"ردنا ما ترونه لا ما تسمعونه"
العنوان الأبرز لهذه المرحلة ما بعد الجريمة الإسرائيلية هو الاتجاه بقوة من جانب "إسرائيل" نحو المزيد من التصعيد في الميدان ضد لبنان، وهو اتجاه متصاعد من حيث الخط البياني ومتسارع من حيث الإيقاع والوتيرة.
لقد شكلت جريمة "إسرائيل" المزدوجة ضد لبنان على دفعتين أو جرعتين متتاليتين، يومي الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع الفائت في 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024 تباعاً، حدثاً بارزاً في مسار تطور الأحداث في البلد وعلى امتداد المنطقة منذ ما يناهز سنة تقريباً، وهو حدث جديد من نوعه، يقتحم المشهد السياسي ويفرض نفسه بقوة، إذ يطفو على السطح، ويبرز في الواجهة، ويحتل الصدارة أو يتصدر الأخبار في الصحافة المكتوبة، والإعلام المرئي والمسموع، والإعلام الرقمي، وبين عامة الناس والرأي العام، كما في الأوساط والمستويات والقنوات السياسية والدبلوماسية، فما خلفيات وأبعاد ومترتبات هذه الجريمة لإسرائيل ضد لبنان يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين بتاريخ 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024؟
في التكييف القانوني لجريمة 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024
من الزاوية القانونية أولاً، هي جريمة موصوفة بطبيعة الحال لا لبس فيها، وهي – بلغة القانون الدولي، ومن ضمنه القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الجنائي – جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية أيضاً، بالنظر إلى كيفية استهداف المدنيين الأبرياء والأبنية أو المباني المدنية، وليس الأهداف العسكرية، ولا حتى المواقع العسكرية، خارج إطار أو نطاق المجال الجغرافي للحرب أو ميدان المعركة وساحة القتال، في إشارة إلى الحيز المكاني للمواجهات العسكرية والعمليات الحربية والأعمال العدائية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة والمقاومة اللبنانية من جهة أخرى في جنوبي لبنان وفي مقابل شمالي فلسطين المحتلة.
وهي ليست فقط مجرد اعتداء سافر على السيادة الوطنية اللبنانية، بل إنها أيضاً جريمة عدوان بكل ما للكلمة من معنى في ميزان القانون الدولي وفي قاموس المفردات والمصطلحات العلمية والتقنية المتخصصة ذات الصلة، لكونها وبوصفها عدواناً على الشعب، أي عامة الناس وجمهور المواطنين، في العديد من المناطق والمدن والبلدات والقرى اللبنانية، وعلى امتداد التراب الوطني اللبناني، لا سيما الأماكن الجغرافية التي تقطنها وتسكن فيها البيئة الديمغرافية المؤيدة والموالية والمناصرة للحزب والمقاومة. وعليه، فإن هذه الجريمة تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية حتماً، إضافة إلى صلاحية محكمة العدل الدولية الدائمة حكماً.
في التوصيف السياسي لجريمة 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024
من الزاوية السياسية ثانياً، هي جريمة غير مسبوقة على الإطلاق في سياق الصراع المفتوح والمواجهة المفتوحة مع العدو الإسرائيلي وطوال تاريخ الحرب العربية - الإسرائيلية، ولا سيما الحرب بين إسرائيل ولبنان بالتحديد.
لذلك، تبدو سابقة تاريخية بكلّ معنى الكلمة لم نشهد لها مثيلاً ولا نظيراً في السابق أو في الماضي، لا القريب ولا البعيد، أقله في سجلات الاعتداءات والانتهاكات والارتكابات المتكررة والمتواصلة من جانب "إسرائيل" ضد لبنان دولة وشعباً، وهي تبدو أيضاً جريمة بأبعاد خطيرة، بل في غاية الخطورة، تنطوي على تصعيد خطير وغير مسبوق قد يطيح الكثير من القواعد والمعادلات والتوازنات والترتيبات، وهي جريمة جبانة بالتأكيد، فيها الكثير من الخبث السياسي، كما الدناءة السياسية، بعيداً من أخلاقيات الحروب وأخلاقيات الجيوش أيضاً في حالات الحروب وفي الصراعات العسكرية والنزاعات المسلحة.
