في ذكرى انطلاقة الجهاد الإسلامي الـ36.. أي مستقبل؟ وأي تحدّيات؟

منذ نشأة حركة الجهاد الإسلامي قبل 42 عاماً وأجندتها مُعلنة على رؤوس الأشهاد، وهي تدعو إلى التحالف مع كل قوى الأمة الحيّة التي تعارض وجود رأس حربة المشروع الاستعماري في المنطقة المسماة "إسرائيل".

  • انطلاقة الجهاد الإسلامي.
    انطلاقة الجهاد الإسلامي.

في أواسط سبعينيات القرن الماضي، بدأت فكرة تشكيل تنظيم فلسطيني مسلّح ذي خلفية إسلامية ينتهج مبدأ الكفاح والقتال في مواجهة الكيان الصهيوني تراود عقول بعض الشباب الفلسطينيين الدارسين في جمهورية مصر العربية.

كان على رأس تلك المجموعة من الطلبة شاب في مقتبل العمر لم يتجاوز العقد الثالث من عمره بعد، يُدعى فتحي إبراهيم الشقاقي، من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وكان يدرس في كلية الطب في جامعة الزقازيق.

بدا هذا الشاب في ذلك الوقت متقدّماً على الكثير من أقرانه على صعيد الفكر والنظرة إلى المستقبل، وبدا كذلك أنه يحمل رؤية إسلامية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في أوساط الإسلاميين حينذاك، ولا سيما في أوساط جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي كان ينتمي إليها.

بدأت الفكرة لدى الشقاقي تكبر يوماً بعد يوم، وأخذت تتحوّل بشكل تدريجي إلى نشاطات محدودة، من خلال نشرات صغيرة وجلسات قليلة العدد رافقها طرح لبعض الأفكار التي بدت في ذلك الوقت غريبة وغير منطقية، إلا أن سلاسة طرحها من قبل ذلك الشاب الذي كان أصدقاؤه يصفونه بأنه متّقد الذهن وشديد الذكاء ويملك قدرة كبيرة على الإقناع، جعلها تجد طريقها نحو قلوب وعقول مجموعة من رفاق الدراسة الذين كان بعضهم يأتي من أماكن بعيدة، حيث يدرسون في جامعات الصعيد والإسكندرية، إلى جامعة الزقازيق للاستماع إليه وهو يُبحر في عالم الفكر، ويُبدع في عالم السياسة، وينظر إلى القضية الفلسطينية من خلال منظور جديد، ويقدّم قراءة هادئة ومرنة للإسلام بمفهومه الواسع الذي يقبل الاختلاف ويستوعب الجميع، ويفنّد الكثير من الأكاذيب، ويوضح الكثير من الحقائق، ويضع الأمور التي تهم الأمة في نصابها، بعيداً من الأجندات الحزبية والسياسية والمذهبية. 

في تلك الفترة من عمر الأمة، حدث تطور مهم ودراماتيكي قلب الأمور رأساً على عقب، وشكّل رافعة لكل قضايا المستضعفين في المنطقة والعالم، وتحوّل إلى أنموذج فريد من نوعه لكل من أراد مقارعة الظلم ومجابهة قوى الاحتلال.

هذا الحدث كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني على نظام الشاه المجرم في شباط/فبراير من العام 1979، وما رافق ذلك من تطوّرات وتحوّلات صبّت جميعها في مصلحة قضايا الأمة العادلة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية. 

فجّرت تلك الثورة شعوراً طاغياً بالأمل والتفاؤل عند الشاب فتحي الشقاقي ورفاقه، إذ رأوا فيها ما يخفف عنهم وحدتهم وقلّة عددهم وغربة أفكارهم وأطروحاتهم، ونظروا إليها بأنها يمكن أن تشكّل بديلاً حقيقياً لكثير من المبادئ البالية والأطروحات الهزيلة والأنظمة الفاسدة، وهو ما عبّر عنه الشقاقي من خلال كتابه الذي بدا غريباً وجريئاً آنذاك "الخميني.. الحل الإسلامي والبديل"، الذي اعتقل في إثره عدة أيام في السجون المصرية.

