ما مستقبل فرنسا في دول غربي أفريقيا؟

ربطت فرنسا الدول الأفريقية المستقلة عنها في ستينيات القرن الماضي بروابط اقتصادية وعسكرية وثقافية، وربما تكون هذه الاتفاقيات هي الأكثر استغلالاً للأفارقة.

  • ما مستقبل فرنسا في دول غربي أفريقيا؟
    ما مستقبل فرنسا في دول غربي أفريقيا؟

تشكل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعض دول غربي أفريقيا عنوان الأزمة الفرنسية الراهنة في أفريقيا؛ فالرئيس الفرنسي زار دولاً هي من حيث الوزن الأقل وزناً مقارنة بتلك التي فقدت فيها فرنسا نفوذها التقليدي؛ مثل مالي والجزائر أو تكاد تكون مثل التشاد.

ولعل هذه الحال تفرض تساؤلات بشأن مستقبل الوجود الفرنسي في دول نفوذها الاستعماري القديم؛ وهي الممتدة من جيبوتي شرقاً إلى مالي غرباً، فيما يعرف بمنطقة الساحل الأفريقي. وهل من فرص للحفاظ على هذا الوجود التقليدي في ضوء المنافسات الشرسة التي تتعرض لها حالياً، خصوصاً من جانب روسيا وتركيا وعلى نحو ما من جانب الولايات المتحدة الأميركية؟

نشير إلى أن فرنسا ربطت الدول الأفريقية المستقلة عنها في ستينيات القرن الماضي بروابط اقتصادية وعسكرية وثقافية، وربما تكون اتفاقيات الاستقلال بين فرنسا ودول غربي أفريقيا هي الأكثر استغلالاً للأفارقة؛ إذ نصت على أن تكون هناك عملة أفريقية مرتبطة بالفرنك الفرنسي، وكذلك إجبار هذه الدول على إيداع جزء من المساعدات والمنح الخارجية لها في البنك المركزي الفرنسي.

وقد شمل ذلك اتفاقيات للدفاع، والتعاون العسكري، وكذلك اتفاقيات المساعدة العسكرية الفنية والتقنية، فضلاً عن اتفاقيات الدفاع الإقليمي والجماعي.

وتتضمن اتفاقيات المساعدة العسكرية الفنية والتقنية 3 أنواع من الاتفاقيات هي: المساعدة الفنية (الأشخاص العسكريون، الدعم الفني)، والدعم المادي (رؤوس الأموال، تراخيص إنتاج التجهيزات العسكرية، التسلح)، والتعليم، وتدريب العسكريين الأفارقة. 

وفى هذا السياق، أبرمت فرنسا اتفاقيات دفاع عسكري مشترك مع دول أفريقية عدة مثل الكاميرون، وأفريقيا الوسطى، وجيبوتي، وساحل العاج. أما عن اتفاقيات التعاون والمعونة الفنية، فأبرمتها على سبيل المثال مع بنين، وبوركينا فاسو، وبروندي، والكونغو، وغينيا، والسنغال.

وبالتأكيد حافظت الاتفاقيات التي وقّعت بين فرنسا وعدد من الدول الأفريقية عشية استقلالها على قدر كبير من التأثير الفرنسي الاقتصادي والسياسي والعسكري يصل في تقديرنا حدّ التبعية الكاملة لفرنسا.

 جددت فرنسا عام 2008 ما يعرف ببرنامج حفظ السلم RECAMP، والاتفاقيات الجديدة ضمنت وجوداً دائماً للقوات الفرنسية في أفريقيا، وسهلت عليها التدخل العسكري المباشر، كما جري في عملية برخان عام 2014 في مالي وكذلك التدخّل العسكري في أفريقيا الوسطى، فضلاً عن العمليات العسكرية المحدودة في تشاد.

وقد كانت هذه الاتفاقيات القاعدة المناسبة التي أسست تحالف G5 العسكري بين باريس وكل من تشاد والنيجر والكاميرون وبوركينا فاسو ومالي، حيث بلغ الميزان العسكري الفرنسي في أفريقيا حتى عام 2015 نحو مليار يورو طبقاً لمعهد أبحاث السلام سيبري.

وعلى الرغم من هذا الإنفاق الهائل، إلا أن فرنسا حالياً تتعرض لحجم منافسة شرسة تهدّد وجودها ونفوذها فعلياً في أفريقيا، نظراً إلى عدد من العوامل؛ ومنها طبيعة المقاربات التي اعتمدتها في العقد الأخير وعمليات التدخل العسكري المباشر؛ فعلى الرغم من حصول باريس على تفويض من مجلس الأمن الدولي؛ إلا أن هذا التدخل قد نتج عنه استدعاء للحمية الوطنية العامة وهو ما استفادت منه جماعات السلفية الجهادية.

وبدلاً من تطويق التنظيمات الإرهابية، فإنها قد حصلت على دعم مباشر محلياً وتحالفات مع تنظيمات سياسية أخرى.

أما العامل الثاني فهو العامل الاقتصادي، ذلك أن فرنسا اضطرت إلى الحصول على دعم خليجي لتحالف G5 وذلك في محاولة لخفض موازناتها العسكرية.

يتزايد نفوذ روسيا وتركيا في منطقة غربي أفريقيا، حيث تعتمد روسيا على عدد من الآليات لدعم نفوذها الأفريقي، كآلية القمة المشتركة الروسية الأفريقية، وكانت النسخة الأولى قد انعقدت في سوتشي عام 2019، وقد بحث سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي مسألة عقد دورة القمة الثانية في أثناء زيارته دول شرقي أفريقيا والاتحاد الأفريقي أخيراً.