كما أنّها جريمة بشعة وقذرة بلا شك وبلا ريب، تُظهِر مجدداً الصورة البشعة والطبيعة الشريرة للكيان الإسرائيلي اللقيط والقذر. بهذا المعنى، تُضاف هذه الجريمة وما قبلها وما بعدها إلى الأرشيف الفاضح والحافل برصد وتسجيل وتدوين الكثير من التجاوزات والمخالفات والانتهاكات والاعتداءات والارتكابات وسواها الكثير من الجرائم غير المعقولة وغير المقبولة وغير المبررة من طرف العدو الإسرائيلي، وكذلك الأفعال والأعمال والتصرفات والسلوكيات المحظورة أو المستنكرة والمدانة.
في الخلفية السياسية لجريمة 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024
أعلنت "إسرائيل" مؤخراً - بمستوييها السياسي والعسكري، في إشارة إلى كل من حكومة الاحتلال الإسرائيلي أولاً وجيش الاحتلال الإسرائيلي ثانياً - نيتها وقرارها الاتجاه نحو المزيد من التصعيد الميداني، العسكري والأمني، على خط الجبهة الشمالية مع لبنان والانتقال بمركز الثقل في هذه الحرب من الجبهة الجنوبية في غزة إلى الجبهة الشمالية من جنوبي لبنان، وصولاً إلى بعلبك وشمالي لبنان، مروراً بالضاحية الجنوبية بطبيعة الحال.
أرادت "إسرائيل" من خلال هذه الجريمة بالتحديد ممارسة الضغط المعنوي على الحزب والمقاومة أو لنقل أقصى الضغوط والضغوط القصوى، لإرباك الحزب والمقاومة بالدرجة الأولى، في محاولة لإفقادهما قدرات القيادة والتحكم والسيطرة، وبالتالي دفع الحزب والمقاومة إلى التنازل وتقديم التنازلات بالدرجة الثانية، والقبول بالشروط الإسرائيلية، ابتداء بفك الارتباط بين الجبهتين العسكريتين لإسرائيل مع حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان في جنوبي لبنان من جهة الشمال، ومع المقاومة الفلسطينية، ولا سيما حركتي المقاومة الإسلامية والجهاد الإسلامي في فلسطين في غزة من جهة الجنوب، وليس انتهاء بإعادة المستوطنين الإسرائيليين إلى المستوطنات الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة بالقوة العسكرية، وربما إرغام الحزب والمقاومة على الإذعان لوجهة النظر الإسرائيلية بالتراجع عن الحدود الدولية ما بين لبنان وفلسطين المحتلة حتى نهر الليطاني والانسحاب من تلك المنطقة من جنوبي لبنان وإخلائها.
استطاعت إسرائيل بهذه العملية الأمنية استهداف الجبهة الداخلية، في إشارة إلى العمق الداخلي اللبناني للبلد والشعب والمقاومة. كما أنها حاولت استهداف الجبهة المعنوية الداخلية، في إشارة إلى الروح المعنوية لدى الناس والرأي العام على وجه العموم أو التعميم وجمهور المقاومة على وجه الخصوص أو التخصيص.
وقد باءت هذه المحاولة الأخيرة بالفشل، وهي قامت باستهداف الأمن الوطني، بل الأمن القومي للدولة والبلد والجماعات السياسية فيه، وليس جماعة الحزب والمقاومة السياسية فحسب. كما أنها عمدت إلى استهداف الأمن الشخصي نفسه للمواطنين والأفراد المدنيين في أكثر من مكان أو حيز جغرافي وفي الوقت نفسه.
في الإحاطة السياسية باللحظة التاريخية بعد جريمة 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024
إن هذه الجريمة الإسرائيلية هي محطة فاصلة ما بين مرحلتين زمنيتين وسياسيتين من تاريخ ومسار تطور الصراع مع العدو الإسرائيلي، فما بعدها لن يكون كما قبلها على الإطلاق. هي حتماً بداية مرحلة جديدة من المواجهة العسكرية، كما الأمنية، بين إسرائيل من جهة، وحزب الله أو المقاومة الإسلامية في لبنان من جهة أخرى.
كما أنها بداية صفحة جديدة من الحساب المفتوح بينهما. هي مرحلة مختلفة عما سبقها من مراحل، وقد تختلف عنها كثيراً، بالنظر إلى كون هذه الجريمة مختلفة من حيث ماهيتها وطبيعتها وخطورتها، وهي تبدو مرحلة أكثر تعقيداً بالحد الأدنى، بل إنها تبدو حتى أكثر صعوبة وأكثر خطورة، سواء كان على جانبي الحدود اللبنانية - الفلسطينية المحتلة أو كان على امتداد المجال أو النطاق الإقليمي للمنطقة.
