الأطروحة القاتلة: "يهود اليوم ليسوا ساميين أصلاً"
الطرف المتهم بمعاداة السامية وهم "الفلسطينيون والعرب" هو الطرف "السامي"، ليس ضمن الرواية التوراتية وإنما ضمن مفهوم الجغرافيا، فأغلب الدراسات التي قالت إن أصول يهود اليوم غير سامية، قالت إن هذه العينات الجينية الفلسطينية تسكن هنا منذ آلاف السنين!
مؤخراً، أرسل الرئيس المؤقت لجامعة "هارفرد"، ألان غاربر، رسالة معممة لتشكيل فرق عمل داخلية لمحاربة "معاداة السامية" داخل الجامعة. وعلى الرغم من أنه أرسل توجيهاته لتشكيل فرق لمكافحة "الإسلاموفوبيا والتحيز ضد العرب" أيضاً، فإن هناك انتقادات متعلقة بالأشخاص الذين أوكل إليهم غاربر المهمة في كلتا اللجنتين، وأن هنالك تحيّزاً مبطّناً لترجيح كفة فريق العمل الأول (مكافحة معاداة السامية).
في كل الأحوال؛ ليست "هارفرد" وحدها التي دخلت معمعان الجدل النظري والإعلامي بشأن هذا الشعار "معاداة السامية"، فقد بات هذا الشعار سيفاً مسلطاً على رقاب الأكاديميين في عدد كبير من جامعات العالم، تماماً كما هي الحال مع المقص الرقيب لمنشورات المستخدمين والمؤثرين في منصات التواصل الاجتماعي، وتماماً كما هي الحال في برامج المنظمات "غير الحكومية" في العالم.
بعد "طوفان الأقصى"، قالت المنظمات اليهودية الأميركية إن خطاب معاداة السامية ارتفع 400%، والتقت بعدها هذه المنظمات ممثلين عن الحكومة الأميركية لمواجهة ما عدّه البيت الأبيض ناقوس خطر من تحركات معادية للسامية في حرم الجامعات.
كندا شددت في لغتها "المدافعة عن السامية" موقفها ضد الخطاب الذي يجتاح الإنترنت، ولحقت ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وهولندا وغيرها بالركب بطبيعة الحال.
طيف كوستلر: هل نعادي شبحاً؟
ما يقارب نصف قرن مرّ على كتاب الصحافي اليهودي، آرثر كوستلر، الذي كان متحمساً في شبابه للفكرة الصهيونية، متوجهاً إلى حيفا بائعاً للعصير فيها.
"القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم"، هذا هو الاسم الذي اختاره كوستلر الكهل لكتابه، مفترضاً فيه أن اليهود المعاصرين لا علاقة لهم بالأسباط الاثني عشر من نسل يعقوب، وأنهم لم يجيئوا من فلسطين وإنما من قبيلة الخزر التي انتشرت ذريتها في بولندا والمجر وروسيا، بعد تفكك مملكتهم ابتداء من القرن العاشر الميلادي.
يقول كوستلر في كتابه إن الخزر اختاروا أن يكونوا يهوداً، وكان هذا الاختيار بدافع سياسي محض. فالقبائل التركية الوثنية الشامانية التي تشكل منها الخزر في القوقاز، كانت تقع بين قطبين كبيرين، دولة الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية.
اعتقد الخاقان الخزري أن اعتناق اليهودية هو الأنسب للوقوف على الحياد، وعدم التعرض لاستقطابات أي من الطرفين. عملت مملكة الخزر كمنطقة وسيطة وعازلة (buffer state) بين الخلافة الإسلامية وبيزنطة، ولاحقاً بين بيزنطة والفايكينغ. اعتقد الخزر أن اعتناق اليهودية هو الأسلم سياسياً، والذي يؤهلهم للعب أدوار "غير منحازة" بالكامل لأي من الطرفين، ويمكنهم من إجراء تحولات في اصطفافهم استناداً إلى موازين القوى، من دون الارتهان للعامل الديني.
بعد الرجوع إلى عدد كبير من كتب الرحالة والمراجع العربية والروسية والعبرية والآسيوية والخزرية والبيزنطية، اجترح كوستلر عدداً من الحجج لإثبات فرضيته:
1. شواهد قبور في القرم كتب عليها بلغة عبرية غير سامية.
2. عملات فضة بولندية يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر بنقوش عبرية.
3. بعد تفكك مملكة الخزر، وثائق بيزنطية تعرض لوجود جنود يهود في جيش المجر، مما عدّ جزءاً من حالة "شتات الخزر في بلاد المجر".
