هل ينجح رهان إيطاليا على شمال أفريقيا لتعويض الغاز الروسي؟
عملت شركة "إيني" الإيطالية لشراء كميات إضافية من الغاز الجزائري، بالشكل الذي يرفع حجم مشترياتها من الجزائر بنحو 9 مليارات متر مكعب إضافية سنوياً خلال عامي 2023 و2024.
في ضوء العقوبات التي فرضتها دول غربية بقيادة الولايات المتحدة على موسكو، ما أدى إلى حظر صادراتها من النفط والغاز، تسعى دول أوروبية، في مقدّمها إيطاليا لزيادة وارداتها من الغاز باستيراده من دول عربية في شمالي أفريقيا.
وقد استقبلت روما 21 مليار متر مكعب من الغاز عام 2021 من الجزائر، مقارنة بنحو 29 مليار متر مكعب من روسيا، ما يدفع المتفائلين في إيطاليا إلى القول بإمكان وقف الاعتماد على الغاز الروسي وتعويضه من بوابة البحر المتوسط، وسط شكوك في مدى نجاح هذا المسار في سد احتياجات الدولة والمواطنين على حدّ سواء من الغاز، إذ من المعلوم أن إيطاليا كانت ثاني أكبر أسواق الغاز لشركة "غاوبروم" الروسية، ووفقاً لوزير التحوّل البيئي الإيطالي روبرتو سينجولاني فإن روسيا تمثل 40% من إجمالي الغاز المستورد لإيطاليا!.
وقد عملت شركة "إيني" الإيطالية لشراء كميات إضافية من الغاز الجزائري، بالشكل الذي يرفع حجم مشترياتها من شركة الطاقة الحكومية الجزائرية "سوناطراك" بنحو 9 مليارات متر مكعب إضافية سنوياً خلال عامي 2023 و2024، أي ما يعادل 12 في المئة من استهلاك روما من الغاز العام الماضي.
وتعد الجزائر المصدّر الأفريقي الأول للغاز والسابع عالمياً، لكنها في الآن نفسه تعاني سوء حال البنية اللازمة للإنتاج والتصدير، إضافة إلى ارتفاع حجم الغاز الذي يستهلك محلياً، كذلك من المرجّح أن يكون لدى الجزائر قدرات أقل مما يعلن، فضلاً عن أن حقول الغاز الجزائرية بحاجة إلى استثمارات ضخمة لزيادة إنتاجها.
ويؤدي ما سبق في الحصيلة إلى تراجع قدرة الجزائر على دخول سوق مصدّري الغاز العالميين، وهو ما أكدته تصريحات مدير مجمع "سوناطراك" البترولي الجزائري، توفيق حكار، بعد نحو شهرين من اندلاع الحرب في أوكرانيا، بأن الجزائر غير قادرة حالياً على أن توفّر البديل من الغاز الروسي بالنسبة إلى الشركاء الأوروبيين، وأن لدى بلاده حالياً بعض المليارات من الأمتار المكعبة الإضافية التي لا يمكن أن تحل محل الغاز الروسي.
وترتبط إيطاليا أيضاً بخطوط غاز قادمة من تونس وليبيا، كما تضع روما رهانات كثيفة على مصر في هذا المجال، وهناك حتى اليوم 4 خطوط لنقل الغاز من شمالي أفريقيا نحو أوروبا، إلا أن حزمة من الصعوبات تعرقل تطور عمليات التصدير، ففي ليبيا على سبيل المثال أوضاع أمنية مضطربة تحول دون إتمام عدد من الصفقات إضافة إلى النفوذ الروسي القوي في البلاد، تحديداً بالمناطق الشرقية.
