العقل الإيراني: كيف يرى المواجهة مع أميركا والكيان الصهيوني؟
يبدي العقل الإيراني وعياً قل نظيره بمدى خطورته، أي العامل الجغرافي، سواء بالنسبة إلى الداخل الإيراني أو في التعامل مع الخارج.
لا يمكن الإجابة عن التساؤل الذي يطرحه عنوان هذا المقال عبر الاكتفاء بالرصد المباشر للتحركات الإيرانية في مواجهة قوة عظمى تتزعم المركز الرأسمالي كأميركا، والكيان الصهيوني كممثل لها في المنطقة، فالواقع أن تجاهل عوامل الخصوصية الإيرانية ومدى تأثيرها في صناعة القرار في إيران يعني السقوط في فخ التبسيط والقراءة السطحية للعقل الإيراني وعدم القدرة على فهم الدوافع المحركة له.
وإذا كان العامل الاقتصادي يمثل دافعاً مؤثراً، بل والأكثر تأثيراً، بالنسبة إلى أنظمة الحكم، مهما كانت، في تبني توجهات وقرارات معينة، فثمة عامل آخر قد لا يقل أهمية، بل يفرض تأثيره أحياناً، وخصوصاً في هذه المواجهة التي تخوضها إيران ومحور المقاومة، وهو الجغرافيا.
وفي هذه النقطة، يبدي العقل الإيراني وعياً قل نظيره بمدى خطورته، أي العامل الجغرافي، سواء بالنسبة إلى الداخل الإيراني أو في التعامل مع الخارج.
من الضروري كي تتضح هذه المسألة أن نشير إلى حجم تأثير الجغرافيا الطبيعية والسكانية في القرار الإيراني؛ فإيران دولة تتسم أوضاعها الطبيعية والسكانية والثقافية ببعض الخصوصيات التي تجبرها على تبني عدد من السياسات والمواقف والأساليب في المواجهة.
جغرافياً، يتكون القسم الأكبر من إيران من هضبة تعرف باسم هضبة إيران، وتحيط بها سلاسل جبال شاهقة من كل جانب تقريباً، فتحدها من الشرق جبال سليمان، ومن الشمال سلسلة جبال البُرز، ومن الغرب جبال زاجروس التي تمتد من الشمال إلى الجنوب، ثم تعرج جنوباً وشرقاً لتصل إلى بحر عمان، وفي وسط الهضبة هناك مناطق صحراوية مثل صحراء كوير شمالاً وصحراء لوط جنوباً.
كان لهذا الوضع الجغرافي تأثيره في التاريخ الإيراني، فسلاسل جبال البُرز تفصل مناطق شمال إيران المطلة على بحر قزوين، مثل غلستان ومازنداران وجيلان، عن المركز في الهضبة، وهو ما ينطبق على خوزستان في الغرب والمناطق المطلة على بحر عمان، كتلك التي تفصلها عن الهضبة سلسلة جبال زاجروس، وسلاسل الجبال الجنوبية، كما تعزل صحراء كوير مناطق الشمال جنوب جبال البُرز، وتعزل صحراء لوط المناطق الشرقية، وبالتالي فقد ظلت مركزية الدولة في إيران ضعيفة طوال تاريخها، واعتمدت على نظام يشبه الحلف بين الأسر الحاكمة في هذه المناطق.
ثقافياً، أثرت هذه العوازل الجغرافية في الشعوب الإيرانية ووحدتها اللغوية، فبالرغم من كون اللغة الفارسية هي الرسمية، فإن المتحدثين بها لا يمثلون سوى نصف السكان فقط، فيما يتحدث النصف الآخر لغات أخرى، بعضها قريب إلى الفارسية، كالمازندرانية والديلمية والكردية، وبعضها من أسر لغوية مختلفة، كالعربية والآرامية المندائية والتركية بلهجاتها الثلاث.
من الناحية الدينية، يمثل الإسلام الدين الغالب على إيران بنسبة 98%، ويمثل المذهب الشيعي نسبة 90% من المسلمين، وهم من الشيعة الإمامية الاثني عشرية، لكن ثمة طوائف شيعية أخرى موجودة يمكنها أن ترفع نسبة الشيعة، كالشيعة العلويين والشيعة الإسماعيليين.
