ملامح وآفاق الخطة العسكرية الروسية في أوكرانيا

مع انطلاق العمليات العسكرية الروسية، اتضح أن الخطة المتبعة كانت تستهدف تحقيق أهداف عدة سيناريوهات هجومية كانت مطروحة سابقاً.

  • النقطة الأساسية في خطة التحرك العسكري الروسية كانت في اعتمادها على ثلاثة محاور رئيسية في التحرك الميداني، استهدفت في كل منها تحقيق أهداف مرحلية وتكتيكية مختلفة.
    النقطة الأساسية في خطة التحرك العسكري الروسية كانت في اعتمادها على ثلاثة محاور رئيسية في التحرك الميداني، استهدفت في كل منها تحقيق أهداف مرحلية وتكتيكية مختلفة.

قبيل بدء الهجوم الروسي الواسع النطاق "على مستوى القوة النارية"، والمركّز "على مستوى محاور الهجوم" في أوكرانيا، كانت السيناريوهات المطروحة لمحاور هذا الهجوم وأهدافه تراوح بين إطلاق عملية محدودة في إقليم الدونباس شرقي البلاد، وتنفيذ عملية عسكرية شاملة للسيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية، من المحاور الهجومية المتوافرة كافة، شمالاً وشرقاً وجنوباً. لكن مع الانطلاق الفعلي للعمليات العسكرية الروسية، اتضح أن الخطة المتبعة كانت تستهدف تحقيق أهداف عدة سيناريوهات هجومية كانت مطروحة سابقاً في آن واحد.

لكن قبل التطرق إلى طبيعة الخطة الميدانية الروسية، لا بد من النظر إلى أزمة مشابهة للأزمة الحالية في أوكرانيا، ألا وهي حرب "أوسيتيا الجنوبية" بين جورجيا وروسيا عام 2008، التي يمكن أن نعتبرها بمنزلة شرارة انطلاق للمساعي الروسية نحو العودة إلى حقبة سابقة، كانت تُعتبر فيها قوة عظمى، تمتلك من الأدوات العسكرية والاستراتيجية ما يسمح لها بالتدخل في أي منطقة في العالم، من دون النظر إلى أي اعتبارات دولية أو إقليمية. في ذلك التوقيت استشعرت موسكو محاولات حلف الناتو ضم جورجيا إليه، وهو ما ظهر واضحاً خلال قمة الحلف التي انعقدت في نيسان/ أبريل من العام نفسه في رومانيا، عندما قدّم أعضاء حلف الناتو وعداً بضم جورجيا إلى الحلف.

لذا بدأت موسكو في ذلك التوقيت بالتجهيز للتدخل الميداني في جورجيا، للحؤول دون انضمامها إلى الحلف، لكن، كانت المعضلة تكمُن في كيفية "تأطير" هذا التدخل، وجاء الحل في تفعيل ملف إقليم "أوسيتيا الجنوبية" شمالي جورجيا، وإقليم "أبخازيا" شمال غربها، اللذين أعلنا استقلالهما من جانب واحد، وشرعت تبليسي في الهجوم العسكري على كلا الإقليمين في آب/أغسطس 2008. 

في ذلك التوقيت أشارت تقديرات الولايات المتحدة إلى أن روسيا لن تتدخل عسكرياً في كلا الإقليمين لحمايتهما من الهجوم العسكري الجورجي. تمّ بناء هذا التقدير على الأداء الروسي في أزمات سابقة مشابهة منذ نهاية الحرب الشيشانية الثانية، على رأسها الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والذي فقدت بسببه روسيا حليفاً مهماً ظل على مدى عقود يُعتبر من الحلفاء الطبيعيين لها في الشرق الأوسط. 

