أبعاد الأزمة في العلاقات المصرية السعودية... من ساعد من؟ (1-3)
بلغ الخطاب السعودي غير الرسمي حد التطاول على مصر، ونعتها بالدولة الفاشلة من ناحية، والدولة المتسولة من ناحية أخرى.
برزت في الأسابيع القليلة الماضية، مرة أخرى، حالة من حالات تجدد الصراع الخفي - في المشاعر وفي الخطابين السياسي والإعلامي - بين المملكة السعودية والمتحدثين باسمها في الصحافة ووسائل الإعلام السعودية والعربية والدولية، وبين وسائل الإعلام المصرية المرتبطة بالنظام والحكم بشأن طبيعة العلاقات بين الدولتين، وحجم الدعم والمساعدات التي قدمتها "المملكة" إلى مصر.
وبلغ الخطاب السعودي غير الرسمي حد التطاول على مصر، ونعتها بالدولة الفاشلة من ناحية، والدولة المتسولة من ناحية أخرى.
والحقيقة أن العلاقات الاقتصادية والسياسية بين مصر وشبه الجزيرة العربية مرت في مراحل متعددة ومتباينة، اختلطت فيها مشاعر الشوق والوجد الدينيَّين لدى المصريين تجاه الأماكن المقدسة الإسلامية بمقتضيات المصالح والحسابات والتأثيرات للأطراف الدولية المتعدد، وانعكست وتيرة العلاقات السياسية – دفئاً وبرودة – على سير العلاقات الاقتصادية والتجارية وفق الوتيرة نفسها وفي الاتجاه ذاته. ويستطيع الدارس والمراقب لهذه العلاقات وتطورها أن يرصد ستّ مراحل مميزة لهذه العلاقات، هي:
المرحلة الأولى:
تبدأ منذ فجر التاريخ ونشوء الدولة الفرعونية وأُسرها المتعددة (منذ عهد مينا موحد القطرين) حتى بروز الدعوة المحمدية. وخلال هذه المرحلة كانت شبه الجزيرة العربية ممراً للجيوش المصرية العابرة شرقاً: إمّا لمواجهة الحملات العدائية القادمة من الشرق، وإمّا كممر للحملات المصرية المتجهة إلى الشرق.
المرحلة الثانية:
وهي الفترة التي بدأت بالفتح الإسلامي لمصر عام 641 م، الموافق21هـ، واستمرت التبعية المصرية للخلافة في عهد الخلفاء الثلاثة (عمر – عثمان – علي)، ولمراكز الحكم والخلافة في المدينة المنورة حتى انتقلت التبعية إلى مركز الخلافة الأموي في دمشق (662 م – 750 م) الموافق (41 هـ – 132 هـ)، ومن بعده إلى مركز الخلافة العباسي في بغداد (750 م – 1258 م) الموافق (132 هـ – 656 هـ)، وانتهت بسقوط الخلافة العباسية تحت سنابك الجيوش التتارية وجحافلها.
المرحلة الثالثة:
هي المرحلة التي تبدأ بدولة المماليك البحرية المستقلة في مصر (الأميرين قطز والظاهر بيبرس). وامتد حكم الدولة المملوكية حتى سقوطها تحت سنابك خيول العثمانيين وجنودهم في موقعة "مرج دابق" عام 1516م (648 هـ - 792 هـ).
المرحلة الرابعة:
بسقوط دولة المماليك في مصر تحولت هي والأراضي الحجازية إلى أمصار ومقاطعات في دولة الخلافة العثمانية في الآستانة. واستمرت هذه الحال حتى بروز الدور المستقل نسبياً لمصر عن اتجاهات السياسة العثمانية في عهد محمد علي باشا وأبنائه وأحفاده من بعده (1805م- 1952م)، وانتهت بسقوط حكم أسرة محمد علي وقيام النظام العسكري في مصر.
المرحلة الخامسة:
مرحلة الصدام المكشوف بين مصر الثورية الناصرية (1952م- 1970م) والنظام القبلي العشائري الجديد في المملكة السعودية، باستثناء أعوام قليلة (1953م- 1957م) و(1967م – 1970م).
المرحلة السادسة:
هي مرحلة التوجيه والسيطرة السعوديَّين على السياسة المصرية، وبروز دور حقبة النفط وهيمنة المشروع الأميركي في المنطقة (1974م – 2022م) وازداد عمق هذه المرحلة منذ تولي الجنرال عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر في حزيران/يونيو 2014م، حتى لحظة كتابة هذه السطور. وخلالها سيطرت دولتا الإمارات والسعودية تماما على السياسة المصرية، داخلياً وخارجياً.
