الهيمنة الأميركية على العالم.. البدايات والنهايات

سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أنَّ هذه الصورة المهيمنة آخذة في التأكل التدريجي، فكيف تطورت هذه الهيمنة الأميركية على امتداد عقود؟ وما هي ملامح تفككها؟

  • الهيمنة الأميركية على العالم.. البدايات والنهايات
    الهيمنة الأميركية على العالم.. البدايات والنهايات

أولاً: عناصر النفوذ والهيمنة الأميركية

نستطيع أن نشير إلى 6 عوامل ضمنت للولايات المتحدة الهيمنة والنفوذ على العالم، هي: 

العنصر الأول: هيمنة الدولار الأميركي

1-   على نظم المدفوعات الدولية بعد اتفاقية "بريتون وودز" عام 1945، إذ يسيطر الدولار الأميركي على ما نسبته 40% من مجموع المدفوعات العالمية. في المقابل، لا تزيد حصة اليوان الصيني على 3.2% من حيث القيمة، رغم ما تملكه الصين من فوائض مالية ضخمة، ورغم امتلاكها أكبر احتياطي نقدي في العالم.

2-   على الاحتياطيات النقدية العالمية، إذ تقدر نسبة الاحتياطيات النقدية العالمية المرتبطة بالدولار الأميركي 62%، ويأتي بعدها اليورو الأوروبي بنسبة 21%. 

3-   على أسعار الصرف والقيم المتبادلة للعملات. 

4-   من خلال ربط التجارة العالمية بالدولار، وربط تجارة النفط والطاقة في الأسواق العالمية بالدولار الأميركي. وقد بلغ حجم التجارة العالمية عام 2021 ما يساوي 28.5 تريليون دولار، منها 88% تتم بالدولار.

5-   بالإضافة إلى عوامل أخرى، هي:

·       40% من سوق الأسهم العالمية ما زال مقوماً بالدولار الأميركي.

·       هناك 39 دولة في العالم تعتمد الدولار عملة تعامل داخلية.

·       هناك 32 دولة أخرى تربط عملتها المحلية بالدولار الأميركي. 

العنصر الثاني: الهيمنة على النظام المصرفي العالمي، من خلال: 

1-   نظم الائتمان والإقراض العالمي. يكفي أن نعرف أن البنوك غير الأميركية في العالم كان لديها 27 تريليون دولار من الالتزامات الدولية مقومة بالعملات الأجنبية حتى عام 2021، من بينها 18 تريليون دولار أميركي. في آذار/مارس 2022، كان كل ما تملكه البنوك المركزية في العالم نحو 6.8 تريليون دولار أميركي، فيما كان ما تمتلكه من اليوان الصيني لا يزيد قيمته على 221 مليار دولار. 

2-   نظم أسعار الفائدة الدائنة والمدينة؛ فمن خلال هذا النفوذ الأميركي على نظم الإقراض وإغراق العالم وبنوكه بالعملة الورقية الخضراء (الدولار)، يؤثر البنك الاحتياطي الأميركي في أسعار الفائدة الدائنة والمدينة بقراراته وسياساته النقدية.

3-   بنوك ومؤسسات الإقراض والائتمان الإقليمية.

4-   نظام "سويفت" (SWIFT) للتحويلات المالية الذي أُنشئ عام 1973 بواسطة مجموعة من البنوك الأميركية والأوروبية، والمملوك - شكلياً - بشكل مشترك لأكثر من ألفي بنك ومؤسسة مالية، والذي يربط بين 11 ألف بنك ومؤسسة مالية حول العالم منتشرة في 200 دولة، والذي أظهر في وقت الجد أنه مجرد أداة من أدوات السياسة الأميركية.

هذا ما جرى حين طُردت إيران من هذا النظام عام 2012 حتى عام 2016، ثم بعد عام 2018، حين ألغى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاتفاق النووي معها من جانب واحد، وعاد إلى سياسة العقوبات القصوى والحصار الخانق ضدها، ما أدى إلى خسائر مالية ضخمة قدرت بنحو 30% من تجاراتها الخارجية، ثم عاد الغربيون وطبقوا هذه السياسة غير القانونية وغير الشرعية ضد روسيا عام 2014، بعد استعادتها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وكذلك عام 2022، بعد العملية العسكرية الروسية ضد الجماعات النازية الحاكمة في أوكرانيا، رغم أن روسيا تنخرط في هذا النظام بأكثر من 300 مؤسسة وبنك روسي، ويصل معدل معاملاتها المالية عام 2021 إلى نحو 1.5% من إجمالي معاملاتها اليومية التي تزيد على 42 مليون معاملة بقيمة 140 مليار دولار يومياً. 

