ملامح الرد وما بعده.. حافة الحرب
في وقت كانت الجبهة اليمنية تعلن مراحل عملياتها العسكرية، وصولاً إلى المرحلة الخامسة، ربما غاب عن كثيرين أن حزب الله سوف يصل قريباً إلى المرحلة الرابعة، لكن من دون إعلان ذلك.
وضع أمين عام حزب الله خلال تشييع القائد الجهادي الكبير، فؤاد شكر، قبل أيام ملامح الرد على عملية الاغتيال، مبقياً في الوقت نفسه على مساحة من الغموض البناء. خلال الخطاب تحدّث السيد نصر الله عن تعطيل أهداف العدو، وعن معادلة الغضب والحكمة والتعقل التي تحكم أسلوب عمل المحور، مؤكداً أن جبهات الإسناد دخلت بعد سلسلة الاعتداءات الأخيرة مرحلة جديدة مغايرة عن السابق.
تشكّل العناوين الثلاثة مفاتيح التعمّق في فهم حاضر المواجهة ومستقبلها، انطلاقاً من طريقة التفكير التي تحكم إدارة المعركة من جانب المقاومة. هذا يستدعي بالضرورة مغادرة منطقة الانفعال، والخروج من تفاصيل المواجهة الدائرة اليوم ومستجداتها في مختلف جبهات الإسناد إلى حيّز المسار العام الاستراتيجي للمواجهة.
بالتأكيد، ليس تفصيلاً نجاح "إسرائيل" في اغتيال شخصيتين وازنتين من محور المقاومة، لكن هناك فارقاً بين النجاح التكتيكي والإنجاز الاستراتيجي. المغزى، أنه على الرغم من تمكّن الإسرائيلي من جباية ثمن مؤلم ومعنوي من محور المقاومة، فإن مأزقه ما زال ماثلاً، وربما يزداد اتساعاً بعد ردود المحور، ويثبت من جديد أنه أخطأ التقدير. في كل الأحوال، هذا ما يتوعد به مسؤولون وقادة من المحور، بينما يؤكد العقيد في الاحتياط الإسرائيلي كوبي ميروم أن الاغتيالات لم تغير الواقع الاستراتيجي لـ"إسرائيل".
تعطيل الأهداف
تعددت القراءات بشأن خلفية الخطوة التي أقدمت عليها "تل أبيب" في استهداف القائدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر، والتي عدّها محور المقاومة تجاوزاً للخطوط الحمر.
البعض عدّ أنها تتناغم مع رغبة بنيامين نتنياهو المضمَرة في توسيع دائرة الاشتباك، انطلاقاً من مصلحة خاصة غايتها إطالة أمد الحرب، وهذا ما يجد صداه في تصريحات نتنياهو نفسه، الذي جدد تأكيده بعد عودته من واشنطن أن الحرب ستكون طويلة، كما يجد صداه في تقديرات خبراء إسرائيليين ومراكز أبحاث بشأن نيات نتنياهو في توسيع الحرب، بالإضافة إلى تصريحات رسمية صادرة بهذا الاتجاه عن بعض الدول، مثل مصر والأردن وروسيا وتركيا، وما سبقها من تصريحات للرئيس الأميركي قبل شهور بشأن وجود نيات لنتنياهو في توريط الأميركيين في الصراع.
البعض الآخر ربط التصعيد الإسرائيلي الأخير بزيارة نتنياهو واشنطن، بينما أشار آخرون إلى أن الهدف منها هو الضغط على المحور، وجني أثمان باهظة منه، بهدف كسر حلقة النار التي تطوّق الإسرائيلي وتُحرجه وتعمّق مأزقه مع استمرار الحرب. عدا عن ذلك، يمكن إدراج هدفين رئيسَين لهذه الخطوة، يقضي أولهما بمحاولة تقويض الروح المعنوية لمحور المقاومة، وهذا ما اختار السيد حسن نصر الله الحديث عنه خلال تشييع الشهيد شكر. ويقضي ثانيهما بمحاولة رفع معنويات الجبهة الداخلية الإسرائيلية وترميم الردع، ومراكمة رصيد من الإنجازات الشخصية الكفيلة بإعادة تعويم نتنياهو وتقليص خسائره، في ضوء ما عكسته استطلاعات الرأي من تراجع في رصيده خلال الشهور المنصرمة.
