تفجير "تقسيم" وحدود جديدة للمعادلة التركية الداخلية والخارجية
حزب العمال الكردستاني وتنظيم "داعش"، نفّذا سابقاً سلسلة من العمليات النوعية في الداخل التركي، وحزب العمال الكردستاني صاحب تاريخ طويل في النشاط المسلح ضد تركيا.
ربما يمكن النظر إلى التفجير الأخير في ميدان "تقسيم" بمدينة إسطنبول التركية -الذي ألقي فيه باللائمة على حزب العمال الكردستاني- من زوايا تتعدى مجرد كونه حدثاً يرتبط بصراع طويل الأمد بين أنقرة والحزب الكردي، فبالنظر إلى السياقات الداخلية الحالية في تركيا، والتطورات التي طرأت في الأشهر الأخيرة، على المحيط الإقليمي لأنقرة، سواء في سوريا وشرقي المتوسط، أو في القوقاز وأوكرانيا، فضلاً عن التغيرات التي شابت العلاقات التركية ببعض الدول ومنها إيران وروسيا و"إسرائيل"، وبالنظر إلى كل ما سبق لم يكن مفاجئاً أن تتعرض الجبهة الداخلية التركية لهزة قوية، جاءت هذه المرة على شكل تفجير أصاب مفصلاً سياحياً حيوياً ورمزاً تركياً مهماً.
التفجير، الذي نفذ بعبّوة ناسفة في حقيبة وضعتها امرأة داخل إحدى الحاويات المخصصة للأشجار في الميدان، أسفر عن مقتل 6 أشخاص وإصابة نحو 53 آخرين، وجاء في سياق زمني حرج، أصاب المرحلة الختامية من الموسم السياحي التركي، وعلى بعد أشهر من انتخابات رئاسية وبرلمانية مفصلية، ستجرى في حزيران/يونيو المقبل.
الجهة المنفذة والجدل حولها
تفاصيل هذا الحدث، من حيث الشكل، جعلت بعض الجهات التركية تشتبه بادئاً في إمكانية أن يكون هذا التفجير "انتحارياً"، وبخاصة أن التحقيقات الأولية تحدّثت عن ضلوع امرأة فيه، وهو ما أعاد إلى الأذهان التفجيرات الانتحارية التي نفذها سابقاً الطرفان اللذان يمكن الاشتباه في قيامهما بهذا التفجير، وهما تنظيم "داعش" وحزب العمال الكردستاني، اللذان تبادلا تنفيذ العمليات الانتحارية في الداخل التركي، خصوصاً في عامي 2015 و2016، ولكن تراجعت حظوظ فرضية التفجير الانتحاري، بعد أن قبضت السلطات التركية سريعاً على السيدة التي وضعت العبوة الناسفة التي تسببت بهذا الانفجار، وأُعلن انتماؤها إلى حزب العمال الكردستاني.
يذكر أن حزب العمال الكردستاني وتنظيم "داعش"، نفّذا سابقاً سلسلة من العمليات النوعية في الداخل التركي، وحزب العمال الكردستاني صاحب تاريخ طويل في النشاط المسلح ضد تركيا، وعمليته الأخيرة كانت في الداخل التركي في تشرين الأول/أكتوبر 2018، حين فجّرت سيارة مفخخة قرب عربة مدرعة تابعة للجيش التركي، في محافظة "باطمان". تنظيم "داعش" من جانبه، نفذ عمليات عدة في الداخل التركي بين عامي 2015 و2017، أهمها تفجير ميدان السلطان أحمد في مدينة إسطنبول في كانون الثاني/يناير 2016، وتفجير انتحاري آخر وقع في آذار/مارس 2016، قرب المنطقة التي حدث فيها التفجير الأخير، وأسفر حينذاك عن مقتل بضعة سياح أجانب، من بينهم إسرائيليون، بجانب عملية الهجوم على نادي "رينا" الليلي في مدينة إسطنبول، في مطلع عام 2017، ما أسفر عن مقتل 39 شخصاً، غالبيتهم من الأجانب.
حقيقة الأمر أن البصمات المتوافرة من تفجير "تقسيم" الأخير، ربما تجعل اتهام تنظيم "داعش" بالتسبب به أكثر منطقية من الميل إلى اتهام حزب العمال الكردستاني، أو فصائل كردية أخرى مثل "صقور حرية كردستان"، خصوصاً بعد قيام السلطات التركية في أيار/مايو الماضي، بالقبض على 3 أعضاء أجانب في تنظيم "داعش" في ولاية "بورصة" غرب البلاد، قبل تنفيذهم إحدى العمليات، بجانب القبض على 10 أجانب آخرين في "كوجا إيلي" غرب البلاد، و"قيصري" وسط البلاد، للاشتباه في انتمائهم إلى التنظيم، علماً أن الشرطة التركية سبق وأحبطت قبل أيام من هذه الاعتقالات، عملية انتحارية، كان يعتزم أحد المنتسبين السوريين إلى تنظيم "داعش" تنفيذها في ولاية "شانلي أورفا" جنوب البلاد، ليصبح العنصر العاشر الذي يُقبض عليه هذا العام، قبل تنفيذ عملية انتحارية.