العنصر الثالث: الهيمنة والسيطرة على مؤسسات العمل الاقتصادي والمالي الدولي، وأهمها: 

أ‌-       صندوق النقد الدولي IMF. 

ب‌-  البنك الدولي للتعمير والتنمية IB، ومؤسسات التمويل التابعة له.

ج- بنك التسويات الدولية.

د- منظمة التجارة العالمية

العنصر الرابع: الهيمنة والنفوذ الفكري والأيديولوجيا، من قبيل: 

ا- هيمنة فكرة اقتصاد السوق وآليات العرض والطلب، باعتبارها أكثر كفاءة من نظم التخطيط الاقتصادي، سواء في توجيه الموارد أو تشجيع المبادرة الفردية. 

ب- هيمنة مفهوم العولمة (Globalization) وفقاً لمفهوم وحدة الأسواق وحرية حركة رؤوس الأموال من دون حرية حركة البشر والعمالة. 

ج- إفساد النخب السياسية والتنفيذية في معظم دول العالم، وخصوصاً الدول النامية، أو الاستفادة من الفاسدين لدى هذه الدول والشعوب. 

العنصر الخامس: الهيمنة على وسائل الإعلام وتدفق المعلومات العالمية من خلال: 

أ-الهيمنة على شبكات القنوات الفضائية الكبرى ووكالات الأنباء ونظم تدفق البيانات والمعلومات والصور.

ب-السيطرة على شبكة الإنترنت. 

ج-السيطرة على شركة "فيسبوك".

د-السيطرة على الوسائل الأخرى، مثل "تويتر" و"واتسآب" وغيرها. 

وبذلك، تصبح مقولة "العالم قرية صغيرة" مجرد أكذوبة كبرى، فمن يملك تحويل العالم إلى قرية صغيرة يملك أيضاً تحويل العالم إلى قرية مظلمة تماماً. 

ولعلَّ تجربة الحرب الروسية – الأوكرانية الأطلسية كاشفة عن الجوهر الحقيقي لهذه الأكذوبة، وذلك حين أغلقت الدول الأطلسية جميعها كلّ وسائل الإعلام الروسية، لتصبح السردية الغربية منتشرة وحدها في العالم بكلّ أكاذيبها. 

العنصر السادس: القوة العسكرية، إذ تمتلك الولايات المتحدة أكبر جيش في العالم، وأكبر ميزانية للحرب (تتجاوز 750 مليار دولار عام 2021)، بما يكاد يعادل الدول العشر الكبرى اللاحقة لها، كما تمتلك أكثر من 500 قاعدة عسكرية منتشرة في معظم دول العالم.

 وأخيراً، ما تمتلكه من قدرات استخبارية وأمنية متعددة قادرة ونافذة في دهاليز وأروقة دوائر صناعة القرارات في معظم دول العالم. ومن أبرز هذه الأجهزة: وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، ووكالة الأمن القومي الأميركي (NSA)، ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI)، والاستخبارات العسكرية الأميركية (MIS) وفروعها في البحرية والقوات الجوية (1)، وكذلك، قدرات كبيرة ومعتبرة في الابتكار التكنولوجي، وإنتاج هائل في السلع والخدمات تصل نسبته إلى 22% من الإنتاج العالمي. 

ثانياً: وسائل تفكيك الهيمنة الأميركية 

أفرطت الولايات المتحدة، وخلفها معظم دول الاتحاد الأوروبي والتحالف الأطلسي، في استخدام سياسة العقوبات والحصار الاقتصادي والإقصاء السياسي طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة، وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، فطالت كلّ الدول والحكومات التي تنأى بنفسها أحياناً عن السياسات الأميركية؛ فبعد كوبا عام 1961، وكوريا الشمالية، جاءت إيران والعراق وفنزويلا وليبيا والسودان وبوليفيا، ثم طالت روسيا والصين، بحيث بلغ عدد قرارات المقاطعة والحصار الاقتصادي خلال عام 2021 وحده أكثر من 9400 قرار بالمقاطعة والعزل الاقتصادي والتجاري لكثير من دول العالم.

وكانت قرارات المقاطعة تلك مؤلمة وقاسية بحق معظم هذه الدول، فخضع بعضها واستسلم للإرادة الأميركية من خلال انقلابات سياسية أو عسكرية داخلية، أو من خلال غزو عسكري أميركي مباشر (بنما وغرينادا والعراق). 