بعد عامين ونصف عام تقريباً من انتصار الثورة الإيرانية، وقع حدث مفصلي آخر، إذ تم اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات في 6 تشرين أول/أكتوبر 1981، بعيد فترة وجيزة من عودة الشقاقي إلى قطاع غزة، بعدما أنهى دراسته الجامعية. 

بعد عملية الاغتيال، تم اعتقال جزء كبير من أصدقاء الشقاقي ورفاقه الذين لم يُنهوا دراستهم بعد، رغم عدم تورطهم من قريب أو بعيد بتلك العملية، إذ تم ترحيلهم لاحقاً إلى قطاع غزة. حينها، التمّ شمل الأصدقاء من جديد، وعادت الفكرة إلى وهجها مرة أخرى.

وبعد مداولات ونقاشات مستفيضة، تم الاستقرار على تحويل الحلم إلى حقيقة، والفكرة إلى واقع، والمأمول إلى ملموس، إذ وُضعت في أواخر العام 1981 اللبنة الأولى لتأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي تمر علينا في هذه الأيام الذكرى الثانية والأربعون لتأسيسها على أيدي الشقاقي وإخوانه، والذكرى السادسة والثلاثون لانطلاقتها الجهادية التي تم التأريخ لها في ذكرى عملية الشجاعية البطولية في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1987، التي كانت أحد الأسباب المباشرة لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد ذلك بشهرين تقريباً.

إطلالة على التاريخ  

منذ ذلك التاريخ الذي أُسّست فيه حركة الجهاد، وخلال سنوات طويلة، عاشت الحركة بثبات وصمود ورباطة جأش، رغم ما تعرّضت له من استفزازات واتهامات ومضايقات، ورغم ما تلقّته من ضربات من رأس الشر والإفساد في المنطقة "إسرائيل"، ورغم وحشة الطريق الذي سارته في كثير من الأحيان وحيدة، تلملم أشلاء قادتها ومجاهديها، وتعضّ على ألم الخذلان وقلّة النصير، ورغم فقرها وقلّة زادها وحصارها ومحاولة خنقها. 

رغم كل ذلك وغيره الكثير مما لا يسمح الوقت بالتذكير به، استمرت الحركة في طريقها من دون أي تراجع أو انكفاء، تواجه الريح، وتتصدّى للتشويه، ولا ترقب من فوهات بندقيات رجالها الأشدّاء إلا مآذن القدس العتيقة، ولا ترنو ببصرها رغم محاولات التعتيم وظلمة الطريق إلا إلى فجر الحرية والتحرير، غير آبهة بتضحيات هائلة وطعنات غادرة، مرددة قول أمينها العام الأول ومؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي: "حارس العمر الأجل"، ومستلهمة الشعار الخالد لأمينها العام الثاني الدكتور رمضان شلح رحمه الله: "والله لو وضعوا كل شموس الأرض في يميننا، وكل أقمارها في يسارنا، على أن نتنازل عن شبر واحد من فلسطين أو ذرة تراب من القدس فلن نقبل".

في ثنايا هذا التاريخ المجيد لحركة الجهاد الإسلامي، يمكن لنا أن نرى حجم الجهد والتعب الذي قدّمته الحركة وما زالت، إذ كان لها شرف تفجير انتفاضة الحجارة، وإن كان البعض ما زال يحاجج في ذلك، وكان لها شرف تفجير ثورة السكاكين، وإن كان البعض ما زال يُنكر ذلك، وكان لها شرف تنفيذ أول عملية استشهادية في فلسطين، وإن كان البعض يحاول أن يتجاوز عن ذلك.

