لندن وباريس ومحاولات للحاق بركب التسلّح الفرط صوتي
استخدام صاروخ "أوريشينك" من جانب موسكو، يحمل في طياته أهدافاً ورسائل مختلفة عن ما حمله استخدام صاروخي "تسيركون" و"كينزال".
أعاد حديث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، منذ أيام قليلة، حول احتمالية نشر صواريخ فرط صوتية في بيلاروسيا خلال العام المقبل، الجدل مرة أخرى بشأن دور هذا النوع من الأسلحة في الميدان الأوكراني خصوصاً، وعلى المستوى الدولي عموماً، خصوصاً بعد أن شهد الميدان الفلسطيني والأوكراني في عدة مناسبات مؤخراً، استخداماً قتالياً لصواريخ ذات سرعات فرط صوتية.
ترافق حديث بوتين حول هذه المسألة، مع إعلان سابق له عن الضربة الصاروخية التي نفذها الجيش الروسي في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، على مدينة "دنيبرو" الأوكرانية، والتي أشارت تحليلات أولية أنها تمت باستخدام الصاروخ الباليستي متعدد الرؤوس الحربية "RS-26 Rubezh"، لكن الرئيس الروسي قال إنه استُخدم في هذه الضربة صاروخ فرط صوتي جديد متعدد الرؤوس يسمى "أوريشينك"، وقد أطلق هذا الصاروخ ست ذخائر فرعية، أطلقت كل منها ست ذخائر فرعية أصغر، ليصبح مجموع الرؤوس الحربية التي انبثقت منه 36 رأساً فرعياً، وبالتالي شكل استخدام هذا الصاروخ، نقلة نوعية في الميدان الأوكراني، كونها المرة الأولى التي يستخدم فيها صاروخ باليستي متعدد الرؤوس، خلال العمليات الروسية في أوكرانيا.
هذه النقلة، مضافاً إليها إعراب بوتين بشكل واضح عن نوايا بلاده نشر هذا النوع من الصواريخ المتطورة في بيلاروسيا خلال العام المقبل - مع بدء الإنتاج الكمّي لها - فتح الباب بشكل أكبر على إمكانية استخدام التقنيات الفرط صوتية في الميدان الأوكراني - في حال استمرار العمليات العسكرية في المدى المنظور - كما شكل أيضاً ضغطاً إضافياً على دول أوروبية كبرى، ظلت حتى الآن متأخرة بشكل كبير عن اللحاق بركب الدول التي تمتلك التقنيات الفرط صوتية، خصوصاً المملكة المتحدة وفرنسا، اللتين تشاركان بشكل فعلي في دعم الجيش الأوكراني تسليحياً.
الميدان الأوكراني والصواريخ الفرط صوتية
بحكم التعريف، تتحرك الأسلحة الأسرع من الصوت بسرعات أكبر من 5 ماخ - أي ما يوازي 1715 متراً في الثانية الواحدة - وفي حين أن هناك العديد من الأسلحة التي تلبي هذه المتطلبات الفنية، مثل الصواريخ الباليستية، فإن تسمية "الأسرع من الصوت"، تستخدم في المقام الأول للإشارة إلى الأسلحة الأسرع من الصوت، القادرة على المناورة أثناء الطيران، وتنقسم هذه الفئة إلى قسمين رئيسيين، الأول يتضمن الصواريخ الباليستية الحاملة لمركبات انزلاقية فرط صوتية، تعمل على التحليق بشكل انزلاقي بعد انفصالها من الصاروخ الحامل، أم الثاني فيتضمن الصواريخ الجوالة التي تستطيع التحليق بسرعات فوق صوتية.
من هذا المنطلق الجامع بين عاملي "السرعة والقدرة على المناورة"، يمكن تحديد أبعاد التجربة الميدانية للصواريخ الروسية الفرط صوتية في أوكرانيا، إذ لا يكفي أن يمتلك المقذوف القدرة على الوصول خلال تحليقه لسرعات فوق صوتية، بل يجب أن يكون قادراً على المناورة بشكل كاف، يسمح له بتفادي الدفاعات الجوية والصاروخية المعادية.
لذا، رغم أن الجيش الروسي يصنف صاروخ "KH-47M" - المعروف باسم "كينزال" - بأنه صاروخ فرص صوتي، بناء على سرعته التي تصل إلى عشرة أضعاف سرعة الصوت، فإنه على المستوى الفني يمكن تصنيفه كصاروخ باليستي مطلق من الجو، حيث يعتمد تصميمه الأساسي على صواريخ "إسكندر" الباليستية، ولديه قدرة محدودة نسبياً على المناورة بعد الإطلاق، إذ يتخذ مسار تحليق باليستي، ما قد يسمح للدفاعات الجوية المعادية، بتقدير مسار تحركه، ومن ثم اعتراضه، وهو ما حدث بالفعل في أوكرانيا في آيار/مايو 2023، حين تمكنت إحدى بطاريات الدفاع الصاروخي من نوع "باتريوت"، من إسقاط أحد صواريخ "كينزال".