التقديرات الغربية في تلك الأزمة كانت خاطئة بشكل فادح، حيث ظلت تراهن على قدرة القوات الجورجية على اكتساح القوات الانفصالية الموجودة في أوسيتيا وأبخازيا، إلا أن الجميع فوجئ بدخول القوات الروسية على الخط، ما تسبّب في فشل نحو 120 ألف جندي حشدتهم جورجيا من أجل إعادة السيطرة على المنطقتين اللتين كانتا تتمتعان بشبه حكم ذاتي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، في تحقيق أهدافهم الأساسية، ومُنيت القوات الجورجية بخسائر فادحة، اتضح من خلالها ضلوع أطراف غربيين وإقليميين، منهم "إسرائيل"، في تشجيع جورجيا على خوض هذه المغامرة الميدانية، فانتهت الحال بالجيش الجورجي إلى خوضه معارك للدفاع عن مناطق تقع في العمق الجورجي، مثل مدن "غوري" وكاسبي"، ومن ثم اضطر إلى قبول وقف إطلاق النار بعد اندلاع المعارك بشهرين، والقبول بالوضع القائم لكل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، حيث اعترفت بهما موسكو كجمهوريتين مستقلتين في العام نفسه.

أوجه الشبه عديدة بين الحالة الانفصالية الجورجية والحالة الانفصالية في أوكرانيا، أهمها في كون كلتا الحالتين من نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وكذلك استغلال موسكو لهما من أجل فرض أمر واقع ميداني وسياسي، عبر تقديم الدعم العسكري أولاً، ثم الاعتراف بالجمهوريات الانفصالية بشكل يسمح لموسكو في أي وقت بالوجود ضمن أراضي هذه الجمهوريات، في حال دعت الضرورة إلى ذلك، وهو ما حالَ - في الحالة الجورجية - دون انضمامها إلى حلف الناتو، وقد يكون حائلاً، أو حتى معطّلاً، لانضمام كييف إلى الحلف.

أوجه الشبه بين الحالتين تمتد إلى الواقع الميداني العسكري؛ ففي الحالة الجورجية، انخرطت موسكو في معارك شرسة مع القوات الجورجية، في حين كان إقليم الدونباس، منذ عام 2014، بمنزلة خط مواجهة عسكري لمعارك مستمرة بين القوات الانفصالية المدعومة من موسكو، والجيش الأوكراني، وهي معارك استمرت بشكل متغيّر الوتيرة حتى بعد توقيع اتفاقية "مينسك" أوائل عام 2015، والتي كانت تستهدف وقف إطلاق النار في الإقليم، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وهو ما لم يحدث فعلياً. 

كلمة السر في الدونباس

بالعودة إلى الحالة الأوكرانية، يمكن القول إن ملف إقليم "الدونباس" شرقي أوكرانيا، يُعدّ من أهم العوامل التي أدّت إلى المشهد الحالي، فقد لجأت موسكو إلى ورقة الدونباس، كمحصّلة طبيعية للمعادلة الصفرية التي نتجت عن عدم تجاوب الكتلة الغربية مع المطالب الروسية بشأن "الضمانات الأمنية"، والتي بدأت موسكو بحشد القوات منذ أوائل العام الماضي من أجلها. منطقياً، كان اللجوء إلى هذه الورقة هو الأجدى على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، فقوات الدونباس الانفصالية، التي تصاعد مستوى تسليحها خلال السنوات الأخيرة، ليشمل منظومات ذاتية الحركة للدفاع الجوي، إلى جانب العربات المدرعة والدبابات ومدافع الميدان، توفر لموسكو هامشاً للمناورة تستطيع من خلاله الرد ميدانياً على رفض الغرب التعاطي معها، وقد تكون من أهم أدوات فرض قبول الأمر الواقع على كييف، كما حدث سابقاً في الحالة الجورجية. 

يُضاف إلى ذلك أن تفعيل هذه الورقة سيضع القيادة الأوكرانية بين خيارين مرهقين سياسياً وميدانياً، ما بين القبول بالأمر الواقع، أو الانخراط في معارك استنزافية يومية، شهدنا بعض ملامحها خلال الأيام القليلة الماضية.

حقيقة الأمر أن موسكو قد عكفت منذ سنوات على تكريس الوضع القائم في إقليم الدونباس، ليس فقط عبر الدعم العسكري للقوات الانفصالية الموجودة في الإقليم، والتي راكمت خبرات عسكرية ميدانية عديدة على مدار السنوات الماضية، بل أيضاً عبر وجود وحدات عسكرية روسية نظامية داخل هذا الإقليم، وإن كان هذا الوجود بشكل غير رسمي، حيث تشير التقديرات المتوافرة إلى أن موسكو كانت تحتفظ بشكل دائم في مدينتي "لوغانسك" و"دونيتسك" بوحدات عسكرية مساندة للقوات الشعبية، حيث تمركز في مدينة "لوغانسك" وفي مدن "إلشيفسك" و"بريانكا" و"كاديفكا" الواقعة جميعها شمال غرب "لوغانسك"، فيلق تابع للجيش الروسي الثاني، كقوة داعمة للكتائب الثلاث التابعة للقوات الشعبية. أما في دونيتسك، فيتمركز داخل المدينة وفي مدينتي "ماكيفيكا" و"هورليفكا" الواقعتين شمالها، فيلق تابع للجيش الروسي الأول.