وكان لها شرف رفع شعار الواجب رغم الإمكان وتحقيقه فعلاً مقاوماً على الأرض، على الرغم من تشكيك البعض في ذلك، وكان لها شرف إعادة الروح إلى العمل المقاوم في الضفة المحتلة بعد سبات طويل استمر أكثر من 15 عاماً، رغم إنكار البعض ذلك، وكان لها الكثير والكثير من البطولات والإنجازات التي لا يتسع المجال لذكرها، والتي وضعتها منذ النشأة وحتى الآن على رأس قائمة المستهدفين بالقتل والاغتيال والحصار والتشويه.

أجندة الجهاد الإسلامي

خلال هذه المسيرة الطويلة من البذل والعطاء، كانت أجندة الجهاد واضحة كالشمس، سواء على المستوى الداخلي أو على صعيد علاقاتها في المنطقة والإقليم، فهي لم تتلوّن كما يفعل البعض، ولم تقفز من قارب باتجاه آخر عند شعورها بالمخاطر والأزمات، ولم تُسقط شعارات وترفع أخرى بحسب ما تقتضيه مصلحة الحركة، بل ظلّت ثابتة متمسكة بمبادئها من دون خوف أو وجل، رغم ما دفعته من أثمان، وما زالت أمينة على مصالح شعبها وأمتها، وحريصة على أن تبقى يدها نظيفة من المال الحرام، ومن دم إخوة الدين والوطن. عدوّها واحد، وقتاله مقدّم على كل ما سواه. لا تلتفت إلى الصغائر، ولا تنتظر من أحد صدقة أو إحساناً.   

منذ نشأة حركة الجهاد الإسلامي قبل 42 عاماً وأجندتها مُعلنة على رؤوس الأشهاد، وهي تدعو بكل وضوح إلى التحالف مع كل قوى الأمة الحيّة التي تعارض وجود رأس حربة المشروع الاستعماري في المنطقة المسماة "إسرائيل". لذلك، رفعت شعار مركزية القضية الفلسطينية، وهي تدعو كذلك إلى وحدة الأمة على قاعدة جمع مفردات القوة في الأمة، حتى تستطيع مواجهة تكتل قوى الشر والعدوان الذي يقف على رأسه "الشيطان الأكبر" أميركا.

أجندة الجهاد كانت وما زالت ترتكز على الدعوة لمواجهة العدو في كل أماكن وجوده، وبكل الوسائل الممكنة، والتواصل مع كل المكوّنات التي يمكن أن تساعد في الوصول إلى هذا الهدف، بصرف النظر عن اللغة والطائفة والعِرق واللون.

وقد حرصت حركة الجهاد على مدار تاريخها الطويل وقيادتها المتعاقبة على بناء علاقات داخلية وخارجية واضحة وشفّافة، إذ لم يحدث أنها سمحت لأي حليف أو شريك، إقليمياً كان أو محلّياً، ومهما كانت قوة العلاقة معه بالتدخّل في قرارها أو فرض أجنداته عليها أو التأثير في توجهاتها وعلاقاتها.

ورغم أن البعض اعتقد في لحظة ما، سواء بحسن نيّة أو بغير ذلك، أن تحالف الحركة مع قوى إقليمية معينة وتلقّي الدعم منها بعدما تخلّى عنها معظم العرب والمسلمين هو انصياع لأجندة خارجية واستسلام لمشيئة إقليمية، فقد أظهرت السنوات الأخيرة أن موقف الجهاد كان صائباً، وأن الحركة كانت تنظر إلى المستقبل بعيون مفتوحة وبقلب طاهر ونظيف. 

ثبات رغم التغيّرات

على الرغم من التأثيرات الهائلة التي يمكن أن تُحدثها أي عملية تغيير على مستوى القيادة في هيكلية الدول أو الجماعات وعملها، وهو الأمر الذي عانته حركة الجهاد الإسلامي، وتحديداً على صعيد الأمانة العامة، فإن هذا التغيير الذي جاء في فترات حسّاسة وحاسمة من عمرها لم يؤدِّ إلى سقوطها أو تفكّكها، سواء على مستوى الهيكل التنظيمي أو فيما يخص علاقاتها وتحالفاتها أو على صعيد التعامل مع القضايا المختلفة.

