معركة غزة الميدانية ما برحت في بداياتها
يتوقع البعض من المقاومة الفلسطينية وفصائلها ألا تسمح للعدو الصهيوني بالتقدم بوصةً واحدةً في قطاع غزة، لكن أولئك لم يقرأوا جيداً طبيعة المعركة عسكرياً.
لا خوف على غزة ومقاومتها إذا تمكن العدو الصهيوني من اختراقها برياً في بعض المواضع، ولا يجوز أن تنهار المعنويات حتى لو صدقت التقارير والخرائط والفيديوهات التي تتحدث عن تمدد العدو على شاطئها في اتجاه مخيم الشاطئ، في أقصى شماليها الغربي، أو تمدده من جهة بيت حانون، في أقصى شماليها الشرقي، أو تمدده لتطويق مدينة غزة من جنوبيها، من جهة منطقة حجر الديك، إذ يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هنا ما يلي:
أ – أن الاختراق، في حد ذاته، لا يعني بالضرورة بسط السيطرة على المنطقة التي جرى اختراقها.
ب – أن المقاومة ما برحت تحتفظ بقواها الأساسية سالمة، وما برحت تقاتل بعنفوان، ولا تبدو عليها علامات الإرهاق.
ج – أن المقاومة ما برحت قادرة على زخّ فلسطين المحتلة عام 1948 بالصواريخ يومياً.
د – أن المقاومة تثخن اختراقات العدو البرية بخسائرَ جسيمةٍ في مدرعاته وآلياته وجنوده.
ولو افترضنا جدلاً أن العدو الصهيوني توغل براً في القطاع من شماليه إلى جنوبيه، وأن قواته تغلغلت عبره كالديدان الشريطية، فإن ذلك لا يعني أن الكيان الصهيوني تمكن من احتلاله، إذ يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أيضاً:
أ – أن دخولَ الأماكن المفتوحة، تحت غطاءٍ جويٍ وصاروخيٍ، غير دخول الأماكن المبنية المكتظة.
ب – أن في القطاع مدينة أخرى تحته، وأن دخول مجمعات الأنفاق شيءٌ آخر مغاير جداً.
ج - أن محاصرة المدن والأماكن المكتظة بالسكان تتطلب تجميد موارد كبيرة اقتصادياً وعسكرياً، في حين تبدو علائم الإرهاق على الاقتصاد الصهيوني منذ الآن.
د – أن تمدد قوات العدو وآلياته عبر القطاع يقدم أفضل الشروط للمقاومة لتحييد بعضٍ من تفوقه تكنولوجياً وعسكرياً.
هـ - أن السماح للعدو بالتمدد داخل قطاع غزة يفيد في تخفيف القصف الصهيوني الإجرامي على مدنييها ومنشآتها، وتلك نقطةٌ جوهرية في ظل تواطؤ المطبعين ومشاركة النخب الغربية في التغطية على تلك المجازر.
طبيعة المعركة في غزة عسكرياً
يتوقع البعض من المقاومة الفلسطينية وفصائلها ألا تسمح للعدو الصهيوني بالتقدم بوصةً واحدةً في قطاع غزة، لكن أولئك لم يقرأوا جيداً طبيعة المعركة عسكرياً، إذ إن ما يجري هنا ليس قتالاً تقليدياً بين جيشين نظاميين يخوضان حرب خنادق Trench Warfare، يقاس فيه الربح والخسارة بالأمتار، على غرار ما جرى في المسرح الأوروبي الغربي في الحرب العالمية الأولى مثلاً.
إن ما يجري في غزة، كالذي جرى في بيروت عام 1982، هو قتالٌ بين جيش نظامي يمتلك أحدث ترسانة أسلحة يملكها الغرب الجماعي، ومعها رخصةٌ غربيةٌ بممارسة القتل من دون ضوابط، من جهة، وبين حركة مقاومة، من جهة أخرى، تستند عسكرياً إلى موارد محدودة جداً، قياساً بالجيوش النظامية، ولا سيما الصهيوني، وتستند لوجستياً إلى حاضنة شعبية مفقرة ومحاصرة أغلبيتها من النازحين.
