واشنطن والتربّص بقوات فاغنر في أفريقيا.. الدلالات والتبعات
بمجرد إعلان فاغنر التمرد أعلنت واشنطن فرض عقوبات جديدة على قواتها في أفريقيا الوسطى، وكان تقدير واشنطن أن ذراع موسكو في أفريقيا خرجت عن الطاعة الروسية.
نجحت موسكو في احتواء التمرد المحدود لقوات فاغنر في 23 حزيران/يونيو الماضي، والذي انتهى بانتقال رئيس المجموعة يفغيني بريغوجين إلى بيلاروسيا، لكن انتهاء التمرد لم يمنع واشنطن، المتربصة بموسكو، من القفز إلى الحدث فالتقطته، وبنت عليه هجوماً مضاداً لمواجهة النفوذ الروسي المتمدد، ليس في أوكرانيا هذه المرة، لكن في أفريقيا.
أخرجت واشنطن سيف العقوبات الذي تُلوّح به كلما أتيحت لها الفرصة. لذلك، بمجرد إعلان فاغنر التمرد أعلنت واشنطن فرض عقوبات جديدة على قواتها في افريقيا الوسطى، وكان تقدير واشنطن ان ذراع موسكو في أفريقيا خرجت عن الطاعة الروسية، وبالتالي يمكن القفز عليها، ومحاصرتها، وربما إخراجها من القارة التي بدا مُلاحَظاً تراجع الحضور الأميركي والحضور الأوروبي فيها.
من دون مواربة أو تستّر، وبعد أقل من 48 ساعة على تمرد فاغنر، فرضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عقوبات عليها في أفريقيا الوسطى، معلنة أن لا علاقة لذلك بتمرد فاغنر في موسكو. وقالت وزارة الخارجية الأميركية إنها فرضت عقوبات على عدة منظمات في جمهورية أفريقيا الوسطى، بسبب صلتها بمجموعة فاغنر.
المفارقة أن بيان الخارجية الأميركية أوضح خلفية القرار، وقال إن "الولايات المتحدة تفرض عقوبات على عدة كيانات في جمهورية أفريقيا الوسطى اليوم بسبب صلتها بالمنظمة الإجرامية العابرة للحدود، والمعروفة باسم مجموعة فاغنر، بسبب تورطها في أنشطة تقوض العمليات والمؤسسات الديمقراطية في جمهورية أفريقيا الوسطى، من خلال التجارة غير المشروعة في الموارد الطبيعية للبلاد". ويحتار الناظر إلى سِجِلّ الإجرام الأميركي الممتدّ عبر التاريخ والجغرافيا بشأن المبرر الذي قدمته واشنطن من أجل معاقبة قوات فاغنر.
كذب واشنطن ليس وليد اللحظة التي قررت فيها فرض عقوبات على فاغنر في أفريقيا الوسطى، وقطعاً لم تكن عقوباتها في حاجة إلى مبرر مبني على التدليس، لكنه تقدير سطحي مبني على محدِّدين: الأول أن موسكو قد تتخلى عن فاغنر، وبالتالي فإن هذه هي الفرصة الملائمة للتسلل من أجل ضرب العلاقة بين موسكو وفاغنر، وتحديداً من البوابة الأفريقية. وهذا المحدد سرعان ما تلاشى، ونسفه وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، مؤكدا أن مصالح فاغنر لن تتأثر في دول أفريقيا، وأن قواتها ستواصل تلقي تعليمات الكرملين، مضيفا أنه لا توجد أدلة على إعادة هذه الدول النظر في علاقاتها بموسكو.
أمّا المحدِّد الثاني، في التقدير الأميركي ونظيره الأوروبي، فهو أن يتمدد تمرد فاغنر وتتسع رقعته لتصل إلى حيث وجود قواتها في أفريقيا. وبالتالي، يمكن الاستفادة أميركياً من ذلك من خلال ملء الفراغ في أفريقيا على حساب وجود قوات فاغنر. وهذا التقدير معلن بالمناسبة، وعبّرت عنه سفيرة الاتحاد الأوروبي في الاتحاد الأفريقي، بريجيت ماركوسين، قائلة "إن الغموض الذي يحيط بمستقبل فاغنر فتح نافذة للدول الأوروبية كي تتواصل مع دول مثل مالي، إذا بقي بريغوجين في بيلاروسيا ومنقطعاً عن مقاتليه".