أما خط أنابيب الغاز الذي يبدأ من الجزائر ثم يمر في تونس ومنها إلى صقلية ثم إلى داخل الأراضي الإيطالية، فيما يعرف بـ"خط الأنابيب عبر المتوسط"، فإن طاقته السنوية تبلغ 30 مليار متر مكعب، لكنه لم يشغّل بطاقته القصوى فترةً طويلة، كذلك فإن إنتاج حقل حاسي الرمل، الذي هو بمثابة العمود الفقري للمشروع، لم يتجاوز مستوى 20 مليار متر مكعب في السنوات الأخيرة، ولا يمكن زيادته إلا من خلال استثمارات عديدة، تحتاج إلى مزيد من ضخ الأموال وتوفير الوقت اللازم لعمليات تحديث المعدات وتطوير الإنشاءات.
وجود عسكري مكثف في المتوسط
بعد أيام من الأعمال التخريبية التي طاولت خطي غاز "السيل الشمالي" الممتدين من روسيا إلى ألمانيا تحت مياه بحر البلطيق، عملت البحرية الإيطالية لتعزيز وجود قواتها في البحر الأبيض المتوسط، وذلك قرب خطوط الغاز الممتدة إليها من تونس وليبيا والجزائر، في خطوة تكشف عن مدى القلق الذي ينتاب أوروبا جراء نقص إمدادات الغاز خصوصاً مع اقتراب دخول فصل الشتاء.
ويكشف مراقبون عن زيادة حجم الوجود العسكري الدولي في البحر المتوسط عموماً، كجزء من تبعات الصراع العالمي الذي يدور أحد فصوله داخل أوكرانيا، ويكتسب المتوسط أهمية كبيرة بحكم أنه يمثل الحدّ الجنوبي للقارة الأوروبية كذلك فهو نافذتها على أفريقيا، كما أنه دوماً ما يتحوّل في فترات التوتر الدولية إلى حلبة صراع تشهد تكسير عظام وحرب نفوذ بين القوى الكبرى، وقد شهد المتوسط في الأسبوع الماضي حركة ملحوظة للبحرية البريطانية على سواحل ليبيا، ونشاطاً مرصوداً للقوات التركية، ومن المرجّح أن يزداد الموقف تعقيداً.
وبحسب وسائل الإعلام الإيطالية فإن نحو 500 جندي يعملون لحماية خطوط الغاز في البحر المتوسط، وهم يتوزّعون على سفن وطائرات وقطع بحرية متنوعة، وتعد التعزيزات التي شملت 3 وحدات بحرية و12 مركبة تحت الماء وطائرات عمودية، أقصى قوة تشغيلية تم حشدها لمواجهة الأخطار في المتوسط.
وتأتي الخطوة التي اتخذتها البحرية الإيطالية، بالتزامن مع إعلان شركة "غازبروم" الروسية تعليق تسليم شحنات الغاز الطبيعي إلى إيطاليا، وهو ما يفاقم أزمة الطاقة لديها، وبالشكل الذي يجعل أنابيب الغاز التي تربط إيطاليا بشمالي أفريقيا مصلحة وطنية قصوى يلزم الدفاع عنها، حتى وإن لم تكن ستفلح في سد العجز الناجم عن وقف إمدادات الطاقة من روسيا.
وما زالت قطع البحرية الإيطالية تتحرك في حدود المياه الدولية، ولم يتطور الأمر إلى حد الدفع بها داخل المياه السيادية لدول جنوبي المتوسط، إلا أن كل الاحتمالات مفتوحة في ضوء تفاقم الإحساس بالخطر.
حالة قلق عالمي جراء تخريب "السيل الشمالي"
أثارت عمليات التخريب التي استهدفت خطَي غاز "نورد ستريم" حالاً من القلق في العالم، فما حدث لخطي الغاز كان بمثابة صدمة هزّت الثقة المتبادلة بين الأمم، ولم تعُد تالياً البُنى التحتية لخطوط الأنابيب آمنة، سواء أكانت في البر أم البحر، حيث تدخل نشاطات التخريب كجزء من أدوات الحرب الهجينة التي لا تقل فعالية عن تحركات الدبابات وتحليق الطائرات.
