جولة ماكرون في أفريقيا.. نتائج عكسية ومحصّلة صفرية
اختصر ماكرون استراتيجية بلاده الجديدة تجاه أفريقيا، في خفض الوجود العسكري إلى أدنى مستوى، وإنهاء القواعد العسكرية الفرنسية، وتحويلها إلى أكاديميات تشارك في إدارتها فرنسا والدول الأوروبية والأفريقية.
حتى وقت قريب كانت القارة الأفريقية توصف بـ "الحديقة الخلفية" للحضور الفرنسي فيها؛ مؤخّراً بدأ المصطلح يفقد معناه وبدأت مؤشرات النفوذ الفرنسي تتآكل، فتجلّت أبرز تلك المؤشرات في شهر آب/أغسطس 2020، عندما طلبت حكومة مالي من فرنسا سحب قواتها بعد 9 سنوات.
وعلى الخُطى ذاتها ذهبت حكومة بوركينا فاسو في 25 كانون الثاني/يناير الماضي مُطالبة فرنسا بسحب قواتها من البلاد خلال شهر. وتدحرج الطلب لاحقاً إلى أبعد من ذلك عندما نزل المتظاهرون إلى شوارع العاصمة واغادوغو مطالبين بطرد السفير الفرنسي فتم استبداله. والأمور ليست أفضل حالاً بالنسبة لكلٍ من تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وقد بدأ النفوذ الفرنسي فيهما يتآكل شعبياً ورسمياً.
لا تعبّر هذه المؤشرات عن أزمة ثنائية بين فرنسا والدول الأفريقية بقدر ما تعكس تحوّلاً تاريخياً استراتيجياً. يتعلّق بتحوّل في محدّدات العلاقة بين الدول الأفريقية وفرنسا، التي بلغت مساحة مستعمراتها في أفريقيا 3 ملايين ميل مربّع، و100 قاعدة عسكرية، تقلّصت مع مرور الوقت حتى وصلت إلى 7 قواعد عسكرية فقط.
فرنسا تُقرّ بتراجع نفوذها في أفريقيا
استدراكاً لهذا التآكل الحاصل في الحضور الفرنسي بالقارة الأفريقية؛ وكإجراء استباقي متأخّر، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع آذار/مارس الجاري بجولة أفريقية بدأها من الغابون؛ مروراً بأنغولا وجمهورية الكونغو "برازافيل" والكونغو الديمقراطية. وهي دول لم يسبق للرئيس الفرنسي أن قام بزيارتها رسمياً من قبل، ربما لأنها لم توجّه انتقادات لفرنسا بعد، علماً أنّ ماكرون قام بـ 18 زيارة للقارة الأفريقية منذ توليه الرئاسة عام 2017، ولم يسبق لرئيس فرنسي أن قام بهذه الزيارات في فترة ولايته. ما يدلل على حضور استثنائي للقارة الأفريقية على أجندات ماكرون، والذي يرمي بكل ثقله لمواجهة تآكل نفوذ بلاده الملحوظ في أفريقيا.
وهو ما اعترف به خلال قمة الدول الفرنكفونية التي احتضنتها جزيرة جربة التونسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، بأنّ مكانة لغة موليير تتعرّض "لانتكاسات"، على جبهات عديدة خصوصاً في المنطقة المغاربية. ووصف ما يحدث في أفريقيا بـ "مقاومة شبه سياسية" للنفوذ الثقافي الفرنسي، وعاد وأقرّ في خطابه بتاريخ 27 شباط/فبراير 2023، بتراجع مكانة فرنسا في أفريقيا اقتصادياً واستراتيجياً.