العقوبات الأميركية المعلنة مؤخراً على قوات فاغنر، عقب تمردها، ليست الأولى. ففي عام 2020 فرضت الحكومة الأميركية عقوبات على شركتين في السودان، هما "أم إنفيست" و"مروي غولد"، بذريعة أن الشركتين ساعدتا رئيس قوات فاغنر على تجنب العقوبات وإجراء عقود بالدولارات.
وفي 26 أيار/مايو الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إيفان ألكساندروفيتش ماسلوف، رئيس قوات فاغنر في مالي، بدعوى أن المجموعة العسكرية الروسية الخاصة تستخدم هذا البلد الأفريقي قناة لدعم حرب موسكو في أوكرانيا.
لم يقتصر سيف العقوبات الغربي على واشنطن فقط، فالاتحاد الأوروبي لوّح هو الآخر بالعقوبات على قوات فاغنر. ففي 19 كانون الأول/ديسمبر 2021، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على قوات فاغنر، بتهمة ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في جمهورية أفريقيا الوسطى ودول أخرى. وقال الاتحاد الأوروبي إنه لن يُجري تدريبات لجنود حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى بعد الآن، بسبب صلاتهم بفاغنر.
فرض عقوبات على قوات فاغنر في أفريقيا، أميركياً وأوروبياً، لا تتعلق دلالاته ومحدداته بانتهاكات حقوق الإنسان، لأن السجلّ الأميركي ـ الأوروبي الاستعماري حافل بتلك الجرائم، لكنه مرتبط بمواجهة تمدد النفوذ الروسي المتزايد والمتصاعد في أفريقيا، على حساب الحضور الأميركي الأوروبي عموماً، والفرنسي على وجهة التحديد. وبالتالي، فإن جزءاً أصيلاً من الاستهداف، الذي تتعرض له قوات فاغنر، يستهدف محاصرة النفوذ الروسي في أفريقيا.
لكنه استهداف واهن وسطحي، إذ إن فرض عقوبات أميركية وأوروبية على قوات فاغنر يكاد يكون من دون جدوىً، ومصيره الفشل. ويعكس سوء فهم وسطحيةً في التقدير بشأن فهم دلالات وجود قوات فاغنر في أفريقيا، وهو وجود بناءً على دعوة، وليس عنوة، على غرار وجود القوات الأميركية في عدة مناطق من العالم مثلاً.
مخططات واشنطن وخياراتها في محاصرة نفوذ قوات فاغنر في أفريقيا عموماً، وفي أفريقيا الوسطى تحديداً، لم تقتصر على العقوبات والتلويح بها، بل ذهبت إدارة بايدن بعيداً في أدواتها. في منتصف كانون الأول/ديسمبر الماضي، عرضت واشنطن على أفريقيا الوسطى تدريب جيشها وزيادة المساعدات الإنسانية والمالية لها، في مقابل طرد قوات فاغنر. وتلقى رئيس أفريقيا الوسطى، فوستين أرشانغ تواديرا، مذكِّرة من الإدارة الأميركية، أعدّتها وكالة الأمن القومي، خلال القمة الأميركية - الأفريقية في واشنطن، تبيّن له وتحدد التبعات والفوائد التي قد يجنيها من الانفصال عن قوات فاغنر، والعواقب التي يمكن أن يتكبّدها بسبب بقائه على تحالف معها.
أحد المحدِّدات والتبعات للعرض الأميركي هذا لأفريقيا الوسطى يعكس مستوى المواجهة على النفوذ في أفريقيا بين موسكو وواشنطن من جهة، وسوء التقدير الأميركي لأسباب وجود قوات فاغنر من جهة أخرى. ويبقى الأسلوب الأميركي التقليدي في التعامل مع الدول الأفريقية كما هو محكوم ومحصور بين الابتزاز والتهديد.
ويبدو أن واشنطن لم تتعلم من الدرس الأفريقي لفرنسا، التي أُجبرت على الخروج من القارة السمراء، التي باتت أكثر وعياً وفهماً للاستقطاب الدولي، وأكثر بحثاً عن تنوع الشركاء، على قاعدة الجدوى، لا قاعدة الإملاء، كما ترغب أميركا وأوروبا.