وبعد استشهاد الأمين العام المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي في تشرين الأول/أكتوبر 1995، وتولي خلفه الدكتور رمضان شلح (رحمه الله) منصب الأمانة العامة، لم تعانِ الحركة، كما توقّع البعض حينها، تحولاً استراتيجياً في مواقفها من عدد من القضايا، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي، ناهيك بحالة الاشتباك مع العدو الصهيوني، ولم تُعِد تموضعها السياسي أو الميداني، كما اعتقد آخرون.

 ويبدو لي أن البعض في تلك الفترة، ولا سيما من أصحاب النيات الحسنة، اختلط عليهم الأمر ما بين الشكل والمضمون، إذ إنهم اهتموا بالشكل والأسلوب وبعض المفردات التي استخدمها كل من الدكتور الشقاقي وخلفه الدكتور رمضان، وتغاضوا عن الفكرة والمبدأ والمضمون، الذي كان كله منسجماً إلى أبعد الحدود. 

هذه الحال تكرّرت بعد تولّي الأمين العام الحالي الأستاذ زياد النخالة الأمانة العامة قبل 4 سنوات ونصف سنة تقريباً، إذ مضى على الطريق نفسه، وحافظ على الإرث التاريخي للحركة كما هو من دون نقصان، بل ربما توسّعت الحركة في عهده نتيجة الكثير من التطورات في ساحات أخرى غير الساحة الفلسطينية، وباتت خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحديداً أكثر نضوجاً ووضوحاً وقوةً، وهو ما أهّلها لتقود مرحلة صعبة وحاسمة من تاريخ الصراع مع المحتل الصهيوني.

ويمكن لنا أن نقول بكل حياد وشفافية إن القائد النخالة لم يبتدع سياسة مختلفة عن سابقيه، كما يدّعي البعض، ولم يقامر بمصلحة شعبه وأهله تنفيذاً لأجندات خارجية، كما يزعم البعض الآخر، بل إنه تحمّل أمانة وتركة ثقيلة في مرحلة صعبة وحساسة من تاريخ الصراع في فلسطين والمنطقة، احتاج فيها إلى كثير من الحنكة والذكاء، ورباطة الجأش، والصبر على الأذى، حتى يتمكّن من قيادة حركته وشعبه إلى بر الأمان.

تحدّيات وعوائق

بما أن حركة الجهاد الإسلامي منذ نشأتها وحتى يومنا هذا اختارت المضي في طريق الجهاد والمقاومة من دون النظر إلى ما يمكن أن ينتج منه من أثمان باهظة وتضحيات هائلة عاشت بعض تفاصيلها في السنوات الأربع الأخيرة تحديداً، إذ تم اغتيال قادتها التاريخيين في قطاع غزة، وتشديد القبضة الأمنية على ناشطيها وكوادرها السياسيين والعسكريين في عموم الضفة المحتلة، وصولاً إلى استهداف كوادرها في سوريا وغيرها من دول المنطقة، والكثير من التحدّيات الأخرى على صعد مختلفة لا نجد الوقت مناسباً للإشارة إليها أو الكشف عنها، فإنها بالرغم من كل ذلك تواصل المسير من دون كلل أو ملل، مؤمنة بأن المطلوب منها هو العمل فقط، وليس التكفّل بالنتائج، إذ إن النتائج تبقى في يد الله وحده.

وبالتالي، فإن استمرارها على هذا الدرب الذي قد يبدو موحشاً في فترات كثيرة يضع أمامها الكثير من التحديات والعوائق التي يجب عليها تجاوزها وعدم الاستسلام لها أو التوقّف عندها، والحركة لديها تجربة غنية تؤهلها للقيام بهذا الأمر بنجاح، لا سيما أنها تملك الخبرة المطلوبة والإمكانيات المعقولة والإيمان المطلق بأن أصحاب الحق لا يتعبون، ولا يتراجعون، ولا ينكسرون.