إن العنوان الأبرز لهذه المرحلة ما بعد هذه الجريمة هو الاتجاه بقوة من جانب "إسرائيل" نحو المزيد من التصعيد في الميدان ضد لبنان، وهو اتجاه متصاعد من حيث الخط البياني ومتسارع من حيث الإيقاع والوتيرة.
وقد يتخذ هذا التصعيد بين إسرائيل ولبنان شاكلة المد والجزر، وهو يُفترَض أن يتركز بشكل أساسي في منطقة الجنوب والضاحية الجنوبية ومنطقة بعلبك. كما يُفترَض أن تتخلله سلسلة من الاغتيالات الأمنية، وربما السياسية، كما العمليات الأمنية، إضافة إلى العمليات العسكرية – وهي الملاحظة التي نرصدها في الواقع والحقيقة – من ضمن الأعمال الحربية أو الأعمال العدائية ما بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية، بصرف النظر عن مدى جدية سيناريو الهجوم البري وإمكانيته وتكلفته، وإلى جانبه، وربما قبله، سيناريو القصف الجوي، وسواهما من السيناريوهات المفترضة أو المحتملة.
في تقدير الموقف السياسي بعد جريمة 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024
إن المرحلة الجديدة تعوزها المفردات الجديدة والمصطلحات الجديدة، وذلك بالنظر إلى مجموعة الحيثيات الجديدة والمحددات الجديدة. ما يعني بالتبعية أن الكثير من الوقائع والحقائق المعطيات والحسابات والتقديرات والتوقعات والاعتبارات السابقة انهارت وسقطت أو أنها تغيرت بالحد الأدنى، ربما جزئيّاً أو كليّاً، فنحن نشهد مؤخراً وراهناً اللحظة الإقليمية، السياسية والتاريخية والزمنية، الأكثر دقة والأكثر خطورة منذ اندلاع العدوان في أعقاب الطوفان، وهي قد تكون اللحظة الأقرب إلى الانفجار الكبير أو الانفلات الواسع للأوضاع العسكرية والأمنية في البلد، وربما في المنطقة برمتها.
كما يبدو، فإن قواعد الاشتباك السابقة بين لبنان و"إسرائيل" سقطت، وهذا ما تريده الأخيرة عبر هذا التصعيد المستمر والمتواصل والإمعان والإفراط بممارسة التهديد السياسي والتهويل الإعلامي والاعتداء العسكري والأمني وتكرار الاعتداء تلو الاعتداء.
في المقابل، تواجه المقاومة اللبنانية العدوان الإسرائيلي، وتستمر في هذه المواجهة المفتوحة، وهي تحاول تثبيت قواعد الاشتباك وتكريسها أو ترميمها من جديد ما أمكن بطبيعة الحال. وقد يشكل ذلك مناسبة، بل فرصة، بالنسبة إلى لبنان والمقاومة في لبنان لانتزاع شيء ما أو أشياء ما من إسرائيل في ضوء التطورات المرتقبة أو المستجدات الطارئة.
وبناء عليه، فإنّ قواعد اللعبة أخذت تتغير، وسوف تتغير بعد، فالجانب الإسرائيلي يعمد إلى تخطي وتجاوز كل الخطوط الحمر وتسديد الضربات تحت الحزام، ما يعني أننا سنشهد ونرصد راهناً ولاحقاً تبادل تسديد الضربات بقصد الإيذاء والإيلام أكثر فأكثر، وتبادل تسجيل الأهداف وإحراز النقاط بين الأطراف المتحاربة والمتصارعة على جانبي الحدود والقوى الدولية والإقليمية المعنية، في إشارة إلى إسرائيل ومن خلفها أميركا من جهة، وحزب الله من الجهة الأخرى، وربما معه بعض أو جميع المكونات والحلقات المكونة من ضمن سلسلة حلف المقاومة ومحور المقاومة في المنطقة في توقيت ما وفي لحظة ما.
في تحديد الوضعية العسكرية والاستراتيجية بعد جريمة 17 و18 أيلول/2024
منذ بدء العدوان في إثر عملية الطوفان مباشرة، كانت الحرب طيلة الفترة الزمنية المنصرمة التي باتت تناهز سنة تقريباً أقرب إلى نموذج الحرب المقيدة والمنضبطة سابقاً منها إلى نموذج الحرب غير المقيدة وغير المنضبطة راهناً ولاحقاً، بل إلى نموذج الحرب المفتوحة على الاحتمالات كافة، أو لنقل حرب الحساب المفتوح، بحسب فضيلة الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان.