أما الآلية الثانية التي تعتمد عليها موسكو فهي شركة فاغنر الأمنية؛ التي تعد من أهم الآليات الروسية الراهنة في التفاعل مع أفريقيا، وقد بدأت مسيرتها عام 2013 مع احتدام الأزمة السورية، وتنتشر حالياً في 23 دولة أفريقية، وتعد آلية منخفضة التكاليف السياسية والاقتصادية بالنسبة إلى روسيا، وذلك عبر علاقة غير مباشرة بالحكومة الروسية، فضلاً عن انخفاض تكاليف عملها الاقتصادية مقارنة بالشركات الغربية المثيلة مثلblack water الأميركية، حيث يتقاضى المرتزق الأميركي 4 أضعاف أجر العضو في فاغنر الروسية.

وتتعدد المهام التي تضطلع بها فاغنر في أفريقيا ما بين سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية، فإلى جانب المشاركة في عمليات القتال في الخطوط الأمامية، توفر الشركة الروسية التدريب على الأسلحة ودعم الشرطة وأجهزة الاستخبارات المدنية وعمليات التأمين الشخصي للشخصيات الأفريقية السياسية الكبيرة.

وفي هذا السياق تنشط فاغنر في مجالي جمع المعلومات وتوجيه الرأي العام في الدول الأفريقية، ومن ذلك 73 حساباً على كل من فيس بوك وإنستغرام، زاد عدد متابعيهم على 1.7 مليون متابع، حيث يركّز محتواها على المصالح الروسية، ودعم النظم السياسية الأفريقية الموالية لموسكو.

ويمكن القول إن التقييم الأفريقي العام لنتائج المقاربات الغربية في أفريقيا في الأربعين عاماً الماضية كان سلبياً، خصوصاً مع شكلانية التمسك بالتطور الديمقراطي الأفريقي، وهو ما ظهر جلياً في الموقف الفرنسي من التطورات غير الدستورية في تشاد، واستمرار آليات النزوح للثروات الأفريقية عبر الشركات العابرة للجنسية بعوائد مالية غير عادلة للاقتصادات الأفريقية.

هذا التقييم الأفريقي السلبي، للغرب عموماً وفرنسا خصوصاً، لم يقتصر على النخب الرسمية، ولكنه اخترق المجال العام الأفريقي ليجري التعبير عنه في تظاهرات شعبية خرجت ضد النفوذ الفرنسي في تشاد والنيجر ومالي، كما أنه يمكن رصد اتجاهات الشباب الأفريقي من خلال مسارات وحوارات المؤتمرات الفرنسية الأفريقية، سواء في مؤتمر منظمات المجتمع المدني الذي عقد في كانون الثاني/يناير2021، أو في "مؤتمر الشباب" الصيف الماضي، وهما آليتان لجأت إليهما باريس بهدف تحسين صورتها، وتجاوز مشكلاتها مع عدد من الدول الأفريقية أبرزها: الجزائر ومالي اللتان وصل فيهما التلاسن السياسي بين الأطراف إلى مستويات غير مسبوقة، وكشف عن حجم الخسارة الفرنسية في أفريقيا.

وفيما يخص تركيا فقد توسّع نفوذها العسكري في منطقة شرقي أفريقيا خصوصاً في الصومال التي تملك فيها قاعدة عسكرية وبرامج تدريبية للجيش الصومالي، كما حاولت أنقرة في السودان الحصول على إحدى الجزُر في زمن الرئيس السابق عمر البشير، ولكنها أخفقت.

أما في غربي أفريقيا فإن تركيا تعتمد على الآليات الاقتصادية والدينية عبر عامل الدين الإسلامي المشترك مع دول غربي القارة. إذ عملت تركيا لوضع استراتيجية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية، التي بدأت باختيار عام 2005 العام الأفريقي في أنقرة، وأصبحت أيضاً عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي. وفي عام 2008 اختيرت تركيا شريكاً استراتيجياً في الاتحاد الأفريقي، وحصلت على عضوية داخل بنك التنمية الأفريقي، وكان نتاج تلك التحركات التركية داخل أفريقيا، تكوين شراكات قوية مع عدد من المنظمات الأفريقية والجماعات الاقتصادية مثل (تجمع شرقي أفريقيا، وجماعة غربي أفريقيا الاقتصادية).

في هذا السياق؛ فإن التنافس الأميركي مع فرنسا لا يبدو بعيداً، ذلك أن استضافة الدوحة مباحثات الوفاق الوطني في تشاد تؤشّر بوضوح إلى دور أميركي في هذه العملية، حيث تتزايد الحاجة الأميركية إلى توثيق العلاقة الاستراتيجية مع أفريقيا، خصوصاً في ضوء تبعات الأزمة الروسية الأوكرانية، وهو ما كان واضحاً في زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوتي بلينكن لدول أفريقيا، التي كانت نقطة الارتكاز فيها دولة جنوبي أفريقيا التي أعلن منها توجهات واشنطن الاستراتيجية في القارة.

وهكذا فإن فرنسا تواجه تحديات متعددة الأذرع والآليات تكافح حالياً لمواجهتها، وربما يكون من المشكوك فيه أن تحوز النفوذ والوزن اللذين اعتادتهما تاريخياً.