من هذا المنطلق، ظل الاستخدام الوحيد الموثق لصواريخ فرط صوتية في أوكرانيا - حتى تم الإعلان عن استخدام صاروخ "أوريشينك" - هو الضربة الصاروخية التي تمت على العاصمة الأوكرانية في شهر شباط/فبراير الماضي، وشهدت الاستخدام الأول لأحد أحدث الصواريخ الروسية، وهو الصاروخ الفرط صوتي "3M22-Zircon"، الذي تم استخدامه عدة مرات منذ ذلك التوقيت في أوكرانيا.
على المستوى الاستراتيجي، بدا أن استخدام صاروخ "أوريشينك" من جانب موسكو، يحمل في طياته أهدافاً ورسائل مختلفة عن ما حمله استخدام صاروخي "تسيركون" و"كينزال"، إذ كان في حد ذاته بمنزلة "رد روسي"، على القرار الأميركي والبريطاني والفرنسي، بالسماح لأوكرانيا بإطلاق صواريخ تقليدية متوسطة المدى في العمق الروسي، وتحديداً صواريخ "ATACMS" الباليستية، وصواريخ "Storm Shadow" الجوالة. واللافت في هذا الإطار، أن الرد الروسي لا يحمل فقط تلويحاً بإدخال الصواريخ الفرط صوتية بشكل موسع ضمن المعادلة الميدانية في أوكرانيا فقط، بل يتضمن أيضاً إسقاطاً ضمنياً على الوضع الإستراتيجي الذي تكوّن بعد انهيار معاهدة القوى النووية متوسطة المدى "INF"، بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية منها عام 2019.
انهيار هذه المعاهدة، وفّر لموسكو مسوغات قانونية تسمح لها - من حيث المبدأ - بتطوير صواريخ باليستية بمدى يتراوح بين 500 و5500 كيلومتر، وهو ما كشفت عنه وزارة الخارجية الروسية بشكل علني العام الجاري، حين قالت إنه - رداً على الإجراءات الأميركية - ستبدأ روسيا في إنتاج صواريخ متوسطة المدى، وهو ما ظهرت ثماره - بشكل سريع - بالنظر إلى أن موسكو كانت قد صعّدت من عمليات تطوير صواريخها الباليستية بشكل عام، خلال السنوات الأخيرة.
لندن وباريس تسرعان الخطى نحو التقنيات الفرط صوتية
حملت الضربة الصاروخية الروسية الأخيرة على "دنيبرو"، في طياتها أيضاً قناعة روسية متزايدة، بأن استمرار الدعم التسليحي الغربي لأوكرانيا، بات ينظر له من جانب موسكو على أنه "انخراط غربي مباشر في الأزمة"، يستوجب رداً روسياً ميدانياً مباشراً، وهنا تحاول موسكو نقل المشهد المرتبط بسماح الدول الغربية لكييف بقصف العمق الروسي، ليصبح مشابهاً في بعض جوانبه، لأزمة الصواريخ الأميركية الجوالة في غرب أوروبا أواخر سبعينيات القرن الماضي، والتي ساهم - للمفارقة - في حلحلتها، نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ "بايونير" متوسطة المدى في بيلاروسيا، وهي الخطوة التي تحاول موسكو تكرارها، عبر تلويحها بنشر صواريخ "أوريشينك" في بيلاروسيا العام المقبل.
هذا العامل، بجانب عوامل استراتيجية أخرى، كانت دافعاً إضافياً لكل من فرنسا والمملكة المتحدة، لتسريع جهودهما الرامية إلى معالجة "تأخرهما الشديد"، في اللحاق بركب الدول النووية التي تمتلك وتطور التقنيات الصاروخية الفرط صوتية، حيث تمتلك كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين هذه التقنيات، فيما عانت كل من لندن وباريس من معوقات عديدة في ما يتعلق بامتلاك هذه التقنيات بشكل عملياتي مستدام. بالنسبة إلى فرنسا، ورغم أنها من أولى الدول، التي بدأت مبكراً منتصف ستينيات القرن الماضي، في إطلاق برامجها الخاصة بالأسلحة الفرط صوتية، عبر إطلاق برنامج التحليق الشراعي الأسرع من الصوت "VERAS" وبرنامج الصواريخ الباليستية "MINIEREV"، فإن هذه البرامج قد تجمدت خلال المراحل اللاحقة، ولم تسفر عن أي نتائج عملية، نظراً إلى معضلات ترتبط بالتصنيع والموارد المالية.
ظل هذا الجمود قائماً إلى أن لجأت باريس - للمفارقة - إلى موسكو، من أجل التصنيع المشترك لمحرك صاروخي نفاث، يعمل بمزيج من الكيروسين والهيدروجين، وقادر على إيصال الصواريخ المزودة بها لسرعات تتراوح بين 3 و12 ماخ، وقد تم إطلاق البحوث المشتركة حول هذا الأمر، بمشاركة شركة "MBDA" كممثلة عن الجانب الفرنسي، ومعهد موسكو للطيران كممثل عن الجانب الروسي، بيد أن هذا البرنامج الذي استمر بين عامي 1995 و2000، لم يصل إلى مستوى التصميم النهائي والتصنيع الكمّي، وساهمت التباينات السياسية بين كلا البلدين في إيقاف هذا التعاون.
