لماذا تسعى السعودية لعودة سوريا إلى الجامعة العربية؟
لم تكن أمراً مستغرباً عودة العلاقات السورية السعودية، لكنّ المستغرب أن تقود المملكة بنفسها المساعي العربية لعودة العلاقات بدمشق.
لم تكن أمراً مستغرباً عودة العلاقات السورية السعودية، لكنّ المستغرب أن تقود المملكة بنفسها المساعي العربية لعودة العلاقات بدمشق، وصولاً إلى استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية، والسعي لإيجاد حل نهائي للأزمة السورية.
هذا الموقف السعودي أثار تساؤلات كثيرة لدى عدد من المهتمين بالشأن السياسي، والمدركين لسطحية أي تفسير قد يركّز على ما يسمى "الجانب الإنساني"، المتعلق بـ "إنقاذ الشعب السوري".
بدأت المنطقة تشهد حالة من "تبريد الأجواء"، جاءت نتيجة للاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وما نتج منه من مصالحات (سعودية سورية، وقطرية بحرينية، ويمنية سعودية)، وهي ملفات مرتبطة أساساً بالخلاف بين البلدين.
وكانت سبقتها مصالحة مصرية قطرية، ومصرية تركية... إلخ، وهو ما يشير إلى رغبة دول المنطقة في فتح صفحة جديدة من العلاقات فيما بينها، ونسيان الماضي، والتفكير بإيجابية قدر الإمكان.
هذه الرغبة ناجمة عن إرادة داخلية لتلك الدول، وغياب العامل الخارجي "المعطّل" لها، أو ضعف تأثيره، في أقل تقدير، وهو العامل الأميركي بصورة عامة، والإسرائيلي على نحو خاص، وخصوصاً أن أميركا و"إسرائيل" استطاعتا، خلال أعوام طويلة، تغذية الخلافات بين دول المنطقة، وتحويلها إلى "صراعات صفرية"، بمعنى أنه لا يمكن البحث عن حل سياسي لها.
ولعل سر نجاح الصين في تحقيق التقارب السعودي الإيراني عائد إلى قدرتها على إعادة الخلاف إلى جوهره، فهو خلاف سياسي، أدّى البعد الديني دوراً في تأجيجه.
ماذا تريد المملكة؟
بدأت السعودية تفكر بطريقة مغايرة منذ سنوات، وخصوصاً مع وصول الملك سلمان وولي العهد الجديد الأمير محمد، ومع الاستدارة الأميركية عن المملكة، وتوجه المملكة شرقاً، نحو روسيا والصين.
وجاءت القمة الصينية العربية، التي عُقدت في الرياض في عام 2022، لتكرس المملكة قائدةً للنظام الرسمي العربي، في ظل تراجع الدور المصري لاعتبارات كثيرة، أهمها الواقع الاقتصادي الصعب، والذي ازداد سوءاً، منذ أحداث "الربيع العربي".
هذا الواقع جعل مصر تقدّم كثيراً من التنازلات إلى دول الخليج العربي، في مقابل حصولها على بعض الامتيازات الاقتصادية، مثل الودائع البنكية وغيرها، وخصوصاً أن دول الخليج بدأت تنتهج سياسة جديدة، قوامها الابتعاد عن تقديم المساعدات، والاكتفاء بتقديم الودائع المشروطة، أو شراء أصول الدولة المصرية، وهو موضوع آخر لا أريد الإطالة فيه.
وبعد الحرب الأوكرانية، التي شكّلت بداية لبروز نظام عالمي جديد، قوامه التعددية القطبية وضرورة السعي لإصلاح الأمم المتحدة، المعطلة أصلاً، بدأ الحديث عن ضرورة توسيع مجلس الأمن، ليشمل دولاً أخرى، بحيث جرى الحديث عن إعطاء مقعد للهند، ومقعد للقارة الأفريقية، ومقعد للدول العربية.
وكان الرئيس بايدن، خلال القمة الأميركية الأفريقية، وعد القارة الأفريقية بدعم المساعي لإعطائها مقعداً في مجلس الأمن، في سعيه لكسب ودّ القارة من أجل التصويت في الجمعية العامة ضد روسيا.
أمّا إعطاء مقعد للعرب، فيتطلب تضامن العرب وتكاتفهم، واجتماعهم حول قيادة قوية وقادرة على السعي لتحقيق تلك المساعي، وهو ما قد يشجع المملكة على أداء هذا الدور، وخصوصاً أنها باتت مدعومة من الصين وروسيا، وليس هناك فيتو أميركي على أن تؤدّي دوراً معيناً. كما أن هناك رغبة سعودية في أن تصبح دولة نووية، وهو ما أيده الرئيس الصيني خلال القمة العربية الصينية. وقد يتم نقل التكنولوجيا النووية إليها عبر الصين أو روسيا أو الباكستان، بل حتى إن إيران باتت مستعدة للشروع في التعاون مع المملكة في هذا الجانب.