تجاهل فرنسي للنفوذ الروسي-الصيني في أفريقيا
رغم إقرار ماكرون بتراجع نفوذ بلاده في القارة الأفريقية، إلا أنه يرفض الحديث عن أنّ لروسيا والصين دوراً في ذلك، ويرى بأنّ الأمر يأتي في سياق مختلف، وفي إشارة إلى روسيا، مكتفياً بتوصيف ما يحدث بالقول: "يريد كثيرون دفعنا إلى الدخول في منافسة، اعتبرها مفارقة تاريخية". مضيفاً: "في يوم من الأيام سوف يفهم الأفارقة أن خصومهم هم في الواقع مرتزقة روس ومستثمرون صينيون، أكثر بكثير من المستعمرين الأوروبيين السابقين". متسائلاً: "ما هو الوقت الذي يستغرقونه ليدركوا ذلك"؟
هذه المكابرة التي بدت في خطاب ماكرون وتوصيفه للحضور الروسي والصيني، تجاهلت أكثر من 20 تدخّلاً عسكرياً قامت بها فرنسا ما بين الأعوام 1961 و1992، ونحو 17 مرة ما بين الأعوام 1992 و2017 في الدول الأفريقية. لقد اعتقد ماكرون أن جولة موسّعة لبضعة أيام في غرب القارة الأفريقية قد تساعده في ترميم تآكل النفوذ الفرنسي أفريقياً، وأن إعلان سياسة جديدة تجاه أفريقيا قد تُعيد الحضور الفرنسي إلى القارة الأفريقية التي تجاوزت الوصاية الفرنسية.
لقد برز جيل أفريقي جديد واعٍ بتاريخه ومنفتح على العالم، لا ينظر إلى فرنسا إلا باعتبارها مستعمراً نهب ثروات القارة الأفريقية على مدار قرنين، ولا يضع مصالحها ضمن قائمة اهتماماته وأولوياته. فكان الاتجاه إلى البحث عن شركاء ليست لهم سوابق استعمارية في أفريقيا، وهو ما وجده الأفارقة في روسيا والصين.
ملامح استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه أفريقيا
قبل انطلاق جولته الأفريقية أعلن ماكرون الخطوط العريضة لاستراتيجية بلاده الجديدة تجاه القارة الأفريقية في مؤتمر صحافي عُقد في قصر الإليزيه في 27 شباط/فبراير الماضي. داعياً في خطابه إلى "التحلي بالتواضع" وإلى ضرورة "بناء علاقة جديدة ومتوازنة ومسؤولة مع دول القارة الأفريقية"، ومعلناً انتهاء "عصر فرنسا الأفريقية".
اختصر ماكرون استراتيجية بلاده الجديدة تجاه أفريقيا، في خفض الوجود العسكري إلى أدنى مستوى "3000 جندي بدل 5500". وإنهاء القواعد العسكرية الفرنسية، وتحويلها إلى أكاديميات تشارك في إدارتها فرنسا والدول الأوروبية والأفريقية. من دون أن يعلن عن جدول زمني لتنفيذ تلك الاستراتيجية، علماً بأن هذه ليست ملامح رؤية استراتيجية جديدة اختيارية لماكرون بل باتت مطلباً أفريقياً وممراً إجبارياً على فرنسا المرور فيه للحفاظ على ما تبقّى من نفوذ لها.
الملاحظ أن ماكرون ذهب في رؤيته الجديدة إلى عموميات فضفاضة ومقتضيات بديهية في العلاقات الدولية، لكنه صمت عن الحديث عن حقوق الإنسان والقيم الأوروبية التي يتغنّى بها، مُركّزاً على الشراكة والتعاون، من دون الاعتراف بأخطاء فرنسا، أو وعود بالتعويض عن فترة الاستغلال، ومن دون تطوير في أبجديات الخطاب، أو مراعاة للتحوّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية في أفريقيا، ومن دون الالتفات حتى إلى وجود وحضور منافسين جدد على الساحة كالصين والهند وروسيا وتركيا. فبدت رؤيته غارقة في التنميط الفرنسي الذي يتعامل مع القارة الأفريقية بفوقيّة.
وبينما كان يبحث عن أرضيّات تعاون جديدة فإنه لم يتخلّص من الخطاب الاستعلائي ولم ينجح في تقديم فرنسا كصديق لأفريقيا، مُعوّلاً ومُراهناً على قناعة قديمة أنّ الدول الأفريقية بحاجة إلى الوجود الفرنسي.