منذ عام 2015، شهدت خطوط التماس داخل إقليم الدونباس اشتباكات مدفعية متقطعة بين القوات الانفصالية الشعبية والقوات الأوكرانية، ضمن واقع ميداني جعل خط التماس بين الجانبين يقع على تخوم القسم الجنوبي من إقليم "لوغانسك"، الذي يضم أربع مناطق من إجمالي ثماني مناطق إدارية يتشكل منها هذا الإقليم، والقسم الشرقي من إقليم "دونيتسك"، الذي يضم ثلاث مناطق من إجمالي ثماني مناطق إدارية يتشكل منها هذا الإقليم. بات التراشق المدفعي بين الجانبين يتم على طول خط التماس، وبشكل خاص حول المحاور الأربعة المؤدية إلى المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون، وهي محور مدينة "لوغانسك" ومحور "كاديفكا" ومحور "هورلفكا"، إلى جانب محور مزدوج يؤدي إلى مدينة "دونيتسك".

ما هي الخطة العسكرية الروسية في أوكرانيا؟

النقطة الأساسية في خطة التحرك العسكري الروسية كانت في اعتمادها على ثلاثة محاور رئيسية في التحرك الميداني، استهدفت في كل منها تحقيق أهداف مرحلية وتكتيكية مختلفة، فكان المحور الأول هو المحور الشرقي، الذي جرت فيه العمليات البرية من اتجاهين متقابلين، الأول من داخل مدينة "لوغانسك" باتجاه الشمال، والثاني من مدينة "بيلوغراد" الروسية - أحد أهم مراكز الحشد العسكري الروسية خلال الأيام الماضية - في اتجاه مدينة "خاركيف" الأوكرانية. المحور الهجومي الأساسي الثاني كان المحور الجنوبي، من شمال جزيرة القرم باتجاه منطقة "خيرسون"، ونحو مدينتي "ماريوبول" و"أوديسا"، أما المحور الثالث، فهو المحور الشمالي انطلاقاً من جنوب بيلاروسيا.

في اليوم الأول لانطلاق العمليات العسكرية الروسية، بدا أن الهدف الأساسي كان تحقيق سيناريو الاتصال البري بين شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس، عبر السيطرة على كامل الساحل الأوكراني على بحر آزوف وصولاً إلى المناطق الجنوبية لإقليم "دونيتسك"، إلى جانب تأمين كامل الحدود الإدارية لإقليم الدونباس. 

صاحبت عمليات هذا اليوم ضربات جوية وبحرية روسية واسعة، كانت الصواريخ الجوالة هي أداتها الأساسية، وركزت بشكل أساسي – إلى جانب تقديم الدعم الجوي للقوات الانفصالية في "دونيتسك" و"لوغانسك" - على استهداف المواقع العسكرية الأساسية في أنحاء أوكرانيا كافة، وعلى رأسها تلك الموجودة في المدن الرئيسية، مثل العاصمة كييف، ومدينة خاركيف على الحدود الشرقية لأوكرانيا، إلى جانب مدينة "لفيف"، في أقصى غرب البلاد، ومدينة "لوستك" القريبة من الحدود البولندية، وقد حمل استهداف كلتا المدينتين تحدياً واضحاً من جانب موسكو للغرب، الذي كان يعتبر هذا النطاق بمنأى عن أي تحرك عسكري روسي.