والحقيقة أنه طوال هذه الحقبة التاريخية الطويلة لم يكن هناك ما يمكن أن يطلق عليه علاقات اقتصادية بين مصر وهذه المنطقة الحجازية سوى في المراحل الثلاث الأخيرة، أي من عام 1952م حتى عام 2022م. أمّا قبلها فإمّا كانت مصر تُخضع هذه المناطق لنفوذها، وإمّا، على العكس، كانت مصر تحولت إلى ولاية من ولايات الدولة الإسلامية الكبرى في مراكزها الأربعة المتناوبة (المدينة – دمشق – بغداد – إسطنبول)، تؤدي ما عليها من مكوس وضرائب لخزينة الخلافة الإسلامية، باستثناء تلك الفترة المحدودة من حكم الفاطميين لمصر (909م – 1171م)، والذين استقلوا بها عن مركز الخلافة العباسية في بغداد.
لذا، فإن بحثنا سوف يركز على المراحل الثلاث الأخيرة، وخصوصاً بعد نجاح قبيلة آل سعود في إخضاع سائر قبائل الأراضي الحجازية وأقاليمها لسيطرتها، وإعلان قيام المملكة العربية السعودية عام 1933م.
أولاً: مرحلة العلاقات المشحونة بالتوجس (1933م - 1970)
حُمِّلت العلاقات المصرية السعودية، في هذه المرحلة، بإرث ما جرى في العقود السابقة، وأضيف إليها حمل العقيدة الوهابية المتشددة، والتي نظرت إلى غيرها نظرة شك وارتياب، وأحياناً كثيرة نظرة تحريم وخروج على صحيح الدين.
وخلال الفترة الأولى من هذه المرحلة (1933م - 1953) ظلت العلاقات الاقتصادية بين البلدين محصورة في مجالات صغيرة، هي قوافل "الحجيج" و"المعتمرين" المصريين إلى الأراضي المقدسة، والمبادلات التجارية المحدودة، ثم أخيراً بعض المعلمين والمهنيين العاملين في المملكة والمقيمين بها بصورة شبه دائمة (1).
وسبق وقدرنا حجم هذه المعاملات الاقتصادية بين البلدين في صورها الثلاث في حدود 25 مليون جنيه إسترليني إلى 30 مليون جنيه إسترليني سنوياً، بينما بلغ دخل المملكة السعودية من الضرائب ورسوم "الحج" على الحجاج المصريين وحدهم عام 1938م نحو 5 ملايين جنيه مصري (ما يعادل 17 مليون دولار وقتئذ)، وزاد بعد ذلك ليقارب نحو 30 مليون دولار بحلول عام 1953(2).
التطور الإيجابي الوحيد الذي شهدته هذه العلاقات تمّ خلال أربعة أعوام من التآلف المصري السعودي في عهد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود والنظام الثوري الجديد في مصر (1953م- 1957م)، فزادت فيها فرص التعاون الاقتصادي بين البلدين كانعكاس لحالة التآلف السياسي بينهما. وتمثَّل ذلك بالآتي:
1- زيادة أعداد المدرّسين والمهنيين المصريين المعارين للمملكة، وكانت الحكومة المصرية تتحمل مرتباتهم، بينما تمنحهم الحكومة السعودية أجوراً إضافية لقاء خدماتهم.
2- زيادة حجم الإيداعات المصرفية للمملكة لدى البنك المركزي المصري (البنك الأهلي)، وإن ظلت متواضعة بحكم سيطرة المؤسسات المالية والشركات الأجنبية على معظم إيرادات المملكة.
3- استمرار تدفق قوافل الحجاج المصريين إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المنورة.
مع وفاة الملك عبد العزيز آل سعود، وبداية التورط السعودي في مواقف عدائية ضد الوحدة المصرية السورية عام 1958، تعرضت العلاقات السياسية والاقتصادية لانتكاسة، وتوقف أي تطور إيجابي بينهما لأعوام طويلة، وزاد الأمرَ سوءاً ما جرى في اليمن من "انقلاب ثوري" في أيلول/سبتمبر 1962م، بحيث أطاح حكمَ الإمامة الملكية البغيضة في ذلك البلد، وطلب التدخل المصري العسكري لحماية النظام الجمهوري الوليد من التدخلات القبلية المدعومة من المملكة السعودية، الأمر الذي أدخل العلاقات بينهما مرحلةَ المواجهة شبه المباشرة.