يفرض ميزان القوى غير المتكافئ بشدة على حركة المقاومة وفصائلها في مثل تلك الظروف خوضَ حربٍ غير متناظرة، وعدم التورط في مواجهات كبرى مفتوحة، لأن ذلك يُعَدّ انتحاراً. ينشأ هنا حيز لممارسة حرب العصابات Guerilla Warfare، والتي يفضل البعض تسميتها حرب الغوار، نظراً إلى الشحنة السلبية لتعبير "عصابات" في اللغة العربية. وهي حرب يعتمد فيها المقاومون على:
أ - عدم منح العدو المهاجم أهدافاً ثابتة يسهل ضربها ويصعب الدفاع عنها، فلا بد للمقاوم هنا من أن يطفو كفراشة وأن يلدغ كنحلة (بحسب وصف محمد علي كلاي لمدرسته في الملاكمة).
ب – الاعتماد على الكمائن والغارات والتفجيرات والقنص وتكتيكات "اضرب واهرب" إجمالاً لمهاجمة نقاط العدو الأكثر انكشافاً والأقل تحصيناً، مع تجنب الصدام وجهاً لوجه مع قواه الأساسية.
ج – تنظيم المقاومين في وحدات صغيرة تتمتع بقدرة أكبر على الحركة، وترتكز على عناصر السرية والمفاجأة والسرعة والمرونة، وتستفيد من التضاريس ومعرفة المقاومين الأفضل بها، كما تستفيد من الحاضنة الاجتماعية التي تصبح، بالنسبة إلى المقاومين، كالماء للأسماك، بحسب تعبير ماو تسي تونغ.
يذكر هنا أن لدينا منبعاً غنياً في تراثنا العربي -الإسلامي الحديث لحرب الغوار هو تجربة حرب الريف في المغرب بين عامي 1920 و1927، بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، التي جرى فيها مزج تكتيكات حرب العصابات بحرب الأنفاق في مواجهة الجيشين الإسباني والفرنسي (دخل الثاني على الخط عام 1924)، واللذين استخدما الغاز السام ضد المقاومة المغربية وحاضنتها الاجتماعية من دون تحفظ، عملاً بالتقليد الغربي إياه في إعلاء مثُل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.
تركت صفحة حرب الريف أثراً عظيماً في تجارب حروب العصابات من أميركا الجنوبية إلى الصين وجنوبي شرقي آسيا، كما أثرت عميقاً في وعي قادتها مثل تشي غيفارا وماو تسي تونغ وهوشي منه، وخصوصاً بعد الانتصارات الساحقة التي حققتها على الجيش الإسباني المتفوق عدداً ومواردَ في مرحلتها الأولى، ولا سيما معركة أنوال التي سحق فيها الجيش الإسباني بلا هوادة.
تلك نقطة جوهرية لا بد من إيرادها قبل نقل أحد أهم مبادئ حرب العصابات، وغزة في البال، كما صاغه ماو تسي تونغ: "عندما يتقدم العدو، نتراجع. عندما يعسكر، نقلقه. عندما يتعب العدو، نهاجم. عندما يتراجع، نلاحقه".
حفظ مقاومو غزة درسهم جيداً إذاً، ولا يتوجب عليهم بالضرورة بذل كل قواهم في التصدي لكل اختراق بري صهيوني لغزة، كما يتصور البعض، لأن ذلك من ألفباء حرب العصابات.
دروس إضافية من تجربة مقاومة غزة للعدوان الصهيوني
كما أن مقاومي غزة أضافوا إلى تراث حرب الغوار دروساً جديدة ستدخل كتب التاريخ العسكري من أوسع أبوابها، وهي إضافاتٌ لا بد من النظر إليها من زاويتين محددتين:
أولاً، أن المواجهة مع قوات العدو في غزة تتخذ بصورةٍ متزايدة طابعاً مدينياً، يستند إلى القتال في الأماكن المبنية في المراكز السكانية الحضرية، على خطوط مفهوم حرب العصابات المدينية Urban Guerilla Warfare، وهو الطور التالي لحرب العصابات التي اعتمدت في بداياتها على الريف والفلاحين والاستفادة من عمق الريف لتجنب الصدام المباشر مع القوى الأساسية لعدو متفوق لا يستطيع في الآن عينه أن يؤمن خطوطه وقواعده الخلفية ونقاط حراسته بصورةٍ جيدة عبر كل تلك المساحات الجغرافية الواسعة، وبالتالي يسهل استهدافها.
