"طوفان الأقصى" وجبهة لبنان.. سؤال هل وسؤال متى (7)
التقديرات الإسرائيلية بحتمية الحرب على لبنان بلغت مستوى الجزم بأنها لم تعد تتعلق بسؤال "هل"، بل بـ"متى"، لكن القضية ما زالت مفتوحة.
منذ بدء المواجهات، تدرّجت التهديدات الإسرائيلية تجاه لبنان وحزب الله وتأرجحت في حدّتها ومدى حتميتها. في 23 كانون الثاني/يناير، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن "إسرائيل" قريبة أكثر من أي وقت من عمل عسكري واسع في لبنان، وأنهم "في المنظومة الإسرائيلية يدركون أن الأمر لا مفر منه"، مشيرة إلى أنه من دون عنصر القوة لن يتحرّك حزب الله من جنوبي لبنان.
في حدود هذا التاريخ، نشر رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست تسفي هاوزر مقالاً في صحيفة "إسرائيل اليوم" يذكر فيه ضمناً "أن إزالة التهديد في الشمال ليست مسألة هل، بل مسألة متى"، ويقول: "حذارِ أن نخطئ، فإن انسحاب قوات الرضوان إلى خلف الليطاني لا يزيل هذا التهديد".
خلاصة وجهة نظره واضحة: "إذا أدّى وحل الأنفاق الغزي والضغط الأميركي ومسألة المخطوفين بالقيادة إلى الاعتراف بأنه لا توجد قدرة على عرض نصر جليّ يؤدي إلى تغيير استراتيجي في المنطقة، فعليهم النظر في إمكانية الانتقال إلى جبهة أخرى وترميم الردع الإسرائيلي عبر إزالة التهديد الاستراتيجي في لبنان".
خلال أسابيع
وجهة نظر هاوزر ليست مقطوعة الصلة في الساحة السياسية الإسرائيلية. ينضم رأيه إلى حشد من الآراء المشابهة. خلال الفترة نفسها من أواخر كانون الثاني/يناير المنصرم، رأى قائد سلاح البحر سابقاً أليعزر ماروم تشايني أنه لن يكون هناك مفر من مواجهة مقابل حزب الله بقوة معينة، مع إشارة: "هو أمر نطمح ألا يحدث، ولكن..".
رئيس الكنيست أمير أوحانا أوضح قبل ذلك في السادس من شباط/فبراير الماضي أن أي إسرائيلي لن يوافق على العودة إلى واقع قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا في النقب الغربي ولا عند الحدود الشمالية.
رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دخل على خط التهديدات في وقت مبكر. بعد أقل من 3 أسابيع على "طوفان الأقصى"، حذّر حزب الله من أنه "سيرتكب أكبر خطأ في حياته" إذا ما قرّر الدخول في حرب ضد كيانه. انخرط حزب الله أكثر في الحرب، فيما مضى أكثر من 4 أشهر على قول نتنياهو: "سنضربه بقوة لا يمكن تخيلها، وسيكون أثرها في الدولة اللبنانية مدمراً".
في هذا السياق، ذكرت هيئة البث الإسرائيلية في 19 كانون الثاني/يناير أن حكومة نتنياهو حذرت في رسالة إلى واشنطن من أنها ستقوم بعمل عسكري في لبنان إذا لم يتم إبعاد قوة الرضوان عن الحدود. صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية نقلت في تلك الفترة أن "إسرائيل" هددت بتصعيد قتالها ضد حزب الله إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق "خلال أسابيع".
رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي لم تتخطَ كمية تهديداته رئيس الهرم الأمني يوآف غالانت، لكن يلاحظ في سلسلة التصريحات التي أطلقها، والتي لا بدّ منها في النهاية انطلاقاً من موقعه، أنها جاءت متفاوتة في شدّتها.
أواخر شباط/فبراير الماضي، أوضح لجنوده أن حزب الله سيدفع ثمناً باهظاً جداً بما أنه قرّر الانضمام إلى الحرب في غزة، لكن موقفه كان غريباً عندما قال في بقية حديثه خلال زيارته مستوطنات الشمال بعد تعرضها لقصف كثيف: "أعتقد أننا نتخذ الخطوات الصحيحة. لا يوجد حزب الله هنا بجانب السياج"!
يمكن القول إن نبرته الآنفة تشي بتراجع عن تصريح سابق. في 17 كانون الثاني/يناير، رأى أن معقولية الحرب في الشمال أعلى من السابق. لاحقاً، لاحت فرصة في ترجمة هذه المعقولية عندما جرى استهداف قاعدة عسكرية في صفد بتاريخ 14 شباط/فبراير. آنذاك، أدلى بتصريحات، بالإمكان اجتزاء الكلمات الدالة على الحرب في مضمونها، من دون المس بالسياق العام وتشويه المقصد. قال: "نحن الآن نركز على الاستعداد للحرب في الشمال"، وقال: "في النهاية، سنكون مستعدين للحرب، إذا لم تنتهِ (حالة التصعيد) بالحرب، فلن تنتهي بالتسوية على الإنجازات"، لكنه أعلن أن كل ذلك يحتاج إلى بعض الوقت، وشدد على أن "هناك إنجازات كبيرة للغاية في ضرب حزب الله في لبنان، لكننا نواصل العمل ولن نقف عند هذه النقطة"، وقال: "الحملة القادمة ستكون هجومية للغاية، وسنستخدم كل الأدوات وبكل القدرات".