بشكل عام ركّزت هذه الضربات التي شاركت فيها المروحيات القتالية - في المناطق الحدودية - على مراكز القيادة والسيطرة الخاصة بالدفاع الجوي، إلى جانب المطارات والقواعد الجوية كافة، والمواقع الأساسية لتخزين الذخائر والعتاد العسكري، وهو تكتيك قديم كان متبعاً على مدار عقود، ضمن ما يسمى "الضربة الإجهاضية الشاملة"، التي تفقد الطرف الآخر القدرة على إدارة المعركة أو تقديم الدعم الجوي لقوات المشاة، وتوفر في الوقت نفسه وسطاً آمناً للطائرات القاذفة.

لكن مع بداية عمليات اليوم الثاني، وقيام القوات المظلية الروسية بعمليات إنزال جوي في عدة مناطق في العاصمة كييف، وتمكن الوحدات الروسية المتقدمة من جنوب روسيا البيضاء من تأمين منطقة "تشيرنوبل" التي تُعدّ خاصرة أساسية للعاصمة كييف من الشمال، اتضح أن الهدف الأساسي لكامل العملية الروسية مختلف عن التقديرات السابقة، حيث أشارت التحركات العسكرية الروسية التي فتحت محوراً شمال شرقي منطقة "خاركيف"، إلى أن موسكو تريد السيطرة على كامل المقاطعات الأوكرانية الموجودة شرق نهر "دنيبر"، بما في ذلك العاصمة كييف، بهدف الضغط على الحكومة الأوكرانية للتفاوض بشأن "الحياد الأوكراني".

تكتيكياً، يمكن القول إن الجيش الروسي يتبع تكتيكاً جامعاً بين مبدأ "الصدمة والرعب" ومبدأ "تعدد الجبهات"، ما يسهم في إرهاق القوات الأوكرانية، وشلّ فعالية منظومة القيادة والسيطرة الخاصة بها، والتي تلقّت ضربات موجعة خلال الأيام الماضية. 

على مستوى المحاور القتالية، كانت التحركات العسكرية الروسية في الجبهة الشمالية أسرع وتيرة من الجبهات الأخرى، وكان الهدف من هذه التحركات مزدوجاً؛ فمن ناحية استهدفت القوات الروسية تأمين منطقة "تشيرنوبل"، والاقتراب بشكل كبير من التخوم الشمالية للعاصمة كييف، ومن ناحية أخرى وصْل هذه الجبهة بالمحور الشمالي الشرقي "خاركيف"، الذي تستمر عمليات الجيش الروسي فيه بهدف السيطرة على المدن الرئيسية "خاركيف"- سومي"، وسيسهم التقدم في الجبهة الشمالية في الضغط بشكل أكبر على المناطق الشمالية لمدينة "سومي" وخلخلة المقاومة الأوكرانية في هذا المحور.

الجبهة الشرقية تشهد قتالاً عنيفاً في محورها الأساسي شمال "لوغانسك"، حيث تستهدف القوات الانفصالية تشتيت القوى الأوكرانية في إقليم الدونباس، التي باتت تقاتل في هذه الجبهة، وفي المحور الشمال الشرقي. الجبهة الجنوبية تبدو الأهم والأكثر زخماً خلال الساعات الماضية. فبعد نجاح القوات الروسية في عبور قناة "القرم" التي تفصل بين شبه جزيرة القرم والأراضي الأوكرانية، انفتحت هذه القوات بشكل أكبر نحو ثلاثة محاور رئيسية؛ المحور الأول شمالاً نحو مدن وقرى منطقة "خيرسون"، والنقاط العسكرية الأوكرانية جنوب نهر "دنيبر"، خاصة مدينة "ميكوليف"، والمحور الثاني شرقاً نحو مدينة "ميليتوبول" التي تمكنت القوات الروسية من دخولها، ويُتوقع تطوير الهجوم أكثر نحو الشرق للسيطرة على مدينة "ماريوبول" الاستراتيجية، وعزل الساحل الأوكراني على بحر آزوف بشكل كامل، وتحقيق سيناريو الاتصال البري بين جنوب الدونباس وشبه جزيرة القرم. المحور الثالث هو نحو مدينة وميناء "أوديسا" على البحر الأسود، وهي مدينة استراتيجية أيضاً تعرّضت لقصف عنيف طال المواقع البحرية المحيطة بها، لكن، يبدو التقدم الروسي نحوها بطيئاً نوعاً ما.