وعلى الرغم مما سبق، قد يحمل اتهام الطرف الكردي جانباً من الوجاهة، نظراً إلى التاريخ الطويل من الصراع بين الجانبي، وإطلاق أنقرة منذ أسابيع عملية عسكرية على المواقع الكردية شمال العراق، وتلويحها بعملية مماثلة في شمال شرقي سوريا، لكن عمليات تنظيم "داعش" في الداخل التركي، خصوصاً التفجير الانتحاري في شباط/فبراير 2016، تشبه بشدة تفجير ميدان تقسيم، وهذا كله -مضافاً إليه نفي حزب العمال الكردستاني، الحديث التركي عن ضلوعه في هذا التفجير- يعطى هذا الحدث أبعاداً تتعدى البحث في ماهية المنفذ الحقيقي.
من المستفيد من تخلخلات الداخل التركي؟
بصرف النظر عن اليد المنفذة، تبدو الحاجة ضرورية إلى البحث عن الجهات المستفيدة من تفجير مماثل في هذا التوقيت الحرج داخلياً وخارجياً في تركيا، فعلى المستوى الإقليمي، يبدو التموضع التركي أكثر "استقراراً" من الوضع الداخلي، بخاصة في ظل دور أنقرة المتزايد والمتشعب في ملفات الأزمة الأوكرانية، وخطواتها الأخيرة في تركيا والعراق، واحتفاظها بورقة العلاقة بموسكو، وتصعيدها المكتوم الموقف مع اليونان، وهي جميعها نقاط ساهمت في تحسين شعبية إردوغان، التي تأثرت في الفترة الأخيرة جراء الأوضاع الاقتصادية.
ما سبق لم يمنع أن أنقرة تواجه توتراً لافتاً مع دولة مهمة في محيطها الإقليمي، ألا وهي إيران، وحقيقة الأمر أن التوتر بين طهران وأنقرة تزايد في الأشهر القليلة الماضية، على خلفية ملفات عدة، أهمها ملف العلاقة بـ "إسرائيل"، خصوصاً بعد أن ألقت الاستخبارات التركية في حزيران/يونيو الماضي، القبض على خلية اغتيالات إيرانية في مدينة إسطنبول، كانت تستعد لمهاجمة مصالح إسرائيلية في تركيا. هذه الخلية تألفت من 8 أفراد، خزّنوا كميات من الأسلحة والذخائر في فندق بمدينة إسطنبول، وسبق ذلك تحذيرات إسرائيلية من احتمالات قيام إيران بتنفيذ عمليات انتقامية ضد رعاياها في تركيا، وصدرت التحذيرات في مطلع الشهر الذي جرى فيه اعتقال الخلية الإيرانية.
العامل الداخلي، وخصوصاً السياسي، يبقى مهماً إذا أردنا النظر إلى المستفيد من التطورات الأخيرة، فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، لوحظ تصاعد حاد في الزخم المرتبط بهذه الانتخابات، في ظل أجواء تراجعت فيه بشكل أو بأخر شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، وعادت فيه المحاولات السابقة للأحزاب المعارضة، بخاصة الأحزاب الستة الرئيسة، وعلى رأسها حزب "الشعب الجمهوري"، لإيجاد صيغة مشتركة يمكن من خلالها التوافق على نحو كامل على شخصية يمكن أن تقود التيار المعارض خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، فضلاً عن الدعوة إلى العودة مرة أخرى إلى نظام الحكم السابق، وهو النظام البرلماني.
بطبيعة الحال هذا الزخم يرتبط على نحو كبير بالملفات الأبرز على الساحة الداخلية التركية الآن، وهي الملف الاقتصادي، الذي يشهد تراجعاً فيما يتعلق بالتضخم ونسبة البطالة ومستوى الأسعار، بجانب ملفات اجتماعية أساسية على رأسها "ملف المهاجرين"، ولاسيما السوريون منهم على الأراضي التركية، وهما ملفان تشترك الحكومة التركية والمعارضة في الرهان على إحداث تطورات فيهما، تسمح بترجيح كفة أحدهما على الآخر، خصوصاً الجانب الحكومي الذي يرغب في استغلال النشاط الدبلوماسي الملحوظ لتركيا في المحيط الإقليمي، إضافة إلى نقاط إيجابية على المستوى الاقتصادي الداخلي، بحيث يدخل حزب العدالة والتنمية الحاكم الانتخابات، والبلاد تعيش في أوضاع اقتصادية أفضل.