4. شواهد على تأسيس مستوطنات خزرية في أوكرانيا وجنوب روسيا، ومجتمع يهودي واسع في كييف. ومن ذلك أسماء أماكن قديمة من أصل خزري.
5. عام 962م ألفت مجموعة قبائل سلافية حلفاً تحت قيادة قبيلة البولان، التي أصبحت نواة الدولة البولندية. إن بزوغ نجم الدولة البولندية بالتزامن مع انهيار مملكة الخزر أو بدء سقوطها سمح بفرصة انتقال يهود الخزر إلى بولندا، والعمل في مناصب رفيعة في دار سك النقود، والدخل الملكي، وجباية الضرائب، والصيرفة، وتجارة الخشب.
وتدلل المعابد الفخمة في بولندا على وضعية اليهود القوية في الدولة. تتفق الوثائق المجرية مع هذا المسار أيضاً، لتؤكد هجرات يهودية من الخزر باتجاه المجر، وتولي مناصب رفيعة فيها أيضاً.
6. انتشار مجموعة من المهن في بولندا؛ لم تكن لتظهر إلا من بلاد الخزر، مثلاً صناعة العربات القوية التي تقودها الخيل، لا يمكن أن تنشأ في ذلك الوقت إلا من خلال المجتمعات البدوية، التي تسكن السهوب. حتى إن اللفظ العبري حسب كوستلر لكلمة "سائق العربة"، Baal Agalah، قد أدمج لاحقاً باللغة الروسية، "بلاجولا".
7. التشابه في اللباس بين اليهود البولنديين، وما كان عليه الخزر؛ حتى إن الطاقية الضيقة التي يرتديها اليهود المتشددون تتشابه مع ما ترتديه شعوب تركية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
8. بعودته إلى الكتب التاريخية الغربية، يستنتج كوستلر أن أعداد اليهود القليلة نسبياً في جغرافيا فرنسا وألمانيا وبريطانيا في القرن العاشر، لا يمكن أن تكون أساس اليهود المعاصرين. ويستند إلى مقارنات لسانية ولغوية، ليقول إن يهود اليوم في أغلبهم ليسوا من أصل "فرانكو – رايني" ( رايني نسبة إلى نهر الراين).
كل هذه الدلائل قادت كوستلر إلى نتيجة مفادها، أن اليهود العصريين بأغلبيتهم تعود أصولهم إلى القوقاز، وأن التيار الأساسي للهجرات بدأ من القوقاز (وليس البحر المتوسط) وصولاً إلى الغرب نحو بولندا ولتوانيا والمجر وأواسط أوروبا.
هل ينهي علم الجينات شرعية الشعار؟
لم يكن علم الجينات في جيل كوستلر على الدرجة من التطور التي وصل إليها اليوم، وكان اعتماد علم الأجناس البشرية يستند إلى مدى التشابه في تصميم الجمجمة، فصيلة الدم، القامة، الوزن، لون البشرة، الدليل الوجهي، إلخ..).
كل تلك المؤشرات أوصلت كوستلر ليقول "ليس هنالك جنس يهودي"، وأن التشابه بين اليهود والمجتمعات التي استضافتهم أكبر بكثير من أي تشابه جيني بين يهود العالم. يقول كوستلر "لا شبه بين يهودي نوتردام الضخم الضارب إلى الحمرة ويهودي سالونيك بجسمه الهزيل ووجهه الشاحب".
دراسات الجينوم الحديثة، والتي تقوم بإجراء فحص DNA ليهود العالم، لم تبتعد في نتائجها عن استنتاجات الصحافي كوستلر، وعدد كبير من هذه الدراسات يقول أكثر من 97% من يهود العالم من أصول "غير سامية". تجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسات تحاصر، ويطارد كتابها، وكثيراً ما تشطب من الإنترنت بعد نشرها بفترة قصيرة.
ينطوي شعار "معاداة السامية" على سوريالية سوداء مؤلمة؛ فالغرب "غير السامي" يدافع عن "السامية"، والطرف الذي انبرى العالم للدفاع عنه وهو "يهود العالم"، أثبتت الجينات بعد كوستلر "أصوله غير السامية" في أغلبها.
الطرف المتهم بمعاداة السامية وهم "الفلسطينيون والعرب" هو الطرف "السامي"، ليس ضمن الرواية التوراتية وإنما ضمن مفهوم الجغرافيا، فأغلب الدراسات التي قالت إن أصول يهود اليوم غير سامية، قالت إن هذه العينات الجينية الفلسطينية تسكن هنا منذ آلاف السنين!