من هنا، لم تعد هذه السياسة الغربية مقبولة لدى الكثير من دول العالم، وخصوصاً تلك التي تمتلك إرادة وطنية وكرامة سياسيّة وقدرات اقتصاديّة تستطيع من خلالها تحمّل هذه المقاطعات والحصار الّذي يخرج معظمه عن الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة. 

من هنا، بدأت محاولات حثيثة وبطيئة إلى حد ما منذ عام 2001، وزادت سرعتها بعد قرارات المقاطعة الأميركية -والأوروبية والغربية بالتبعية- لروسيا عام 2014، بعد ضمّها شبه جزيرة القرم، والتدخل الجزئي لحماية سكان المقاطعات الشرقية في أوكرانيا من القوى النازية التي سيطرت على الحكم في العاصمة كييف في ذلك العام، ومارست أقسى أشكال التمييز والقتل ضد كل من ينتمي إلى العرق الروسي في أوكرانيا، وكذا العرق البيلاروسي. 

وقد زاد الأمر حين طالت العقوبات الأميركية - في عهد الرئيس أوباما وبعده دونالد ترامب - العملاق الصيني، فجرحت كبرياء هذه الدولة وهذا الشعب وكرامته، فبدأت تدور عجلة المواجهة الحثيثة والعاقلة والمدروسة لوسائل الهيمنة الأميركية على العالم وعناصرها. 

كيف تسارعت وتيرة هذه العملية التاريخية (Historical Process)؟ 

أولاً: البدء بعملية تفكيك وتقليص هيمنة الدولار الأميركي على نظام المدفوعات الدولية وبناء الاحتياطيات النقدية لمحافظ البنوك المركزية في الدول. رغم صعوبة هذه العملية واحتياجها إلى مسار زمني طويل نسبياً، فقد بدأتها إيران وروسيا حين قررتا عام 2016 التعامل بالروبل والعملة الوطنية في تسوية التجارة فيما بينهما، والتوسع التدريجي في استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري لكلٍّ من الصين وروسيا وإيران وفنزويلا والهند. 

ثانياً: بناء كيانات اقتصادية دولية وإقليمية منذ عام 2009 موازية لكيانات اتفاقية "بريتون وودز"، وأهمها: منظمة البريكس (BRICS) التي تتسع عضويتها يوماً بعد يوم لتضمّ الآن 6 دول، من بينها إيران، ومنظمة التعاون الاقتصادي في شنغهاي التي تضم 35 دولة آخذة أيضاً في التوسع.

ثالثاً: بناء كيانين ماليين دوليين موازيين لصندوق النقد والبنك الدوليين، هما: البنك الآسيوي للاستثمار في مشروعات البنية الأساسية، وبنك التنمية التابع لمنظمة "بريكس" عام 2016. 

رابعاً: بناء نظم بديلة لنظام "سويفت" (SWIFT) الغربي، الذي أصبح أداة استعمارية مكشوفة تستخدمها الولايات المتحدة، ومن ورائها دول التحالف الأطلسي، ضد أي دولة تنزع إلى الاستقلال عن السياسات الأميركية؛ ففي الصين، أُنشئ منذ عام 2009 نظام "سيبس" (CIPS)، وأصبح لدى هذا النظام للتحويلات المالية المستقل عن "سويفت" عدد متزايد من المشاركين، بلغ 75 مشاركاً مباشراً، معظمهم شركات تابعة في الخارج أو فروع للبنوك الصينية، كما تمكّن من جذب 1205 مشارك غير مباشر على المستوى الدولي، وكذلك أُنشئ نظام للدفع الفردي يسمى "وينيون باي". 

في المقابل، قامت روسيا منذ عام 2014 ببناء نظام مستقل لها للتحويلات المالية أطلق عليه "SPFS"، بعد أن فرضت الدول الغربية حظراً على بعض بنوكها للتعامل عبر نظام "سويفت".

ضم هذا النظام الروسي، حتى عشية اندلاع الحرب الأوكرانية الأطلسية ضد روسيا، نحو 400 مؤسسة مالية، وشارك فيه 23 دولة من الدول الصديقة لروسيا، بما في ذلك إيران وفنزويلا والصين والهند ودول التعاون الأوراسي. وقد بلغت نسبة التحويلات من خلاله نحو 20% من جملة التحويلات المحلية والداخلية، كما بلغت عدد الرسائل المتبادلة عبر هذا النظام الروسي عام 2020 حوالى 2 مليون رسالة. 

وأنشأت روسيا نظاماً آخر للمدفوعات وللدفع بالبطاقات الفردية أطلق عليه نظام "مير" (MIR)، وهو نظير لبطاقات الدفع الغربية (ماستر كارد وفيزا كارد). 