إن هذا التوصيف ينطبق على واقع الحال في الميدان على صعيد الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية بالتحديد أو الجبهة الشمالية، أقله حتى عشية ارتكاب العدو الإسرائيلي هذه الجريمة يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين في 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024، ومن ثم جريمة اغتيال القائد الشهيد إبراهيم عقيل في الضاحية الجنوبية يوم الجمعة في 20 أيلول/سبتمبر 2024، وقبلها جريمة اغتيال القائد الشهيد فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية أيضاً يوم الثلاثاء في 30 تموز/يوليو 2024؛ فمنذ ذلك الحين، يمكننا أن نرصد وأن نلحظ هذا التحول التدريجي الكبير في طبيعة الحرب ومسار المعركة وأبعادهما.
لقد قامت المقاومة بالرد على استهداف ضاحية بيروت الجنوبية للمرة الثانية لدى اغتيال السيد فؤاد شكر باستهداف ضاحية تل أبيب الشمالية يوم الأحد في 25 آب/أغسطس 2024، ولا سيما قاعدة مقر قيادة الاستخبارات العسكرية (أمان) وفيها مقر قيادة الوحدة 8200 للرقابة العسكرية، وهي تقع ضمن منطقة استراتيجية حيوية وحساسة، وبجانبها قاعدة تابعة للاستخبارات الخارجية (الموساد) وقاعدة أخرى تابعة للاستخبارات الداخلية (الشاباك)!
كما قامت المقاومة بقصف مجمع الصناعات الحربية التابع لشركة رافاييل للتصنيع الحربي شمالي حيفا البارحة يوم الأحد في 22 أيلول/سبتمبر 2024، وذلك للرد على استهداف ضاحية بيروت الجنوبية من جديد وللمرة الثالثة لدى اغتيال الحاج إبراهيم عقيل، وهي قامت، ولا تزال تقوم باستهداف العديد، بل الكثير، من الأهداف والقواعد والثكنات والمواقع والمنصات والتجهيزات والآليات العسكرية والأمنية داخل الكيان الإسرائيلي، لا سيما في منطقة شمالي فلسطين المحتلة بالتحديد، وعلى طول خط الحدود اللبنانية - الفلسطينية المحتلة.
وعليه، تثبت المقاومة قدرتها على التعبئة ومقدار جاهزيتها، ناهيك أيضاً باحتفاظها بقدرتها على القيادة والتحكم والسيطرة، وهي تظهر استعدادها بل استنفارها إلى أبعد الحدود والمديات وأعلى المستويات والدرجات بمواجهة التحديات والتهديدات والأخطار أو المخاطر الإسرائيلية، ما لا يدع أي مجال للشك ولا حتى التشكيك في وضعيتها العسكرية والأمنية والاستراتيجية، وهي تعمد بين الحين والآخر إلى الكشف عن أوراق جديدة غير مسبوقة، من شأنها إحداث مفاجآت غير مسبوقة أيضاً وغير متوقعة بالنسبة إلى الإسرائيليين والأميركيين على حد سواء، بحسب فضيلة الشيخ نعيم قاسم أيضاً.
هكذا بات الصراع والمواجهة أبعد من لعبة عض الأصابع ولعبة الرقص على حافة الهاوية وشفير الانفجار أو التفجير، بحيث يندرج في سياق الحساب المفتوح بين "إسرائيل" من جهة ولبنان بصورة عامة والمقاومة في لبنان بصورة خاصة من جهة أخرى.
في التقييم السياسي لاستشراف المستقبل بعد جريمة 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024
يبدو أن احتمالية تعثر وتعذر الحل السياسي أو الدبلوماسي هي سيدة الموقف من دون منازع على المدى القريب أو على المدى القصير، وذلك حتى إشعار آخر، بمعنى وقف العدوان ووقف إطلاق النار وإنهاء حالة الحرب، سواء كان بالنسبة إلى الجبهة الجنوبية في فلسطين المحتلة مع غزة بالتحديد، أو كان بالنسبة إلى الجبهة الشمالية مع لبنان من باب أولى، بالنظر إلى استعصاء عملية المعالجة السياسية أو الدبلوماسية وانسداد أفق العملية السياسية أو الدبلوماسية، مع العلم أن إمكانية الحل العسكري بمعنى الحسم العسكري من جانب إسرائيل في مقابل لبنان إنما تبدو هي أيضاً متعثرة ومتعذرة، بل إنّ احتمال حسم مثل هذه المسألة ومعالجة مثل هذه المشكلة بمنطق القوة العسكرية من قبل إسرائيل مستحيل.