الملفات الخارجية في ظلال الوضع الداخلي التركي
ملف الطاقة يعد من الملفات التي لها ارتباطات بالداخل التركي ومحيطه الإقليمي، حيث تراهن تركيا على أن تتمكن من الإيفاء باحتياجاتها من الطاقة خلال الشتاء المقبل، خصوصاً بعد توقيعها الاتفاقية الأخيرة حول المواد الهيدروكربونية مع حكومة غرب ليبيا، لكن ملف غاز شرق المتوسط عموماً، عاد ليشهد تطورات ساخنة في الأشهر الأخيرة، يمكن إضافتها إلى الخلافات التي بدأت بوضوح عام 2020 بين اليونان وقبرص من جهة وتركيا من جهة أخرى، حول المناطق الاقتصادية الخالصة، وعمليات التنقيب عن الغاز.
بداية هذه التطورات كانت في كانون الأول/ديسمبر الماضي، بعد احتجاج أنقرة في ذلك الشهر على قرار جمهورية قبرص منح حقوق استكشاف الغاز الطبيعي لشركتي إكسون موبيل وقطر للبترول في البلوك 5 من منطقتها الاقتصادية الخالصة، والمضي قدماً في أعمال الحفر الاستكشافية في منطقة البلوك 10.
قبرص من جانبها صعدت أكثر في هذا الملف في آب/أغسطس الماضي، بعد إعلان حكومتها اكتشاف شركتي "إيني" الإيطالية و"توتال" الفرنسية حقلاً غازياً ضخماً في بئر "كرونوس-1" الواقع في البلوك السادس، يحتوي على احتياطيات محتملة تبلغ نحو 70 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما ردت عليه تركيا آنياً في الشهر نفسه، بالعودة إلى سياسة "سفن التنقيب"، فأرسلت سفينة التنقيب "عبد الحميد خان" للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
هذا الملف يتقاطع وإشارات عديدة رصدتها أنقرة في الفترة الماضية، بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" وفرنسا من جهة، وقبرص واليونان من جهة أخرى، خصوصاً فيما يتعلق باتفاقية التعاون الدفاعي المتبادل الموقعة عام 1990، التي بموجبها نظّمت أثينا إطار استغلال البحرية الأميركية قاعدة "سودا" في جزيرة كريت، وهو الاستغلال الذي كان قائماً عملياً منذ أواخر ستينيات القرن الماضي.
لكن تلقّت هذه الاتفاقية دفعة جديدة إلى الأمام في تشرين الأول/أكتوبر 2019، بعد أن اتفق الجانبان على استغلال الولايات المتحدة الأميركية ثلاث قواعد عسكرية يونانية، إضافة إلى قاعدة "سودا" البحرية". هذا التعديل صادق عليه البرلمان اليوناني في أيار/مايو الماضي، وقد انتقدت أنقرة بشدة هذه الخطوة، خصوصاً أن التعديلات الجديدة على هذه الاتفاقية، تضمنت تحديث قاعدة "سودا" البحري، وتجديد قاعدتي "لاريسا" و"ستيفانوفيكيو" الجويتين، وتعميق وتحديث ميناء "ألكساندروبولي" المطل على بحر إيجة، وهي جميعها خطوات أعرب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن قناعته بأنها موجّهة ضد تركيا وليس ضد روسيا.
كذلك، تنظر أنقرة إلى التعاون في المجال التسليحي بين أثينا وواشنطن على أنه موجّه على نحو كبير ضدها لاعتبارات عديدة، أهمها الدور الذي أداه رئيس مجلس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، لدى زيارته الولايات المتحدة الأميركية أخيراً، في عرقلة الكونغرس الأميركي مفاوضات بيع مقاتلات "أف-16" لأنقرة، في حين كان يسيراً على أثينا التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن تحديث مقاتلاتها، وكذلك الحصول على موافقة واشنطن على حصول سلاح الجو اليوناني مستقبلاً على مقاتلات "أف-35" المتفوقة. دور ميتسوتاكيس في هذا الملف كان سبباً رئيساً في تصعيد الرئيس التركي منذ أيار/مايو الماضي، لهجته ضد اليونان، بخاصة أنه يتهم رئيس مجلس الوزراء اليوناني بأنه تواصل مع برلين لمنع حصول أنقرة على مزيد من الغواصات الألمانية.
وخلاصة القول أن تفجير ميدان "تقسيم"، يحمل ارتباطات مهمة بالوضع الداخلي والخارجي لتركيا، أياً كانت الجهة المنفذة له، وأنه يحمل إشارة لافتة إلى مشكلات جادّة في المنظومة الأمنية التركية، وهي نقاط تحمل في مجملها تحديات حقيقية أمام أنقرة، قد تدفعها إلى القيام بخطوات دراماتيكية في محيطها الإقليمي، قد تشمل إطلاق العملية العسكرية شمال شرقي سوريا، التي عملت موسكو بقوة لتأجيل إطلاقها في الفترة الماضية.