محدِّدات التربص الأميركي بقوات فاغنر في أفريقيا، ودلالات فرض العقوبات، لجهة التوقيت والتبعات، يمكن إيجازها في التالي:
- محدد التقدير الأميركي أن تمرد فاغنر سيتمدد ويستمر، وأن موسكو قد تقرر حل قوات فاغنر، ولن تزودها بأي إمدادات أو دعم، سياسياً وعسكرياً، وتحديداً في مالي وأفريقيا الوسطى. وبالتالي، يمكن توظيف ذلك من خلال الإجهاز، عبر العقوبات الأميركية، على قوات فاغنر ومحاصرة النفوذ الروسي.
- فشلت واشنطن في تصوير قوات فاغنر بعبعاً في أفريقيا، سواء عبر الابتزاز أو التهديد. ومثال على ذلك أن التهويل من مخاطر فاغنر في مالي متواصل منذ ما قبل عام 2021، بل إن الانقلاب في مالي لم يهدد وجود قوات فاغنر. في المقابل، ترى رواية مالي، في ردها على مخاوف واشنطن المزعومة، أن قوات فاغنر ليست مرتزقة، وأنها تقوم بتدريب القوات المحلية المالية على استخدام معدات عسكرية تم شراؤها من موسكو. وهذا بيت القصيد المقلق والمربك لحسابات واشنطن بشأن قوات فاغنر في أفريقيا.
- المقاربة الأميركية القائمة على العقوبات الاقتصادية من أجل محاصرة نفوذ موسكو من خلال قوات فاغنر مقاربة صفرية، إذ لا نشاط اقتصادي أو مالي لفاغنر له علاقة مباشرة بالوصاية الأميركية.
- تقدير واشنطن أن موسكو يمكن أن تتخلى عن قوات فاغنر في أفريقيا هو تقدير يُسقط من حساباته أن النفوذ الروسي في أفريقيا لا يعتمد على فاغنر وحدها فقط، وأنه بخلاف النفوذ الأميركي والنفوذ الأوروبي في القارة ليس نفوذاً عسكرياً فقط، بل اقتصادي وسياسي وشعبي أيضاً. والأهم أن "سجل جرائم" موسكو في أفريقيا صفر، ولا إرث استعماري لها في القارة، وهو ما ساعدها على الحضور حتى باتت تنافس وتزاحم الحضورَين الأميركي والفرنسي، بل تتجاوزهما.
- بينما تخلت فرنسا عن أفريقيا الوسطى وسحبت جنودها من هناك، تقدمت موسكو بواسطة قوات فاغنر، وساعدت بانغي على استعادة 90% من أراضيها، التي كانت تحت سيطرة الجماعات المسلحة.
- تمرد قوات فاغنر لن يؤثر في وجودها في أفريقيا، لأن هذا القرار لا يخضع لتقديرات فاغنر فقط، بل لتقديرات موسكو وسياساتها الخارجية أيضاً. وانسحاب فاغنر من أفريقيا لا يبدو خياراً مطروحاً اليوم على طاولة الحكومة الروسية.
- قد تلجأ واشنطن إلى خيارات أخرى، مثل تحريض قادة الدول الأفريقية على طرد قوات فاغنر، أو تقديم إغراءات مالية واقتصادية إلى الدول الأفريقية، وكِلا الخيارين تم تجريبه بالفعل، ولم تنجح في أيّ منهما واشنطن.
- الاستهداف العسكري لقوات فاغنر في الدول الأفريقية الموجودة فيها. هذا الخيار، إن تم بواسطة القوات الأميركية، فسيفتح جبهة حرب ومواجهة مباشرة بين موسكو وواشنطن، وهو ما لا تريده واشنطن. وإن تم إسناد هذه المهمة إلى قوات أو مجموعات محلية أفريقية، على غرار ما حدث في ليبيا، مطلع الشهر الجاري، في قاعدة الخروبة، عندما استهدفت طائرة مسيّرة قاعدة لقوات فاغنر، فإن ذلك يُعَدّ مغامرة غير محسوبة التبعات. ولن تؤدي إلى النتائج المرجوّة أميركيا، بل ستعزز حضور قوات فاغنر وانتشارها. وبالتالي، فإن التلويح الأميركي بفرض عقوبات على قوات فاغنر في أفريقيا، مستغلةً حادثة التمرد، لا يعدو عن كونه مناورة، نتائجها صفرية.