المقاربة السعودية تقوم على أن تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة يتطلب تحقيق التوازن بين الكيانات الأربعة الموجودة فيها (العرب وإيران وتركيا و"إسرائيل")، وأن العرب وحدهم الذين لا يمتلكون السلاح النووي في حال امتلكته إيران، وخصوصاً أن تركيا جزء من حلف الناتو، الأمر الذي يعني تعهُّده الدفاع عنها.
كل تلك المكاسب المتوقعة للمملكة تزيد في رغبتها في إنهاء الخلافات العربية - العربية، والسعي لتفعيل جامعة الدول العربية، من خلال أداء دور ريادي فيها.
أين واشنطن من كل هذا؟
هذا المسعى السعودي يثير تساؤلات كبيرة لدى عدد من المهتمين، بمعنى: هل جاء هذا المسعى نتيجة لقناعة سعودية بضرورة انتهاج سياسة جديدة ومقاربة أكثر واقعية مع الملف السوري وغيره من الملفات في المنطقة؟ وهل حصلت المملكة على ضوء أخضر أميركي في مسعاها هذا، وهذا ما يسيطر على آراء كثيرين أيضاً في تفسيرهم ما يحدث؟
البداية الصحيحة لمقاربة المشهد، ومعرفة أبعاده، ومحاولة تفسير خفاياه، تتطلّب منا، قبل كل شيء، الانتباه إلى أن السعودية اليوم لم تعد السعودية التي كانت في عام 2011، وخصوصاً على صعيد القيادة السياسية في المملكة وتوجهاتها.
كما أن الولايات المتحدة، اليوم، ليست أميركا التي كانت في عام 1991، ولم يعد اهتمامها بالشرق الأوسط كما كان.
والجمهورية الإسلامية الإيرانية، نتيجة لاعتبارات داخلية وخارجية، بدأت أيضاً التفكير في طريقة أخرى لحل مشكلاتها مع دول المنطقة، واتخاذ مواقف إيجابية، ستنعكس خيراً على الجميع، إذا ما كُتب لها التحقُّق.
وكذلك سوريا، بعد أعوام من الحرب والدمار، لم تعد كما كانت، وربما الثابت الوحيد فيها هو "توجهاتها العروبية" الثابتة والمترسخة لدى قيادتها وشعبها وسياستها الخارجية.
كذلك، فإن المواقف المتشددة للسعودية بشأن الأزمة السورية لم تستمر طويلاً، بحيث انتهجت سياسة أخرى منذ عام 2015، بدأت بوقف مسعاها "لإسقاط النظام في سوريا"، وتطورت لتصل إلى الموافقة على عودة العلاقات بها، وصولاً إلى سعيها لإيجاد حل للأزمة السورية.
ولعل ما يجعل المساعي السعودية مقبولة من جانب الحكومة السورية، هو القناعة أولاً بأن المملكة تغيّرت، وقيادتها اليوم مغايرة في توجهاتها تجاه دمشق لما كانت عليه في الماضي، وهو ما تحدث عنه الرئيس السوري، بشار الأسد، صراحةً، في حديثه خلال زيارته الأخيرة لموسكو.
كما أن الرؤية السعودية للحل السياسي في سوريا لم تعد تركز على القرار 2254، وهو الذي ترفضه دمشق، جملة وتفصيلاً، انطلاقاً من أنه وُضع دون إرادتها، كما أن الظرف الدولي الذي صدر فيه القرار في حينه مغاير لما هو عليه اليوم، مع ضرورة الانتباه إلى ألّا يُتَّخَذ من ذلك حجة على سوريا في المستقبل، لجهة عدم تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بعودة الجولان السوري المحتل.
كما أن البيان المشترك لاجتماع وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، ونظيره السعودي، فيصل بن فرحان، أكد وحدة الأراضي السورية وسلامتها، وهو ما تكرر في قمة جدة التي جمعت دول مجلس التعاون الخليجي وكلاً من مصر والعراق والأردن (6+3).
وهذا يعني التزاماً عربياً بشأن إخراج القوات التركية من الأراضي التي تحتلها في سوريا، وهو ما يتطابق مع موقف دمشق وشروطها لأيّ تقارب مع أنقرة.