وهنا، يثار التساؤل عن مدى فاعلية نظم الدفع الصينية والروسية في تجاوز بعض الصعوبات التقنية، والقدرة على خلق التكامل بين هذه النظم الثلاثة (الصينية والروسية والإيرانية)، ومعها الهند إلى حد ما، سواء ما يتعلق منها بتوازن أسعار صرف عملاتها الوطنية أو نظم التجارة بالعملات الوطنية، فهل سيمثل عنصر المنافسة بين هذه الدول عائقاً أمام التكامل أو أن طبيعة التحديات الوجودية - وما كشفته معركة أوكرانيا، وقبلها قرارات المقاطعة القاسية ضد إيران أو ضد الصين في عهد أوباما ودونالد ترامب - ستدفعهم دفعاً إلى التكامل الفوري والشامل؟ 

الإجابة قطعاً هي أنَّ الخيار الوحيد المتاح هو التكامل، ونحن نعتقد أن الخبراء والتقنيين في هذه الدول سيتمكنون خلال أقل من عام واحد من التغلّب على بعض المشكلات الفنية. 

خامساً: نأتي إلى إطار جديد وفعال للتعاون الاقتصادي الإقليمي، فقبل إفراط الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات على الدول، كانت الدول كافة تنشئ أطراً إقليمية للتعاون (الاقتصادي أو السياسي أو حتى العسكري) تحت مظلة النظام العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة والغرب، مثل: مجموعة العشرين، ورابطة الآسيان، ومجموعة أميركا الجنوبية واتحاد المغرب العربي، والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا)، ومجموعة (الإيغاد) وغيرها كثير، بيد أنّ تحولاً كبيراً نشأ بعد عام 2001، حين بدأ إنشاء تكتلات تعاون اقتصادي (إقليمية ودولية) خارج مظلة السيطرة الأميركية، وأبرزها على الإطلاق: مجموعة شنغهاي عام 2001، التي أصبحت تضم 35 دولة، ومجموعة البريكس التي انضمت إليها إيران أخيراً، فأصبحت تضم 6 دول محورية.

وقد أنشأت هذه التكتلات السياسية الجديدة مؤسستين ماليتين كبيرتين موازيتين لمؤسسات "بريتون وودز"، هما البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية عام 2014، برأسمال قدره 50 مليار دولار، ومقره شنغهاي بالصين، وبنك التنمية لمجموعة بريكس عام 2015، الذي يضم الدول الخمس المؤسسة، إضافة إلى دول أخرى، مثل بنغلاديش والإمارات والأوراغواي، وسوف تلحق بها إيران، وربما فنزويلا. 

ويجري التفكير في إنشاء صندوق للاحتياطيات النقدية العالمية بقيمة 100 مليار دولار، ليقوم بالدور الإيجابي لمعالجة الاختلالات التي قد تحدث في موازين مدفوعات بعض أعضائه أو التعثر في الاحتياطيات النقدية لبعض الدول، بديلاً من الدور السلبي الذي أدّاه صندوق النقد الدولي منذ إنشائه عام 1945 حتى يومنا. 

على أي حال، بدأت معركة تفكيك هذه الهيمنة الأميركية والغربية عموماً، ولن تتوقف حتى يعتدل ميزان العالم، وينشأ عالم جديد أكثر عدالةً وأكثر توازناً. أظن أنّ هذه العملية التاريخية لن تستغرق أكثر من 10 سنوات من الآن فصاعداً. 

 

الهوامش والمصادر

(1)  في تفاصيل ذلك، راجع الكتاب الخطر والمهم لمؤرخ الاستخبارات المركزية الأميركية:Joseph J. Trento,” Prelude To Terror.. The Rogue and the Legacy of America s Private Intelligence Network “, Carroll& Graf Publishers, New York, 2005 p.10. 

وكذلك: Bob Woodward , “ Veil: The Secret Wars Of The CIA , 1981-1987 “ , Simon & Schuster , LONDON , 1987. وانظر أيضاً كتاب عميلة الاستخبارات الخارجية البريطانية M.I.6 السابقة آني ماشون، والمعنون "M.I.6And Her Sisters" الذي أحدث ضجة واسعة في أوساط الاستخبارات العالمية عام 2015. انظر أيضاً: " تيم واينر" إرث من الرماد. تاريخ السي أي أيه "، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة أنطوان باسيل، وتحقيق فؤاد زعيتر، الطبعة الإنكليزية صدرت عام 2008، والطبعة العربية صدرت عام 2010، ص 518. 

The Society for Worldwide International Financial Telecommunication (SWIFT)