وعليه، تستمر حالة الحرب على المدى المنظور، وربما على المدى المتوسط. هي غدت أكثر ضراوة وأكثر شراسة. وتستمر حرب الاستنزاف الطويلة هذه بين القوى المتحاربة والمتصارعة في فلسطين المحتلة ولبنان وعلى امتداد الإقليم كله، دون أن يعني ذلك بالضرورة وبالتبعية الانزلاق مباشرة إلى أتون وبراثن وغياهب الحرب الإقليمية الكبرى أو الحرب الإقليمية الشاملة بطريقة أوتوماتيكية. والكل يترقب ما سوف تفضي إليه مثل هذه الحرب أو هذه المعركة المفصلية والمصيرية والوجودية من نتائج ومترتبات مباشرة وغير مباشرة.
عند هذا الموضع أو المقام بالتحديد، تبقى الإشارة إلى أن إسرائيل تحاول تغيير قواعد الاشتباك والوضع القائم في الوقت الراهن – كما أسلفنا – بقصد الخروج من دوامة حرب الاستنزاف والحلقة المفرغة التي تدور فيها، ما يفسر حالة المراوحة العسكرية والسياسية. إذاً، هو مسار طويل من الصراع والمواجهة، بصرف النظر عن درجة السخونة ومقدار العنف والمدى أو الأفق الزماني والحيز أو النطاق المكاني أو الجغرافي.
على أي حال، فإن عملية احتساب النتائج بميزان الأرباح والخسائر بالنسبة إلى الأطراف كافة، بما فيها القوى المتحاربة والمتصارعة، ومن خلفها القوى الدولية والإقليمية المعنية، سواء كانت الداعمة أو الضالعة أو المنخرطة، صعبة، وليست سهلة، وهي عملية مركبة ومعقدة ودقيقة للغاية.
وتبقى مشهدية ثبات وتماسك وصمود وانتصار المقاومة هي الفيصل، وهي أقرب إلى التفكير والتصديق بلغة العقل والمنطق. المسألة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة. أما بلغة العلوم العسكرية والاستراتيجية، عندما يحين موعد أو ميقات "مرحلة إنهاء الحرب"، فقد لا تتمكن إسرائيل، ومعها أميركا أيضاً، من إنهائها بشروطها هذه المرة، بل قد تنتهي الحرب بخلاف الرغبات والمصالح والشروط الأميركية والإسرائيلية.
من هنا، يمكننا أن نتوقع تعثر وتعذر احتمالات وفرضيات وخيارات ورهانات وسيناريوهات ومسارات السلام والتطبيع والتحييد مع لبنان في المستقبل، من وجهة نظر كل من إسرائيل" وأميركا، ومن معهما في الداخل ومن الخارج، بل حتمية وحكمية استحالتها الفعلية والعملية.
تأتي هذه الجريمة التي قد ارتكبتها "إسرائيل" في لبنان الأسبوع الماضي خلال يومي الثلاثاء والأربعاء المتتاليين بتاريخ 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024 لتزيد الأمور والحسابات والتقديرات والتوقعات تعقيداً. وقد سبقتها جريمة اغتيال القائد الشهيد فؤاد شكر، الذي كُتِب وقيل عنه، بحسب المعلومات أو الأخبار المتداولة في الصحافة والإعلام.
إنه عضو المجلس الجهادي وقائد وحدة العمليات الصاروخية في الحزب والمقاومة، ثم تلتها جريمة اغتيال القائد الشهيد إبراهيم عقيل، الذي كُتِب وقيل عنه، بحسب المعلومات أو الأخبار المتداولة في الصحافة والإعلام أيضاً، إنه عضو المجلس الجهادي وقائد وحدة العمليات الخاصة في الحزب والمقاومة، ولا تقل الجريمة الثانية خطورة عن الجريمة الأولى، في تصعيد أمني كبير خلال فترة زمنية وجيزة عبر سلسلة من العمليات المتلاحقة التي تحتبس معها الأنفاس وتشخص إليها الأنظار.
كل ذلك يزيد الطين بلة، ويجعل الوضع الراهن - الستاتوكو مفتوحاً على الاحتمالات كافة، أو لنقل بالأحرى العديد، بل الكثير من الخيارات والاتجاهات والمسارات والسيناريوهات في الحاضر وفي المستقبل على حد سواء.