مهما تكن الأسباب والأهداف فإن الثابت أن الواقع الحالي، الذي فرضته جبهات الإسناد، هو واقع يستنزف "إسرائيل" ويقوّض منعتها ويعزز مأزقها مع مرور الوقت، انطلاقاً من أن هذه الجبهات فرضت مساراً متصاعداً من الضغوط، يؤشر خطها البياني على أنها ستتضاعف في الأسابيع والشهور المقبلة بهدف وقف الحرب. ليس أدل على ذلك، سوى استهداف "تل أبيب" بمسيرة يمنية قبل أقل من 3 أسابيع، وإشارة عضو المكتب السياسي لحركة أنصار الله حزام الأسد في تصريح للميادين على إثرها إلى دخول مرحلة استراتيجية جديدة ضد العدو، وقوله إن هذه العملية تمثل باكورة عمليات تصعيدية مقبلة. بالتوازي، كانت المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن دخول ثلاث مستوطَنات جديدة دائرة الاستهداف، وتدشن صاروخ "وابل" الثقيل في المواجهة، وهو من عائلة صواريخ "بركان"، لكن زنته وقدرته التدميرية أكبر. كما أعلن السيد نصر الله، في خطاب العاشر من محرم، أن تمادي العدو في استهداف المدنيين سيدفع المقاومة إلى استهداف مستوطَنات جديدة.
ملامح الرد والمرحلة المقبلة
انطلاقاً مما تقدّم، يمكن القول إن تعطيل أهداف العدو، وفق منطق الحكمة والغضب، من جانب المقاومة في لبنان، يضع ردها الحتمي بين اعتبارين: أولاً، عدم الانجرار إلى المنطقة التي يريدها نتنياهو في الأسلوب والتوقيت. وثانياً، إعادة التوازن إلى قواعد الاشتباك، التي حاول الإسرائيلي تجاوزها.
لا شك في أن هذا الهدف يمثّل تحدياً أمام المقاومة اللبنانية، وخصوصاً أن خطوة الاغتيالين الأخيرين، وفق الأسلوب والمكان اللذين جريا فيه، بدت كمحاولة لاستجرار التصعيد. في هذه الحالة، يبدو منطقياً الاستنتاج أن من يقف خلف هذه الخطوة لن يتوقف عند هذين الاغتيالين اللذين أشارت جهات غربية إلى أنهما مثّلا استفزازاً غير ضروري. في هذه الحالة أيضاً، أي استمرار نتنياهو في تجاوز الخطوط الحمر، قد يصبح الرد المتماثل، المؤلم والرادع، أكثر حضوراً من حذر الانسياق إلى حيث يسعى نتنياهو حتى لو كانت النتيجة مزيداً من التصعيد.
مع الأخذ في الاعتبار أن "إسرائيل" غير قاصرة عن اختلاق ذرائع في حال قررت الذهاب إلى التصعيد، كما جرى في حادثة مجدل شمس، يبقى في جعبة المقاومة اللبنانية الكثير من الأسلحة والتكتيكات التي قررت ألّا تكشف عنها بعد في هذه المعركة، وقد تضطر إلى ذلك بعد وقت قليل.
الأهم من ذلك، عند مقاربة طبيعة الردود المرتقبة، الالتفات إلى أن الأمر لا يتعلق برد حزب الله بصورة منفصلة، وأن أي هدف أو إصابة أو نتيجة يتم تحقيقها، سواء جاءت من الشرق أو الشمال أو الجنوب، تمثّل فعلياً كل أطراف المحور، وأكثر من ذلك، تمثّل كل مناصري القضية الفلسطينية، وتحقق النتيجة والغاية المطلوبتين.
لقد سبق أن حددت طهران ملامح الثأر الإيراني المرتقب، معلنة أنه سيكون مؤلماً وقاسياً وغير شكلي، وتوعّد السيد نصر الله الإسرائيليين بأنهم سيضحكون قليلاً ويبكون طويلاً. بناء على ذلك، قد يتحول التحدي إلى فرصة، في حال نجحت أطراف المحور في إعادة رمي كرة النار في الملعب الإسرائيلي من خلال عملية توزيع أدوار تتيح رداً منسقاً يُجبر الطرف الإسرائيلي ومَن "وراءه" على إعادة الانتظام ضمن قواعد الاشتباك التي حددتها المقاومة.
الارتقاء من دون ضجيج
بينما تتسابق المساعي الدولية والإقليمية بين محاولة خفض التصعيد الإقليمي ووضع حد للحرب الإسرائيلية، وبين ردود محور المقاومة المرتقبة، في ظل عدم ظهور إرادة أميركية جدية للضغط على نتنياهو بعد، يبدو أن الطرف الإسرائيلي قرأ، ومعه بعض الجهات الأميركية، المسار التصاعدي في جبهات الإسناد، وهو مسار من شأنه، كما سبق، أن يعمّق المأزق الإسرائيلي ويضاعف خسائره. في هذا السياق، من المفيد الالتفات بصورة خاصة إلى سمات التكتيك الذي اتبعه حزب الله منذ بداية المعركة.
في وقت كانت الجبهة اليمنية تعلن مراحل عملياتها العسكرية، وصولاً إلى المرحلة الخامسة التي نحن في صددها اليوم، ربما غاب عن كثيرين أن حزب الله سوف يصل قريباً إلى المرحلة الرابعة أو الخامسة، لكن من دون إعلان ذلك.