كما أن الرؤية السعودية بشأن عودة اللاجئين السوريين تتقارب مع رؤية دمشق، وهي أن عودة اللاجئين في حاجة إلى تأمين البنية التحتية اللازمة لذلك، وتحسين الأوضاع المعيشية في سوريا، وهو ما يعني الشروع في إعادة إعمار سوريا، عبر تقديم مساعدات عربية ودولية إليها، وقبل ذلك كله إنهاء الفيتو الأميركي على ذلك.
ولعل ما يشجّع دمشق على التعاون مع الرياض، هو أن المملكة ربما تكون قادرة على أداء هذا الدور أكثر من الإمارات أو سلطنة عُمان، بحكم علاقتها بكل من روسيا والصين، وحاجة الولايات المتحدة إليها.
كما أن المملكة لم تعد تنتظر الضوء الأخضر الأميركي في توجهاتها السياسية، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قرارات "أوبك بلس" الأخيرة، والمتعلقة بخفض إنتاج النفط، والتعاون مع كل من روسيا والصين، والتقارب مع طهران، والقضايا المتعلقة بالتخفيف من التعامل بالدولار الأميركي... إلخ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدم انتظار الضوء الأخضر لا يعني تجاوز الضوء الأحمر الأميركي، إن وُجد، وخصوصاً أن الولايات المتحدة، اليوم، إن لم تكن قادرة على الحل السياسي في سوريا، لكنها، بكل تأكيد، قادرة على تعطيله وعرقلته، وهو ما تدركه المملكة جيداً، فتسعى بين فينة وأخرى لإرسال رسائل إيجابية إلى واشنطن.
ويبدو أن الموقف الأميركي تجاه سوريا أصبح أقل تشدداً، بحيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل، في تصريح للصحافيين، "إن الإدارة الأميركية لا تشجع أحداً على التطبيع مع نظام الأسد، بغياب أي تقدم حقيقي نحو حل سياسي".
وهذا يعني أنه لم يعد هناك تحذيرات أميركية من التعامل مع سوريا، وأصبح الأمر يقتصر على عدم التشجيع على فعل ذلك، لأن الولايات المتحدة بدأت أيضاً تراجع سياساتها بشأن سوريا، فموقفها الخاطئ تجاه دمشق شجّع روسيا على التدخل في سوريا، وبناء قاعدة روسية في المتوسط، كما زاد في تعاظم الدور الروسي على مستوى العالم.
وكذلك، فإن الموقف الأميركي تجاه سوريا أدى إلى تعاظم النفوذ الإيراني فيها، بينما كانت واشنطن تسعى لاحتواء طهران وتطويقها. كما أن إدارة أوباما، التي كان بايدن نائباً للرئيس فيها، كانت وضعت خطوطاً حمراً في سوريا، ولم تستطع تنفيذها.
كما أن الرئيس بايدن يرغب في وضع نهاية لحرب اليمن، بل يَعُدّ ذلك انتصاراً لسياسته، وهو اليوم في أمسّ الحاجة إلى انتصار يقدّمه إلى الناخب الأميركي في الانتخابات المقبلة، بحيث كان بايدن أعرب عن تطلعه إلى إنهاء الحرب في اليمن، بصورة دائمة، وجاء ذلك في بيان صادر عنه بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاق الهدنة في اليمن، والتي بدأت في 2 نيسان/أبريل 2022.
وتخشى الإدارة الأميركية، أيضاً، نجاح الوساطة الروسية بشأن تقريب وجهات النظر بين دمشق وأنقرة، وبالتالي تضييق الخناق على عصابات "قسد" المدعومة أميركياً.
كل تلك المعطيات قد تجعل تلك الدول تبحث عن نقاط مشتركة يمكن البناء عليها، وتوظيفها خدمة لمصالحها، وهو ما يعزز مساعي المملكة، ويزيد في فرص نجاحها في إيجاد حل للأزمة السورية.
هذا الحل، إنْ تحقَّق، سيكرس المملكة قائدةً للنظام الرسمي العربي، في المدى المنظور، في أقلّ تقدير، وهو ما يحتّم عليها التعاون مع الدول الفاعلة فيه، وخصوصاً سوريا ومصر والعراق والجزائر.
ختاماً:
يبدو أن الاستدارة السعودية نحو دمشق ليست لتثبيت الواقع كما هو، بقدر ما هي مسعى لحلحلة الأمور؛ بمعنى أنها ليست حركة تكتيكية جاءت استجابة لمتطلبات إنسانية، بقدر ما هي رؤية استراتيجية متكاملة، ستسعى لتطبيقها بعد التشاور مع دمشق، وتفهُّم هواجسها.