ومع تزايد تصنيع المجتمعات، وانتقال مركز الثقل من الريف إلى المدينة، اقتصادياً وسكانياً وسياسياً، صار الابتعاد عن التجمعات السكانية الكبرى عزلاً للمقاومين عن حواضنهم الاجتماعية، في حين أن الاستلاب، وخصوصاً في ضواحي المدن الكبرى ومخيمات اللاجئين والنازحين، بات التربة الطبيعية لتخمر حركات التمرد. ويرى بعض منظري حرب العصابات أن فشل تجربة أرنستو تشي غيفارا في بوليفيا، والتي انتهت باستشهاده عام 1967، كانت إيذاناً ببدء انتقال مركز الثقل من الريف إلى المدينة في الاقتصاد والمجتمع والحرب.
زاوج المقاومون الفيتناميون بعدها بين الريف والمدينة، وبين غطاء الأدغال والنفق، وبين العمل الحزبي في صفوف الجماهير والعمل العسكري ضد المحتلين، حتى انتصروا نصراً مدوياً على الولايات المتحدة بانسحابها رسمياً عام 1973، وبانهيار النظام الذي خلفته ودعمته عام 1975. لكنّ وجه حرب العصابات تغير بعد فيتنام إلى الأبد مع تحولها إلى مكونٍ واحدٍ فقط من مكونات حرب تحرير شعبية طويلة الأمد ذات أبعاد شاملة، عسكرياً وسياسياً وعقائدياً.
أصبح الشعب المعبَّأ والمتحد في مقاومته شرطاً من شروط النصر في مواجهة عدو متفوق بالمقاييس النظامية. والدليل أن هناك عشرات الحركات التي تبنت استراتيجية حرب العصابات عبر القارات، والتي تعمل منذ عقود، من دون أن تنتصر، لأنها لم تنتقل بمفهومها لحرب العصابات إلى مستوى حرب الشعب طويلة الأمد، في حين أن وحدة الشعب والمقاومة أثبتت أنها أحد أهم عوامل صمود غزة، على الرغم من ممارسات القتل الجماعي والجنون الجنائي للاحتلال برخصةٍ غربية.
يُذكَر طبعاً أن الإمبريالية درست تجارب حروب العصابات جيداً ووظفتها في إطلاق موجة الجيل الرابع من الحروب ضد الدول المستقلة، كما رأينا في خضم "الربيع العربي" مثلاً، لكن تلك التجارب سرعان ما انكشفت سياسياً من جراء صلاتها بالإمبريالية والصهيونية، أي بأعداء الشعب العربي وشعوب الأرض، وهي ظاهرة سبق أن تناولتُها في مواضع أخرى.
عسكرياً، ازدادت أهمية النفق بمقدار ما تطورت التكنولوجيا العسكرية والقوة التدميرية للصواريخ والقذائف، على نحو يتيح تهديم الأبنية بلمح البصر، وهو معلمٌ رئيس من معالم معركة حرب غزة ينتظر أن يتكشف مزيد من تفاصيله في الأيام المقبلة. واصبروا، فإن معركة غزة ما برحت في أولى مراحلها. هل تذكرون عندما ظن البعض أن بغداد "سقطت". ماذا حدث بعدها للاحتلال الأميركي في العراق؟
عملية "طوفان الأقصى" كانتفاضة سجن
يشار إلى أن الكثافة السكانية في الأماكن المبنية في قطاع غزة تفوق 21 ألف شخص في الميل المربع الواحد، وهي من أعلى النسب في العالم قاطبةً، بعد دكا عاصمة بنغلادش، ومكاو في الصين، وسنغافورة. أما إذا أخذنا الكثافة السكانية في قطاع غزة ككل، عند 15 ألف شخص في الميل المربع الواحد، فإنه يأتي خامساً، بعد الأماكن الثلاثة السابق ذكرها، وهونغ كونغ في المنزلة الرابعة.
