي من مضيق كيرتش، هما "Temryuk" و"Feodosia".

بعد انطلاق العمليات العسكرية، شاركت الوحدات البحرية التابعة لأسطول البحر الأسود قتالياً على عدة مستويات؛ المستوى الأول كان من خلال الدعم النيراني المباشر عبر إطلاق النسخة الأحدث من صواريخ "كاليبر" الجوالة، وهي النسخة "3M-14T" المخصصة لسفن السطح، والتي يحمل كل منها رأساً حربياً زنته 450 كغم، بمدى أقصى يصل إلى 2500 كم، بسرعة 0.8 ماخ، وارتفاع تحليق ما بين 10 و15 متراً.

هذا الإطلاق تم بشكل رئيسي عن متن كورفيتات صاروخية من فئة "Buyan-M"، وفرقاطات الصواريخ الموجهة من فئة "Grigorovich". هذا الدعم الصاروخي تم توجيهه إلى كل الجبهات، سواء الجبهة الشرقية أو الجبهة الشمالية أو الجبهة الجنوبية، بجناحيها الشرقي "ساحل بحر آزوف" والغربي "ساحل البحر الأسود وجنوب نهر الدنيبر".

المستوى الثاني كان عبر استخدام سفن الإنزال البحري، لتنفيذ عمليات إبرار تستهدف الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود وبحر آزوف، لتأمين السيطرة عليها وعلى ما تتضمنه من قطع بحرية. وقد تضمن ذلك إنزال وحدات من مشاة البحرية الروسية، انضمت إلى الوحدات التي عبرت قناة "القرم" البحرية، وانفتحت قتالياً على طول الساحل الأوكراني. عملية السيطرة على الموانئ الأوكرانية ركزت بشكل أساسي على موانئ بحر آزوف، بما في ذلك ميناءا بيرديانسك وماريوبل، وتمكّنت القوات الروسية من مصادرة عشرات القطع البحرية الأوكرانية. 

المستوى الثالث من مستويات العمليات البحرية الروسية في أوكرانيا تركّز بشكل خاص على ساحل البحر الأسود، فقد تحركت سفن الإنزال البحري الروسية بشكل لافت على مدار المرحلة الأولى من المعارك، بشكل كان يوحي بأنها تعتزم تنفيذ إنزالات بحرية مباشرة على ميناء أوديسا الذي يعد أهم نقطة في هذا النطاق.

قاد الطراد "موسكوفا" العمليات البحرية في هذا الاتجاه، وخصوصاً عملية السيطرة على جزيرة "الثعبان" الواقعة جنوبي ميناء أوديسا. تضمنت العمليات الروسية في هذا الاتجاه عمليات لكسح الألغام البحرية التي زرعتها القوات الأوكرانية قرب الموانئ، وكذلك تنفيذ عمليات الاستطلاع اللاسلكي والإلكتروني عبر القطع البحرية المخصصة لهذه المهام.

بطاريات الصواريخ المضادة للسفن "باستيون" الموجودة في شبه جزيرة القرم، شاركت بشكل محدود في عمليات الدعم الصاروخي للقوات الروسية التي كانت تتحرك غربي منطقة خيرسون، وهو استخدام تكرر سابقاً في سوريا لصواريخ "كروز" بحرية في قصف أهداف أرضية.

القطع التي خسرها كلا الجانبين على المستوى البحري

وعلى الرغم من عدم تحقيق الوحدات البحرية الروسية نجاحاً لافتاً في هذا الاتجاه، فإنَّ الضغط البحري والبري الروسي أجبر القوات الأوكرانية على إغراق الفرقاطة الوحيدة في ترسانتها البحرية، وهي الفرقاطة "هيتمان سهايداتشني" من طراز "كريفاك"، التي وقعت كييف عقداً لتطويرها في كانون الثاني/يناير الماضي، واضطرت في النهاية إلى إغراقها في ميناء "نيكولايف"، لمنع القوات الروسية من الاستيلاء عليها في حالة دخولها المدينة. كذلك، تمكّنت القاذفات الروسية من تدمير زورق دورية أميركي الصنع من طراز "إيلاند"، خلال غارة جوية على ميناء أوديسا، وتضررت سفينة استطلاع من فئة "مونا" جنوب نهر الدنيبر، بعد أن أصيبت بنيران الرشاشات الروسية.

الخسائر البحرية الروسية لم تقتصر على الطراد "موسكوفا"، بل شملت تعرض 3 سفن إنزال بحري روسية لقصف صاروخي أوكراني أثناء وجودها في ميناء "بيرديانسك"، ما أسفر عن غرق سفينة إنزال من فئة "روبشا" تسمى "ساراتوف"، وتضرر السفينتين المصاحبتين لها. تلا هذا الحادث تضرر زورق دورية سريع روسي من فئة "رابتور" بشكل جسيم، بعد إصابته بصاروخين مضادين للدروع أطلقتهما القوات الأوكرانية قرب ميناء "ماريوبول".

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن إغراق الطراد "موسكوفا" أسفر عن تأثر العمليات البحرية الروسية في نطاق "جزيرة الثعبان"، التي تعدّ أقرب نقطة إلى ميناء "آزوف" الأوكراني. ومن أمثلة هذا التأثر، تعرض زورقي دورية سريعين روسيين للإغراق من جانب الطائرات الأوكرانية من دون طيار "بيرقدار"، علماً أنّ كييف حاولت إعادة السيطرة على هذه الجزيرة عدة مرات، لكنها فشلت في ذلك.

بشكل عام، كانت حادثة إغراق "موسكوفا" بمنزلة جرس إنذار حاد نبه القيادة البحرية الروسية إلى بعض الأخطاء التكتيكية التي ارتكبتها، حتى باتت الوحدات البحرية الروسية في البحر السود أكثر حرصاً في تحركاتها، كما أن موسكو ضاعفت عمليات تأمين قاعدتها البحرية في "سيفاستوبول"، عبر استخدام الدلافين المدربة على مكافحة الضفادع البشرية، وهو ما سبق تجربته في سوريا، وتمتلك موسكو فيه خبرة واسعة تعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.