جولة ماكرون تُغضب الأفارقة وتُفضي لنتائج عكسية
منذ فرانسوا هولاند إلى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، وعلى مدار عقد ونصف العقد، ورؤساء فرنسا يُصرّحون ويتعّهدون بضرورة مراجعة السياسة الفرنسية في أفريقيا، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. حتى فقدت فرنسا مصداقيتها في القارة الأفريقية، وبينما كان يُفترض بجولة ماكرون أن تمرّ بهدوء فإذا بها تصطدم بواقع أفريقي شعبي ورسمي غاضب ورافض للجولة ومخرجاتها قبل أن تبدأ.
ففي الغابون استُقبلت جولة ماكرون بمظاهرات مندّدة بالدعم الفرنسي للرئيس عمر بونغو الذي يحكم منذ 2009، وورث الحكم عن والده. وفي جمهورية الكونغو الديموقراطية خرجت مظاهرات احتجاجاً على زيارة ماكرون واحتشد المتظاهرون أمام السفارة الفرنسية في العاصمة كينشاسا حاملين الأعلام الروسية. وهذا على ما يبدو قد أغضب الرئيس الفرنسي فأخرجه من الرصانة الدبلوماسية إلى المفردات الأبويّة الفوقيّة، فقال: "منذ 1994، لم يكن خطأ فرنسا إذا كنتم (الكونغوليون) قد فشلتم في فرض السيادة العسكرية والإدارية في بلدكم".
لم يتأخّر الردّ وجاء هذه المرة بصفة رسمية، فعلى المنصة نفسها التي تحدّث من عليها ماكرون، ردّ الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي قائلاً: "على فرنسا أن تنظر إلى الأفارقة بنظرة مختلفة، باعتبارهم شركاء حقيقيين، وليس بنظرة أبوية".
لم تقتصر الصفعات الأفريقية شعبياً ورسمياً لفرنسا على الرئيس ماكرون، فكان لوزيرة خارجيته كاثرين كولونا نصيبها هي أيضاً، عندما تلقّت رسالة من نظيرها في دولة بوركينا فاسو تعلن وقف العمل بـ "اتفاق المساعدة العسكرية" الموقّع عام 1961، وكانت بوركينا فاسو قد طلبت من فرنسا في كانون الثاني/يناير الماضي سحب القوات الفرنسية من البلاد.
استمرار تآكل النفوذ الفرنسي في أفريقيا
أخفقت جولة ماكرون في ترميم النفوذ الفرنسي المتآكل، واصطدمت برفض شعبي ورسمي أفريقي، ومردّ ذلك مجموعة عوامل، منها ما هو ذاتي كالبقاء على اجترار لغة وأفكار الاستعمار والاستعلاء ورفض الاعتذار عن الأخطاء، ومنها ما هو خارجي لم تستطع فرنسا تحييده، كحضور روسيا والصين التي تبنّت سياسة عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية.
وعلى عكس فرنسا لجأت الصين إلى التركيز على المجالات الاقتصادية والبنية التحتية والقروض الميسّرة، فحظيت بقبول أفريقي حتى باتت الشريك الاقتصادي الأكبر في أفريقيا برصيد استثماري يتوقّع أن يصل إلى 500 مليار دولار خلال العامين المقبلين. في حين قامت روسيا بإعفاء عدد من الدول الأفريقية من 20 مليار دولار كانت ديوناً مستحقّة عليها.
ختاماً لا تزال فرنسا حبيسة عقلية تقليدية في تعاطيها مع القارة الأفريقية، تعتمد في الأساس على تحقيق مصالحها مكتفية بذلك ظنّاً منها أن القارة الأفريقية ما زالت "حديقة خلفية" لها، متجاهلة المتغيّرات والتطورات الدولية والأفريقية الحاصلة كافة. إن أي جولة أو جهد فرنسي لترميم النفوذ الفرنسي المتآكل في أفريقيا يتجاهل إلغاء القوانين التي ترسّخ الاستعمار الفرنسي للقارة الأفريقية، ويؤجّل الرحيل الفوري للقوات الفرنسية، ولا يراعي التحوّلات الثقافية والتطورات السياسية الأفريقية سيُعطي نتائج عكسية وسيصل إلى محصّلة صفرية.