في المرحلة الأولى، اقتصر الأمر على المواجهة عند حدود الحافة الأمامية، وشمل المواقع العسكرية وأجهزة الرصد والمراقبة، ثم توسّع إلى عمق بضعة كيلومترات، وبعد ذلك إلى عمق الجليل والجولان، معتمداً، في كل مرحلة، أسلحة جديدة وأساليب جديدة ومدى أبعد وأهدافاً نوعية. هذه العملية المتصاعدة كانت تجري بالتوازي مع كل اغتيال جديد يقدم عليه الطرف الإسرائيلي، وشكّلت كل مرحلة جديدة نقطة ارتكاز جديدة ضمن مسار تصاعدي. هذا ما حدث بعد اغتيال القائدين أبي طالب وأبي نعمة، وهذا مغزى ما أشار إليه السيد نصر الله بعد اغتيال السيد محسن، ومفاده أن جبهات الإسناد دخلت مرحلة جديدة من المواجهة.
مجموعة من وسائل الإعلام الإسرائيلية تنبهّت لذلك منذ شهور، ووصفت الأداء الذي يميّز حزب الله في هذه المواجهة بأنه ذكي. لم تترك الأمر غامضاً، فشرحت أن كلاً من الطرفين، حزب الله و"إسرائيل"، يتجنب، في إطار الصراع على الشرعية والمشروعية في الساحة الدبلوماسية، أن يبدو كأنه متسبب بالتصعيد.
على امتداد الأشهر المنصرمة، نجحت المقاومة في لبنان في أخذ زمام المبادرة، وجرّت "إسرائيل" إلى موقع رد الفعل، وكانت ترتقي في المواجهة وتطبّع العدو على ذلك، من دون أن تتحمّل مسؤولية التصعيد أو تظهر كأنها المتسببة بذلك. طوال هذه الفترة، لم يستطع الطرف الإسرائيلي التفلّت من الإيقاع التي رسمته المقاومة منذ اليوم التالي لطوفان الأقصى، على رغم الحسابات المعقّدة على مستوى الداخل اللبناني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي.
ربما من المجدي، في هذا الإطار، استعادة بعض الشواهد الإسرائيلية التي تصبّ في هذا المنحى. قال رئيس الفيلق الشمالي سابقاً في جيش الاحتلال، نوعام تيبون، إن حزب الله هو من يُمْلي الوتيرة في الشمال، وقال رئيس مجلس "المطلة"، دافيد أزولاي، إن حزب الله هو من يحدّد حجم اللهب، ويحدّد متى يطلق النار وكيف يطلقها، وإلى أين. بعد خطاب العاشر من محرم، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن نصر الله قلب الطاولة في تهديد جديد لـ"إسرائيل"، بينما أشارت أخرى إلى أن تهديد نصر الله بتوسيع القتال مقلق، و"لم نسمع مثيلاً له منذ الـ7 من أكتوبر". وفي تاريخ العاشر من الشهر المنصرم، بعد أيام على استشهاد محمد نعمة ناصر (أبي نعمة)، ذكرت صحيفة "معاريف" أن حزب الله يقوم بتوسيع منطقة المواجهة ويلقّن "إسرائيل" دروساً في الاستراتيجيا.
أيضاً نقلت وسائل إعلام إسرائيلية، عن رئيس مجلس "مرغليوت"، أن من يدير الحدث في الشمال هو السيد نصر الله، و"نحن نلتزم الوتيرة التي يحددها لنا"، بينما أشار رئيس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، اللواء في الاحتياط غيورا آيلند، إلى أن الضرر اللاحق بـ"إسرائيل" أكبر كثيراً من الضرر اللاحق بحزب الله. وتحدثت وسائل إعلام إسرائيلية أخرى عن أن حزب الله يرفع المستوى طوال الوقت، "أما الجيش الإسرائيلي فهو مرتدع إذا أردنا ألّا نصفه بالخائف".
بالتأكيد، لا يلائم هذا الوضع، إذا بقي مستوى المواجهة على حاله، الطرف الإسرائيلي، بسبب ما له من تداعيات على الأمن والاستيطان والردع والثقة بالجيش، فكيف إذا تطورت المواجهة إلى ارتقاء مستمر ومتصاعد؟
طوال أشهر، لم يستطع الطرف الإسرائيلي أن يجد حلولاً لكسر حلقة النار من جهة جبهات الإسناد، وربما يكون التصعيد الأخير واحداً من الأسباب التي تدفعه إلى المغامرة والمخاطرة من أجل عزل جبهات الإسناد وإعادة مستوطنيه. إذا كان هذا الهدف، فإن تعزيز مسار جبهات الإسناد واستمرارها في الضغط يشكّلان أحد الأساليب الكفيلة بتعطيل أهداف نتنياهو، ما دام هدف محور المقاومة في المقابل محدَّداً بإيقاف الحرب على غزة.