سؤال آخر
تستبطن لغة هاليفي احتمالات مختلفة من ضمنها بشكل واضح احتمال الانكفاء عن الحرب. توحي أيضاً بوجود استعداد غير مكتمل بعد لحرب مؤجلة. لا ريب في أن "إسرائيل" تزخّم استعداداتها لهذا الاحتمال، وهذا أيضاً طبيعي وبديهي، كما سبقت الإشارة في المقال السابق. شواهد ذلك سبق استعراض بعضها، وفي ما يلي عرض لجوانب أخرى منها.
في 25 كانون الثاني/يناير، أجرت وزارة الصحة الإسرائيلية مناورة تحاكي سيناريو حرب واسعة في شمال فلسطين المحتلة. في اليوم نفسه، نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية أن الخارجية الإسرائيلية سألت البعثات الدبلوماسية إذا كان لديها مولدات كهربائية في حال حدوث تصعيد أمني مع لبنان، وأوضحت الصحيفة أن أسئلة الخارجية الإسرائيلية للبعثات الدبلوماسية تأتي وسط مخاوف من أن حربها مع حماس قد تتحول إلى صراع أوسع.
وفق المواقف السابقة، يُلاحظ أن التلميحات الإسرائيلية في اتجاه التصعيد وحتمية الحرب وضرورتها تكثّفت أواخر شهر كانون الثاني/يناير الماضي. جاء مقال رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست سابق الذكر في إطار "أسبوع التهويل"، وكذلك ما سبق استعراضه في البداية.
وفق تقرير "فايننشال تايمز" آنف الذكر، فإن الرسالة الإسرائيلية للبعثات الدبلوماسية أحدثت انقساماً بين الدبلوماسيين، وشعر البعض بأنها قد تكون محاولة لتشجيع الدول التي لها علاقات مع لبنان من أجل الضغط على بيروت بهدف التوصل إلى اتفاق لخفض التوترات عند الحدود.
من الجدير ذكره أن هذه الفترة شهدت وساطات بين بيروت وتل أبيب برز منها زيارة وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو إلى هاتين الوجهتين، عدا عن رسائل أميركية للبنان عبر وسطاء عرب وفق ما ذكرت صحف لبنانية حينها، وسط أجواء عن قرب دخول الحرب الإسرائيلية على غزة مرحلتها الثالثة وإمكان الوصول إلى هدنة.
هل يعني ذلك انتفاء احتمال الحرب الموسّعة أو التصعيد نهائياً، وأن التصريحات الإسرائليلية محصورة في إطار التهويل؟
الجزء الأخير من هذه السلسة مُخصّص للإجابة عن هذا السؤال، لكن دفعة على الحساب تسمح بالعبور إلى بقية النقاط. يتعذّر الجزم بشكل مطلق ونهائي بانتفاء احتمال التصعيد لسبب معقول. الطرف الإسرائيلي مأزوم جداً ويعاني حرجاً شديداً على مستوى الجيش، وعلى مستوى القيادة السياسية، وعلى مستوى المنظومة برمتها، نظراً إلى الواقع غير المسبوق في المستوطنات الشمالية.
ربما يفكّر، من بين جملة احتمالات، في افتعال تصعيد محسوب ومضبوط غايته النزول عن الشجرة من خلال فتح كوة دبلوماسية يهرع معها الوسطاء الدوليون للضغط على طرفي الصراع في سبيل الوصول إلى تسوية مُلزمة، لكن هل تنجح مثل هذه المحاولة؟ هذا سؤال آخر.
تحوّلات في المزاج الإسرائيلي
في كل الأحوال، تستمر "إسرائيل" في تعزيز استعداداتها العسكرية وفق ما تسرّب، في وقت كرّر وزير الخارجية الإيراني تقييماً سبق أن أشار إليه مراراً في سياق الحرب.
في 27 شباط/فبراير الماضي، صرّح حسين أمير عبد اللهيان في مقابلة مع الميادين أن نتنياهو يسعى إلى توسيع نطاق الحرب ويريد توريط واشنطن في الصراعات والحروب أكثر من قبل.
في العاشر من الشهر نفسه، كان قد صرّح بأن المنطقة تسير نحو الاستقرار والأمن والحل السياسي، على عكس ما يريده نتنياهو، مشدّداً على أنّ الأخير يسعى "لأخذ البيت الأبيض رهينةً له، وعلى البيت الأبيض أن يختار إما أن يبقى رهينة لنتنياهو وإمّا أن يذهب إلى الحل السياسي".