يبقى الفارق بين غزة وغيرها أن الأماكن الأخرى المكتظة بالسكان في العالم ليست محاصرة ولا مخنوقة براً وبحراً وجواً، فغزة هي أكبر سجن مفتوح في العالم، لذلك فإن مقاومتها أشبه بانتفاضة سجن، كما أن عملية "طوفان الأقصى" يمكن أن تشبَّه بحركة تمرد داخل سجن تتميز بالصفات ذاتها التي تميز تلك التمردات من "التواطؤ" بين السجناء، إلى تحويل أبسط الأدوات إلى أسلحة فتاكة، إلى صعوبة ظروف السجناء، الناشئة عن الاكتظاظ بالذات، والتي تولّد الحافز على القيام بمثل ذلك التمرد.
ويمكن تشبيه اختراق غلاف غزة في عملية "طوفان الأقصى" بعملية نفق الحرية، أو سجن جلبوع، في 6/ 9 /2021، والتي تفوقت على أخصب ما جادت به مخيلة هوليوود على هذا الصعيد في فيلم Shawshank Redemption (1994)، سوى أن الهروب من السجن في الحالتين، الحقيقية الفلسطينية والوهمية الهوليوودية، جرى عبر نفق.
أما في حالة "طوفان الأقصى"، فإن أبواب سجن غزة فُتحت عنوةً، بطريقة لا تقل إبداعيةً، لكن شبكة الأنفاق تحت السجن هي التي نقل إليها بعض السجانين الذين أخذهم السجناء رهائن، وتلك الأنفاق تظل القاعدة العصية التي ستبقى تؤرق الاحتلال حتى لو ظن أنه سيطر على السجن.
لا ننسى طبعاً أن ذلك السجن محكم الإغلاق من جانبين، من جانب الصهاينة أساساً، لكن أيضاً من جانب معبر رفح، وهي مأساةٌ منظومة التجزئة العربية التي سبق تناولها في مواضع أخرى، إنما أذكّر بها للقول إن المنظومة الرسمية العربية إما عاجزة، وإمّا متواطئة، وإما مشلولة.
لذلك، فإن عبء المسؤولية يقع على الشعب العربي بصورةٍ عامة لاجتثاث السفارات الصهيونية من الأرض العربية. أما فتح معبر رفح فيقع على عاتق الشعب المصري العظيم بصورةٍ خاصة، وآن الأوان كي يتحرك المصريون هذه المرة لا لإسقاط النظام، بل لاستعادة السيادة المصرية على معبر رفح بحماية إخوتهم في الجيش والأمن.
أخيراً، وليس آخراً، كل حديث عن "حل سياسي" في غزة لا محل له من الإعراب الآن في ظل إصرار حكومة الطوارئ في الكيان الصهيوني على اجتثاث المقاومة بكل فصائلها من غزة، وهي حكومة لا يُرضيها حتى أقل سقف عربي أو فلسطيني انخفاضاً، فما بالك بمن يحمل سلاحاً؟
فإذا لم يخسر العدو الصهيوني الآلاف المؤلفة من القتلى في محاولة إخضاع غزة، السجن المتمرد، فإن رأيه العام لن ينقسم بشأن مسألة "الحل السياسي"، أسوة بما حدث للرأي العام الفرنسي خلال احتلال الجزائر، أو الرأي العام الأميركي خلال احتلال فيتنام. وبالتالي، فإن مناقشة مثل تلك الاحتمالات أمر سابق لأوانه كثيراً، في الظروف الراهنة. فثقوا بالمقاومة وقفوا معها بالقول والعمل، لأنها ضربت مثلاً في البطولة والبسالة، وليست على وشك الاستسلام أو تسليم رأسها على طبقٍ من ذهب.