على الرغم من ذلك، فإن عدد المدرّسين والمهنيين المصريين استمروا في العمل لدى المملكة، بحيث بلغ عدد المصريين العاملين فيها عام 1965م نحو 55 ألفاً، وفي الكويت 12 ألفا، وتوزع الآخرون بين الجزائر وليبيا ولبنان، بحيث بلغ عدد المصريين العاملين في الدول العربية ذلك العام نحو 100 ألف شخص (3).
تجمّدت أوجه التعاون الاقتصادي بين البلدين تقريباً طوال الفترة الممتدة من عام 1958م حتى عام 1967م، حينما وقع العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، وحدثت الهزيمة العسكرية للجيوش العربية الثلاثة. وبقدر ثقل الهزيمة العسكرية على المشاعر العربية كانت المغالاة في رد الفعل الشعبي في طول المنطقة العربية، من سواحل المغرب غرباً حتى سواحل البحرين شرقاً، فطرحت الجزائر شعار "البترول في المعركة"، والتفّ حول مطلبها هذا مجموعة من الدول العربية، طالبت بوقف ضخ النفط العربي في الدول الغربية المؤيدة لـ"إسرائيل"، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
في ظل هذه الأجواء المشحونة، انعقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في آب/أغسطس 1967م، منقسماً بين تيارين: أحدهما يطالب بوقف ضخ البترول العربي فوراً، وثانيهما يطالب باستمرار الضخ من أجل تعويض البلاد العربية من بعض خسائرها الاقتصادية من جراء الحرب وتمويل العمل العسكري العربي استعداداً لمعركة جديدة بين العرب و"إسرائيل". وفي الجلسات السرية تقدَّم الملك فيصل بمشروع خليجي للتمويل والدعم المالي، يتّمثل بـ(4):
- تقدّم دول الخليج العربية (أساساً السعودية والكويت وأبو ظبي) وليبيا نحو 120 مليون جنيه إسترليني سنوياً (ما يعادل 360 مليون دولار حينها) إلى الدول العربية الثلاث ( مصر – سوريا – الأردن)، يكون نصيب السعودية منها نحو 50 مليون جنيه إسترليني (150 مليون دولار)، والباقي يوزع على الكويت وأبو ظبي وسائر الدول العربية النفطية.
على رغم حساسية السياسة المصرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر من مثل هذا النوع من التمويل والدعم، فإن الموقف الحرج دفع القيادة المصرية إلى قبول العرض، بيد أنه مع تولي الرئيس أنور السادات الحكم في مصر، فإن اتجاهه الواضح نحو التقارب مع الولايات المتحدة والمملكة السعودية عزّز فرص التعاون بين البلدين، مالياً واقتصادياً، وقدّر بعض الخبراء والدارسين حجم المساعدات السعودية لمصر خلال الفترة من تشرين الثاني/نوفمبر 1967م حتى تشرين الأول/أكتوبر 1973م بنحو 1.7 مليار دولار(5)، تراوحت بين:
▪ منح غير مسترَدة.
▪ قروض.
▪ إيداعات مصرفية في البنوك المصرية والبنك المركزي المصري.
وإذا أضفنا إليها مساعدات سائر الدول العربية النفطية، مثل ليبيا* والجزائر والكويت والإمارات وسلطنة عُمان، فإن المبلغ قارب 6 مليارات دولار، وفي الوقت نفسه لم تكن التحويلات المالية للعاملين المصريين في المملكة السعودية وسائر دول النفط العربية من الضخامة بحيث يمكن اعتبارها عنصراً أساسياً في الاقتصاد المصري، على عكس ما حدث بعد عام 1973م.
غيّرت نتائج حرب أكتوبر عام 1973م ملامح المنطقة كلها، بل علاقات القوى الاقتصادية الدولية. وكان من أوائل المستفيدين منها المملكة السعودية وسائر إمارات ومشيخات الخليج والدول النفطية عموماً. ويكفي أن نشير إلى أن سعر برميل البترول زاد من أقل من 3.5 دولارات في تشرين الأول/أكتوبر 1973م فبلغ 33.7 دولاراً عام 1981 (6)، وترتّب على ذلك أن زادت إيرادات هذه الدول النفطية بصورة هائلة، فتراكمت لديها فوائض وثروات كبيرة لم تكن ترد في ذهنها في أفضل أحلامها ويقظتها (7).