أولى تلك التحدّيات التي تواجهها حركة الجهاد هي البناء الداخلي، إذ إن البناء الداخلي للحركات والتنظيمات يعد أخطر تحدٍّ يمكن، في حال ترهّله أو ضعفه، أن يؤثر في جسمها، لا سيما في ظل تعرّض هذا البناء لكثير من الضغوطات الهائلة الناتجة من فقدان القادة وانخفاض الدعم المالي وزيادة الأعباء والتغيّرات على مستوى البيئة والمجتمع.

وفي اعتقادي، إن الحركة رغم ما تعرضت له من ضربات، ورغم ما عانته من أزمات، خصوصاً على المستوى المالي، ما زالت تملك كل القدرة على مواجهة هذا التحدّي وتجاوز آثاره بأقل قدر من الخسائر.

وقد كانت التجربة الانتخابية التي خاضتها الحركة قبل أشهر لاختيار أعضاء مكتبها السياسي وأمينها العام، في ظل الحملات الإسرائيلية العنيفة التي استهدفتها، خير دليل على أنها تملك من القدرة التنظيمية والخبرة والحنكة السياسية ما تستطيع من خلاله تحدّي الكثير من العوائق وتجاوز الكثير من العراقيل.  

التحدّي الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه هو المواجهة مع العدو الصهيوني وما يترتّب عليها من نتائج وتداعيات. لقد ركّز العدو معظم جهوده الاستخبارية والعسكرية خلال السنتين الأخيرتين تحديداً على حركة الجهاد، لأنه أدرك قبل غيره أنها مسؤولة عن إشعال ساحات الضفة المحتلة من جديد، وأنها لا ترضى بالضيم، ولا تسكت على العدوان، وأنها جاهزة على الدوام، وبصرف النظر عن الكثير من الظروف المحيطة، للذهاب نحو المواجهة معه والتصدّي لمخططاته، مهما كلف ذلك من ثمن.

لذلك، قام العدو بشن العديد من الحملات العسكرية ضد الحركة، سواء في طول وعرض الضفة الغربية؛ ساحة الصراع الأساسي الآن أو في قطاع غزة، حيث تموضع القوة العسكرية الرئيسية التي تملكها، والتي تلوّح من خلالها في وجه العدو كلما حاول التغوّل على شعبها أو الاعتداء على مقدساتها.

وبالتالي، فإن الحركة أمام تحدٍ صعب ومكلف ويحتاج إلى الكثير من الخطط والدراسات والنظرة إلى المستقبل، ولا سيما أن المواجهة مع العدو لم تعد كما كانت في السابق، إذ إنها أصبحت أكثر عنفاً، وأوسع مدى، ويمكن أن تنتج منها تداعيات مؤثرة وحاسمة.

هذه المواجهة فرضت على الحركة تحدياً ثالثاً، ووضعها أمام التزام حاسم ومصيري، إذ إنها أفرزت واقعاً جديداً لا أكاد أذكر أنها مرّت به خلال سنوات طوال من عمرها، إذ تم اغتيال عدد كبير من قادتها العسكريين الذين كان بعضهم يشغل مهام حيوية وحسّاسة على صعيد المواجهة مع العدو، سواء في أثناء المعارك المختلفة التي جرت مع المقاومة في قطاع غزة، أو من خلال الإشراف وتوجيه سير العمل المقاوم الذي تقوم بها كتائب سرايا القدس في الضفة المحتلة. 

وبناء عليه، ونتيجة فقدان الحركة قادة كباراً من مؤسسي جناحها العسكري، لا سيما في معركتي "وحدة الساحات" و"ثأر الأحرار" أو في أواخر عام 2019، حين تم اغتيال أحد أبرز قادتها الشهيد بهاء أبو العطا أو خلال المواجهات الكثيرة التي خاضتها مع الاحتلال في السنوات الأخيرة، فإنها تواجه تحدي إعادة هيكلة جناحها العسكري الذي بات يتحمّل أكبر عبء على صعيد المواجهة مع قوات الاحتلال إلى جانب باقي فصائل المقاومة الوطنية والإسلامية.