ومن هنا، يمكن توضيح السبب في هذا النفوذ الكبير للمرجعية الدينية، فالإسلام والمذهب الشيعي هما ما يجمعان الشعب الإيراني بشكل فعلي، وهما عنصرا القوة الأساسي لضمان وحدة أراضي الدولة. ومن غير المتوقع أن ينسحب هذان العنصران من الحياة السياسية، مهما كان شكل الحكم فيها، إسلامياً أو علمانياً.
وباستثناء أذربيجان وأرمينيا في الشمال الغربي، والعراق في الغرب، فإن إيران محاطة بدول تتبنى المذهب السني، وبالتالي لا يمكن لها تبني سياسة قومية فارسية في الداخل أو في التعامل مع الخارج. ولنلاحظ أن هذه السياسة القومية الفارسية كانت من أهم أسباب سقوط الشاه وتعاطف الجماهير الإيرانية مع ثورة إسلامية يقودها عالم دين شيعي.
لقد تركت الأوضاع سالفة الذكر تأثيرها في العقل الإيراني في التعامل السياسي مع الخارج. وبالنسبة إلى السياسيين الإيرانيين الذين اعتادوا التعلم من التاريخ وقراءة الأوضاع بواقعية، فقد أدركوا حقيقة أن الأوضاع الجغرافية والتنوع العرقي السكاني لبلادهم يمثل نقطتي ضعف في المواجهات المباشرة مع القوى الكبرى.
تاريخياً، لم يحقق الإيرانيون انتصاراً في المواجهات الحاسمة مع القوى الكبرى المحيطة بهم منذ عهد نادر شاه. في المقابل، لم تتمكن أي قوة، مهما كانت، من التوغل كثيراً في هذه البلاد (باستثناء العرب المسلمين)، حتى سليم الأول العثماني، بالرغم من انتصاره الكبير على الجيش الصفوي في موقعة جالديران واستيلائه على العاصمة تبريز، لم يتمكن من التوغل في البلاد الإيرانية نتيجة عمليات الاستنزاف المكثفة التي قام بها الإيرانيون ضد جيوشه وغاراتهم المتتالية لخطف الجنود الأتراك.
وعلى الجانب السياسي، أدرك الإيرانيون منذ انتصار الثورة الإسلامية خطورة الممارسات الأميركية والصهيونية في المنطقة على وحدة أراضيهم، وخصوصاً مع الدعم الذي تتلقاه الحركات الانفصالية العرقية من الأميركيين والصهاينة.
وإزاء القوة العسكرية الهائلة التي يمتلكها الخصم، يلجأ الإيرانيون بمهارة إلى استخدام ورقتي قوة، هما: أولاً تناقض المصالح بين القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى، وثانياً استنزاف الخصم القوي بصبر وطول أناة حتى استسلامه وانسحابه من المنطقة.
الورقة الأولى وضع قواعدها السياسي الإيراني الشهير أحمد قوام السلطنة (توفي سنة 1955)، الذي تمكن من استغلال هذا التناقض عام 1946 للقضاء على جمهورية أذربيجان الشعبية التي نشأت في الجزء الإيراني من أذربيجان بقيادة جعفر بيشيفاري، وبدعم من الجيش السوفياتي في نوفمبر عام 1946.
تمكّن قوام السلطنة من استغلال الصراع بين الأميركيين والسوفيات، وحصل على دعم أميركي كبير. في المقابل، استطاع إقناع السوفيات بالتخلي عن الدولة الوليدة مقابل امتيازات لاستخراج النفط والغاز في أأذربيجان. وعقب تمكّن الجيش الإيراني من إسقاط الدولة، انعقد البرلمان الإيراني ورفض أعضاؤه، بتحريض من قوام السلطنة، بنود الاتفاقية مع الاتحاد السوفياتي.
وبالرغم من أن أحمد قوام السلطنة يعد من الشخصيات البغيضة في التاريخ الإيراني، وخصوصاً بالنسبة إلى الإسلاميين والماركسيين، فإن القواعد التي وضعها بهذا الشأن استمرت، وأتقنها السياسيون الإيرانيون بشكل جيد.
أما الورقة الثانية، فقد فرضتها الخبرات التاريخية للإيرانيين التي تؤكد ضرورة عدم الانجرار إلى معارك مباشرة غير متكافئة من ناحية القوة، واللجوء إلى أسلوب المعارك غير التقليدية، بحيث يصبح وجود العدو الأميركي في المنطقة، وكذلك الكيان الصهيوني، مكلفاً جداً، بما يتجاوز حجم المكاسب المتوقعة من هذا البقاء.