بعد هذا التوقف بنحو 19 عاماً، وتحديداً مطلع عام 2019، أعلنت فرنسا لأول مرة عن نيتها تطوير مركبة إعادة دخول فرط صوتية، ضمن برنامج تمت تسميته لاحقاً "VmaX"، وقد نفذت باريس رحلتين تجريبيتين لهذه المركبة عامي 2021 و2022، بهدف اختبار الخصائص الفنية لهذه المركبة، ومن ثم أجرت باريس اختبار التحليق الأساسي لهذه المركبة في يونيو/حزيران 2023، تم خلاله إطلاق المركبة الفرط صوتية، من على متن صاروخ تجريبي، وحلقت المركبة خلال هذا الاختبار بنجاح بسرعة تجاوزت 5 ماخ، وتمكنت من إجراء عدة مناورات جوية أثناء تحليقها نحو الأرض، لتدخل باريس عملياً في إطار الدول التي تمتلك التقنية الفرط صوتية، رغم أنها لم تبدأ في الإنتاج الكمّي لهذه المركبة حتى الآن.
هنا تجدر الإشارة إلى أن باريس تعمل في مسار مواز لتصنيع محرك نفاث مختلط، أي قادر على تنفيذ عمليات إطلاق دون سرعة الصوت، ومن ثم التسارع لتحقيق سرعة تفوق سرعة الصوت. يسمى هذا المشروع "ASTREE"، وهو مخصص لصالح تطوير محركات للصاروخ النووي الفرط صوتي "ASN4G"، الذي يعدّ بمنزلة الصاروخ النووي المستقبلي لسلاح الجو الفرنسي، والذي سيحل بحلول عام 2035، محل صاروخ "ASMP-A" النووي الموجود في الخدمة حالياً.
من جانبها، تبدو بريطانيا متأخرة للغاية في مسار التسلح الفرط صوتي، مقارنة بالدول الأربع الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، إذ أعلنت مؤخراً، وتحديداً في آيار/مايو الماضي، عن استثمار بقيمة مليار جنيه إسترليني - أي نحو 1.3 مليار دولار - لتطوير صاروخ فرط صوتي، بهدف سد الفجوة التكنولوجية في هذا المجال. وكجزء من هذا الاستثمار، اختارت لندن 90 مؤسسة صناعية ومؤسسة علمية للتنافس على العقود، في إطار برنامج تطوير القدرات والتقنيات الفائقة السرعة، وتشمل المجالات التي تغطيها العقود إنشاء مفاهيم أسلحة فرط صوتية، ونمذجة الصواريخ واختبارها، وتصميم التقنيات وتكاملها، وتطوير صاروخ انزلاقي، ومحرك فرط صوتي، وتطوير أنظمة التوجيه والملاحة، وسيمتد تمويل هذه العقود إلى سبع سنوات، بهدف أساسي هو تصميم وإنتاج صاروخ تصل سرعته إلى 5 أضعاف سرعة الصوت، في نهاية العقد الحالي.
رغم الطموح البريطاني في هذا الصدد، فإن لندن تواجه تحديات عديدة ترتبط بعدم امتلاكها بشكل كامل المواد الأساسية اللازمة لإنتاج مثل هذا النوع من الأسلحة المتقدمة، لا سيما المواد المرتبطة ببدن الصاروخ أو المقذوف المستهدف تحليقه بسرعة فوق صوتية، ناهيك بحقيقة أن المسار الزمني الذي تستهدفه لندن في هذا المشروع، يبدو طموحاً للغاية، بالنظر إلى المعضلات القائمة حالياً. يضاف إلى ذلك ترجيح أن الإعلان عن هذا البرنامج، جاء أساساً للإيفاء بالتعهد الذي قطعته كل من الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا في نيسان/أبريل 2022، بشأن التعاون المشترك لتطوير أسلحة فرط صوتية، ضمن تحالف "أوكوس" الثلاثي، وهذا هو العامل الوحيد الذي قد يساهم في تسريع جهود بريطانيا للحصول على سلاح فرط صوتي.
خلاصة القول، إن دخول الأسلحة الفرط صوتية إلى الميدان الأوكراني، فرض وجودها كبديل "أكثر فعالية ومنطقية"، للاستخدام المحتمل للأسلحة النووية، وقد أثبتت هذه التجربة، وكذا استخدام أسلحة عالية السرعة في أماكن أخرى حول العالم، على رأسها الأراضي الفلسطينية المحتلة، مدى التأثير الميداني الذي قد تمثله هذه الأسلحة، لا سيما الأنواع التي تمتلك ميزة السرعة وميزة القدرة على المناورة. الأكيد أن ما يشبه "سباقاً للأسلحة الفرط صوتية"، قد بدأ على مستوى العالم، ولا يقتصر فقط على الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، بل بات يشمل دولاً أخرى سواء في الشرق الأوسط أو آسيا، مثل الهند وباكستان على سبيل المثال.