فالسعودية قفزت إيراداتها من النفط من 6.1 مليارات دولار عام 1973 إلى 22.6 مليار دولار عام 1974، ثم إلى 33.5 مليار دولار عام 1976، حتى بلغ 54.2 مليار دولار عام 1979. وهذا ما حدث لسائر الدول العربية النفطية. كما استفادت ليبيا بعد تغيير النظام السياسي فيها في الأول من أيلول/سبتمبر 1969م من إغلاق قناة السويس، ومارست الضغط على شركات البترول العاملة لديها لتحسين سعر بيع نفطها الخام. وبعد مفاوضات شاقة تجلت في زيادة سعر برميلها من 2.21 دولار إلى 3.1 دولارات. ونتيجة هذا زاد دخل ليبيا من 2.3 مليار دولار عام 1973 إلى أن بلغ 14.9 مليار دولار عام 1979، وهكذا بالنسبة إلى المشيخات الخليجية (الإمارات من 900 مليون دولار إلى 6.7 مليارات دولار، والكويت من 1.9 مليار دولار إلى 13.3 مليار دولار، والعراق من 1.9 مليار دولار إلى 19.9 مليار دولار، والجزائر من 900 مليون دولار إلى 7.4 مليارات دولار، خلال الفترة نفسها)(8).
فإذا كانت تقديرات المشير عبد الحليم أبو غزالة – القائد العام للقوات المسلحة المصرية عام 1981م – تشير إلى أن المساعدات الاقتصادية والعسكرية العربية لمصر خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر 1973م حتى تشرين الثاني/نوفمبر 1977م (تاريخ زيارة السادات للقدس المحتلة) بلغت 18 مليار دولار (9)، فإن الأستاذ محمد حسنين هيكل يؤكد في كتابه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" أنها تتراوح بين 16 مليار دولار و21 مليار دولار (10).
إذاً، إن ما قدّمته المملكة السعودية إلى مصر وسائر دول المواجهة (مصر – سوريا – فلسطين) خلال الفترة من تشرين الثاني/نوفمبر 1967م حتى تشرين الأول/أكتوبر 1973م، والمقدَّر بنحو 3.6 مليارات دولار، عادت وحصلت على ستة أضعافه في عام واحد (1974م) من جراء الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة في تشرين الأول/أكتوبر 1973م، والتي راح ضحيتها أكثر من اثني عشر ألف ضابط وجندي مصري، ونحو خمسة آلاف ضابط وجندي سوري، بالإضافة إلى مئات الشهداء من الفلسطينيين. وهنا نتساءل: من ساعد من؟
***************
هوامش ومصادر
(1) للتعرّف أكثر إلى طبيعة العلاقات المصرية في منطقة الحجاز، انظر الكتاب المهم لأمين سامي باشا "تقويم النيل"، القاهرة، طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2009، وخصوصاً الجزء الثالث والجزء الرابع.
(2) لمزيد من التفاصيل بشأن هذا يمكن الرجوع إلى كتابنا "اقتصاديات الحج والعمرة.. كم ينفق المصريون"، القاهرة، مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، 2012.
(3) د. محمود عبد الفضيل "النفط والوحدة العربية.. تأثير النفط على مستقبل الوحدة العربية والعلاقات الاقتصادية العربية"، بيروت، دار المستقبل العربي، الطبعة الرابعة، 1982، ص 27.
(4) في تفاصيل هذه الأجواء انظر: محمد حسنين هيكل، "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة"، القاهرة، مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1993.
(5) انظر محمد حسنين هيكل، "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة"، مرجع سابق.
(6) عبد الخالق فاروق، "النفط والأموال العربية في الخارج"، القاهرة، دار المحروسة، عام 2002م.
(7) غازي جرادة، مجلة شؤون عربية، العدد الثالث، تونس، أيار/مايو، 1981م.
(8) عبد الخالق فاروق "النفط والأموال العربية في الخارج"، القاهرة، دار المحروسة، عام 2002م.
(9) حديث للمشير عبد الحليم أبو غزالة – وزير الدفاع المصري – للتلفزيون المصري في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1989.
(10) محمد حسنين هيكل، "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.. عواصف الحرب وعواصف السلام"، الكتاب الثاني، القاهرة، دار الشروق، 1996، ص 316. وعاد الأستاذ هيكل ليؤكد الأرقام ذاتها في حديثه عبر قناة دريم المصرية بتاريخ 4/10/2002، والمعاد بثه بتاريخ 18/3/2003.