يطلق البعض على الأسلوب الإيراني في التعامل مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني مسمى "الضفدع المغلي". وكما يحكى، فهذا الاسم مأخوذ من أسطورة قديمة تذكر أن أحد العلماء كُلف بمهمة تعليم أمير وتنشئته ليكون صالحاً لخلافة والده الملك، وطلب منه أن يضع ضفدعاً في إناء ماء ملغي.
لكن تنفيذ هذا الطلب كان صعباً، فما إن وضع الأمير الضفدع في الإناء حتى قفز هارباً. عندما اعترف الأمير لمعلمه بعجزه عن تنفيذ طلبه، قام المعلم بتنفيذ التجربة أمام الأمير، لكن بطريقة أخرى، إذ وضع الضفدع في إناء ماء بارد، ووضع تحت الإناء قطعة صغيرة من الخطب المشتعل. وببطء شديد، كان المعلم يزيد من كمية الحطب تدريجياً، فيما يستمتع الضفدع بالماء الدافئ حتى استرخت كل عضلاته. وعندما وصل الماء إلى درجة الغليان، كان الضفدع قد استسلم تماماً حتى فارق الحياة.
إن اللجوء إلى هذا الأسلوب الاستنزافي المتدرج لقوى العدو حتى استسلامه وموته، أجبر كلاً من إيران وحلفائها على عدم النظر وراء ظهورهم في هذا الطريق المكلف، فالقاعدة الأهم التي يفرضها هذا الأسلوب هي التركيز على تحقيق الهدف والإنجاز النهائي والتحلي بأقصى درجات الصبر وضبط النفس، ولا قيمة هنا لأي انفعالات أو ممارسات انتقامية ساذجة تؤدي إلى تورطهم في استنزاف عكسي لقواهم وتبطئ مسيرتهم.
وبالتالي، ورغم عمليات الاغتيالات التي تعرض لها محور المقاومة في الفترة الأخيرة، فإن فكرة اللجوء إلى رد انتقامي يبرز حجم ما وصل إليه التطور والقوة الإيرانية مستبعد تماماً. من المؤكد أنَّ هناك رداً إيرانياً، لكنه لن يتجاوز الحجم المحدد بما لا يسمح لكل من أميركا والغرب الأوروبي باستدعاء جيوشهم إلى الشرق العربي بذريعة حماية الكيان الصهيوني، وينقذ بنيامين نتنياهو وكيانه من أزمتهما الداخلية والخارجية، وخصوصاً مع التعاطف الجماهيري الغربي في الفترة الأخيرة مع القضية الفلسطينية. الرد الإيراني في الواقع لن يتجاوز قواعد نظرية "الضفدع المغلي" التي يجيد الإيرانيون تنفيذها بكل مهارة.
وفقاً لما سبق، من المؤكد أن خطط إيران ومحور المقاومة تسير بخطوات ثابتة نحو الهدف، بغض النظر عن أي خسائر قد يتعرض لها، فالنار التي بدأ إشعالها من لبنان تطورت تدريجياً لتشمل كذلك فلسطين وسوريا والعراق واليمن، وحتى أفغانستان، وقدرات المقاومين التي بدت بسيطة في البداية، أصبح بإمكانها الآن شل الحياة في الكيان الصهيوني وشل مسارات التجارة في البحر الأحمر، بل والتمكن من نقل المعركة إلى داخل عمق الكيان الصهيوني ذاته، بما يعني إسقاط نظرية الأمن الصهيوني التقليدية التي يعد نقل المعركة إلى أرض العدو وعدم السماح بإطالة أمد المعركة أحد أهم عناصرها.
في المقابل، تمكنت إيران، وعبر ورقتيها السياسيتين سالفتي الذكر، إضافة إلى دعم محور المقاومة، من شل قدرة الكيان الصهيوني والأميركيين على استخدام كل طاقتهم العسكرية في هذه المواجهة، وإعطاب عقيدة بيجن الشهيرة في توجيه الضربات الاستباقية إلى أي قوة قد تمثل تهديداً مباشراً لكيانه، بما يعني أنهما (أميركا والكيان الصهيوني) أصبحتا غير قادرتين الآن على القفز من إناء الماء المغلي.