جدير بالذكر هنا أن الجيش الروسي طبّق أسلوباً استخدمته القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية في عدة دول في أوروبا الشرقية، وهو أسلوب الإنزال المظلي على المطارات بهدف السيطرة عليها والتمترس داخلها، لاستخدامها في نقل القوات إلى العمق المعادي، وهذا ما حدث في عدة مناطق في العاصمة الأوكرانية وضواحيها، وخاصة مطار "أنتونوف" العسكري، الذي تمكنت القوات الروسية من تنفيذ إنزال في محيطه، في حين تمكّن بعض الوحدات المظلية الأخرى من الدخول إلى بعض مناطق العاصمة، وشنّ عمليات أشبه بـ"العمليات التخريبية" ضد الوحدات الأوكرانية الموجودة هناك. 

من اللافت أيضاً أن الدفاع الجوي الأوكراني المحمول على الكتف، وخاصة صواريخ "ستينغر" الأميركية، وكذلك الصواريخ المضادة للدروع، تمكنت من إلحاق بعض الخسائر بالدبابات والمروحيات الروسية، لكن لم يكن هذا عاملاً فاصلاً في التطورات الميدانية، حيث حققت القوات الروسية تقدّماً كبيراً جنوباً، وتقدماً أقل وتيرة في الشرق، إلى جانب عمليات كرّ وفرّ في الجبهة الشمالية.

مآلات الوضع في أوكرانيا

تبدو الموازين الميدانية - بشكل صارخ - في غير صالح القوات الأوكرانية، بما يجعل المعركة محسومة بنحو شبه كامل لصالح الجيش الروسي، وإن كان بعض الآراء يشير إلى إمكان تحقق سيناريوهات تاريخية سابقة، مثل سيناريو المواجهة بين القوات الفنلندية والسوفياتية في شتاء عام 1939، حين كان حجم القوات السوفياتية يناهز ثلاثة أضعاف حجم القوات الفنلندية، عشية بدء العمليات السوفياتية، بهدف السيطرة على كامل الأراضي الفنلندية بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بثلاثة أشهر فقط. وحينذاك، ورغم أن التفوق السوفياتي كان كاسحاً، سواء في ما يتعلق بأعداد الجنود، أم في ما يتعلق بالدبابات والطائرات القاذفة، فإن القوات الفنلندية القليلة العدد تمكّنت من التماسك.

كذلك تطرح هذه الآراء نموذج تدخل حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا السابقة، في آب/ أغسطس عام 1968، كمثال قريب لما يمكن أن تكون الحال عليه إذا ما تدهورت الأوضاع الميدانية بشكل أكبر. هذا المثال يحمل في طيّاته عنصرين أساسيين ربما يرتبطان بشكل أو بآخر بالأزمة الأوكرانية؛ الأول هو حقيقة أن التحرك العسكري لقوات حلف وارسو، وبشكل محدد القوات السوفياتية والبولندية والمجرية والبلغارية في اتجاه مدينة براغ، جاء بعد أن قامت هذه القوات بعمليات تمويه، تمّ فيها جمع القوات المشاركة في الهجوم تحت ستار تنفيذ "عمليات تدريبية". العنصر الثاني يكمن في أن بعض المحللين يرون إمكانية كبيرة لحدوث "مقاومة مدنية" من جانب السكان الأوكرانيين في حال اجتاح الجيش الروسي مدنهم، على غرار ما قام به السكان في تشيكوسلوفاكيا، حين قاموا بتضليل القوات السوفياتية، وذلك بأن غيّروا أسماء بعض القرى والمدن والشوارع. 

بغض النظر عن مآلات الوضع الميداني الحالي في أوكرانيا، تبدو الصورة واضحة جداً، ومفادها أن الغرب وجد نفسه للمرة الثالثة بعد حرب أوسيتيا الجنوبية والسيطرة على شبه جزيرة القرم، أمام موقف عسكري لا يملك التدخل فيه بشكل مباشر أو نوعي، لكن الأكيد أن نتائج المواجهة الحالية في أوكرانيا ستكون لها تبعات طويلة الأمد على العلاقة بين روسيا والقوى الغربية، بما يشكل خطوطاً حمراً جديدة في أوروبا الشرقية، وخاصة بعد تحذير موسكو من انضمام دول جديدة في هذا النطاق إلى حلف الناتو.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.