في بداية شهر شباط/فبراير الماضي، ذكر موقع "كالكاليست" الإسرائيلي أن المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في خضم سباق تسلّح واسع النطاق في محاولة لتحسين قدرات حماية بنى تحتية من هجوم أسراب مسيّرات متفجرة. وأوضح أنه في موازاة ذلك، وُجّهت الصناعات الأمنية ببحث خطط لتطوير وسائل ومنظومات توفر استجابة لتهديد أسراب طائرات مسيرة تهاجم في الوقت نفسه.
كل هذه الإجراءات على أهميتها في الواقع غير ذات صلة في حال قرّرت الولايات المتحدة لجم أي تصعيد مع لبنان. هذا ما يستشف من رأي يعقوب كاتس، وهو باحث في معهد سياسة الشعب اليهودي (JPPI) ورئيس تحرير سابق لصحيفة "جيروزاليم بوست".
منذ بضعة أيام، كتب في الصحيفة نفسها أنه لكي تتمكن الإدارة الأميركية من إيقاف الحرب، كل ما عليها فعله هو وقف تدفق قطع الغيار إلى أسطول سلاح الجو الإسرائيلي المكون بأكمله من طائرات أميركية الصنع. يشرح أنه عندما يكون السرب في حالة قتال، تحتاج الطائرات إلى صيانة، إضافة إلى تدفق ثابت ومنتظم لقطع الغيار، وإذا لم يكن لدى الجيش قطع غيار، فقد يضطر في بعض الأحيان إلى إيقاف أسراب بأكملها عن العمل.
بمعزل عن ذلك، ما زال بإمكان جبهة التشاؤم حشد المزيد من الشواهد على خطورة الأحداث واحتمال تفلّتها من الضوابط، من ذلك تحذير وزير الخارجية الأميركية نهاية يناير/كانون الثاني المنصرم من "وقت مضطرب بشكل لا يصدق" في الشرق الأوسط، وقوله: "لم نشهد وضعاً خطيراً مثل الوضع الذي نواجهه الآن في جميع أنحاء المنطقة منذ عام 1973 على الأقل".
مدير وكالة الاستخبارات الأميركية ويليام بيرنز كتب في مجلة "فورين أفيرز" في الفترة نفسها: "مُنذ أربعة عقود وأنا أعمل في ملفات الشرق الأوسط، ولم أرَ من قبل الأوضاع بهذا التعقيد والقابلة للانفجار مثلما أرى اليوم".
في المقابل، لم تخفِ الولايات المتحدة رغبتها في لجم التصعيد من خلال مجموعة من التصريحات، من ذلك ما أعلنه البنتاغون (26 كانون الثاني/يناير) من أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بحل دبلوماسي للتوترات عند الحدود اللبنانية وتجنب تصعيد إقليمي، وإعلانه بداية شباط/فبراير أن واشنطن لا ترى مواجهة شاملة بين "إسرائيل" وحزب الله، وقوله: "نحن على تواصل مع الإسرائيليين للتأكد من أن لا يتطور هذا إلى حرب في جبهة أخرى، نحن لا نرى أن إسرائيل موجودة في حالة حرب مع دولة أخرى".
عكست تلك التصريحات تراجعاً في التوتر والخشية من انزلاق الأمور عقب "طوفان الأقصى"؛ فخلال الشهر الذي أعقب العملية (تحديداً في 12 تشرين الثاني/نوفمبر)، كشف موقع "أكسيوس" أن أوستن طلب من "إسرائيل" تجنب الخطوات التي قد تؤدي إلى حرب شاملة مع حزب الله، وسط قلق اعترى إدارة بايدن من أن "إسرائيل" تحاول استفزاز حزب الله وخلق ذريعة لحرب أوسع في لبنان يمكن أن تجر الولايات المتحدة ودولاً أخرى إلى مزيد من الصراع.
في غضون ذلك، تعكس استطلاعات الرأي الحديثة داخل الكيان تحوّلات في المزاج العام بعد مضي أكثر من 5 أشهر على بداية الحرب. يشير استطلاع أجرته القناة 13 العبرية (8 شباط/فبراير) إلى تراجع نسبة مؤيدي الحل العسكري في مقابل حزب الله، وهذا أمر له مغزاه.
جواباً عن سؤال: "ما الحل المرغوب فيه مقابل حزب الله في الشمال؟"، جاءت النتائج وفق التالي:
40% تطبيق القرار 1701.
30% عملية عسكرية.
12% إبعاد حزب الله إلى 10 كلم من الحدود.
18% لا أعرف.
في المقابل، أظهر استطلاع للرأي نشر في منتصف شباط/فبراير الماضي تأييد أغلبية الإسرائيليين لعملية عسكرية ضد حزب الله، وذكرت صحيفة "معاريف" حينها أن 71% من الإسرائيليين يعتقدون بأن على تل أبيب التحرك لإبعاد الحزب عن المنطقة الحدودية.