ويعد الهجوم على "نورد ستريم" تطوراً خطراً في معارك تكسير العظام الدائرة بين موسكو من جهة، وواشنطن من جهة أخرى، وعلى مدار الأيام الماضية، تبادل الغرب وروسيا الاتهامات بشأن الوقوف وراء العمل التخريبي لخطي الغاز بين روسيا وأوروبا، حيث وجّهت كييف الاتهامات إلى موسكو، بتنفيذها عمليات التخريب بغرض وقف إمدادات الغاز إلى أوروبا، في المقابل أشار الكرملين إلى مسؤولية دول أجنبية عن إفساد خطي الغاز، كما أعلنت أجهزة الأمن الروسية فتح النيابة العامة تحقيقاً في تخريب خط الغاز، مؤكدة تعرض روسيا لضرر اقتصادي كبير جراء الحادث.
وقد شهد خط الغاز "نورد ستريم" على مدار الأيام الخمسة الأخيرة من شهر أيلول/سبتمبر عمليات تخريبية عدة، تسببت بحدوث تسريب في أربع نقاط تحت البحر، ما يجعل تكلفة الإصلاح باهظة وخطرة في الآن نفسه، وتعد روسيا هي الخاسر الأكبر باعتبارها المالك.
انعكاس ما يجري على دول الجنوب
من المؤكد أنه في ضوء إحساس الدول الأوروبية بالخطر، سواء بسبب وقف إمدادات الطاقة أو تطور الحرب إلى حد تخريب خطوط الغاز تحت البحر، فإنها ستتوجه، على شاكلة إيطاليا، نحو الجنوب لاستيراد ما يلزمها من المواد النفطية والغاز من جهة ولتعزيز حضورها السياسي والعسكري من جهة أخرى، وهو ما يعد فرصة للدول العربية والأفريقية التي تملك فائضاً يمكنها تصديره، أو التي يمكن أن توفر لنفسها مكاناً في عمليات الإنتاج والتوصيل.
إلا أن عدم استعداد أغلب دول الجنوب لمثل تلك الحوادث العالمية، يجعلها عاجزة عن مجاراتها بالأسلوب المناسب، بالشكل الذي قد يحوّل الأمر من مغنم إلى مغرم، فتهالك البنى التحتية اللازمة لعمليات الإنتاج والتصدير تجعل عدداً من البلدان المُطلة على البحر المتوسط عاجزة عن تلبية حاجات المستوردين المتزايدة، ما يدفعها في الختام إلى توسّل المساعدة من المستثمرين العابرين للحدود، الذين يضعون شروطاً عند التعاقد، ربما تحجب المكاسب عن أصحاب الثروات الأصليين، كما أن الوقت اللازم للتطوير يهدر كثيراً من الوقت وكثيراً من الثورة تالياً، أما إحساس الدول الكبرى بالقلق المتزايد فإنه يُترجم في مزيد من العسكرة والتجييش خارج الحدود بالشكل الذي يحسم كثيراً من سيادة الدول الأضعف التي تتحوّل أراضيها ومياهها الإقليمية إلى ساحة صراع، فيما تبقى حكوماتها على مقاعد المشاهدين.
في الحصيلة فإن العالم يشهد حال اضطراب واسعة، إلا أن هذا الوضع غير المألوف لا يمنع من تحقيق أطراف داخل الصراع أو خارجه عدداً من المكاسب، بل إن حال القلق وما يصاحبها من صعوبات، كثيراً ما تكون أشبه بمخاض يؤدي إلى ظهور مولود جديد؛ عالَم جديد تتوسع فيه دول وتتقلّص أخرى، وتصعد فيه قوى إلى القمة بينما تهبط أخرى إلى القعر، بيد أن عزوف عدد من العواصم العربية المؤثرة تاريخياً عن الاشتباك في أتون الصراع الدائر -لأسباب موضوعية وأخرى اختيارية- بالشكل الذي يوافقها ويحقّق مصالحها، يفوّت عليها فرصاً تاريخية ربما للصعود.