ليس هذا فحسب، بل عليها أيضاً القيام بكل ذلك على صعوبته في ظل استمرار المواجهة، وتواصل العدوان، وارتفاع منسوب التهديدات التي تتعرّض لها كل يوم في عدد من الساحات، والتي تستهدف كل مفاصلها، وفي مقدمتها قادة الصف الأول. 

التحدّي الرابع الذي ينبغي للجهاد الإسلامي مواجهته هو تحالفاتها المحلية والإقليمية، التي اتسمت، كما أشرنا سابقاً، بالوضوح والشفافية وتميّزت عن غيرها بالمواقف المبدئية التي لا تخضع لتبادل المصالح أو المنافع.

وفي اعتقادي، إن تحالفات الحركة على المستوى الداخلي كانت، وما زالت، متوازنة وناضجة إلى أبعد الحدود، على الرغم من مرورها ببعض الفتور والتوتّر مع بعض الفصائل في أوقات معينة، نتيجة ظروف قاهرة وتباينات طارئة، إلا أنها لطالما عادت إلى طريقها القويم بالسرعة القصوى، متجاوزة بعض الخلافات، ومتناسية بعض الأخطاء والهفوات.

والتحدّي هنا ليس نتاج خلاف حركة الجهاد مع هذا الفصيل أو ذاك، إنما نتيجة وجود تباينات كبيرة بين تلك الفصائل، لا سيما أكبر حركتين فتح وحماس، وهذا ما يجعل الجهاد، وهي التي بذلت جهوداً جبارة في سبيل تقريب وجهات النظر بين الجانبين، تمشي وسط حقل من الألغام، إذ إن المطلوب منها هو الحفاظ على علاقات واضحة ومرنة تجاه طرفين متناقضين في كثير من الملفات، وهو الأمر الذي أثبتت التجربة أنه عمل صعب ومعقّد، ويحتاج إلى الكثير من طول النفس والحنكة والذكاء. 

أما على مستوى المنطقة والإقليم، فتبدو علاقات الحركة منسجمة مع خطّها العام الذي يرفع شعاراً واضحاً لا لبس فيه، ويشير إلى أن محددات اقتراب الحركة أو ابتعادها من هذا الطرف أو ذاك يأتي نتيجة موقفه من القضية الفلسطينية من جهة، وموقفه من العدو الصهيوني من جهة أخرى. 

إن الحركة تقترب من أي طرف، بصرف النظر عن حجمه ووزنه، بقدر اقترابه من قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وتبتعد عن كل الأطراف التي تنأى بنفسها عن هذه القضية المحقّة وتدير ظهرها لها، كما يفعل الكثيرون.

وبما أن الحركة تدير علاقاتها الإقليمية على هذا الأساس، فهي لا تجد حرجاً في الاقتراب من دول حاول البعض إظهارها بأنها صاحبة مشاريع مذهبية وطائفية، كالجمهورية الإسلامية في إيران، وهي التي ثبت للجميع بأنها صاحبة أكبر مساهمة في دعم المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها وتحويلها من مقاومة متواضعة على مستوى الإمكانيات والخبرات إلى قوة مهنية وصلبة ومهابة الجانب.

في المقابل، لا تجد غضاضة في الابتعاد عن كثير من الدول التي لم تكن يوماً سوى خنجر مسموم في ظهر الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ولم تقدم له سوى المزيد من اليأس والإحباط والخذلان.  

ختاماً، نحن نعتقد أن مسيرة حركة الجهاد العبقة بدماء شهدائها الأبرار، وبشموخ أسراها البواسل في سجون الاحتلال، وبإصرار مقاتليها الأبطال في غزة وجنين ونابلس وطولكرم وطوباس وعقبة جبر وكل جنبات الوطن، ستصل في نهاية المشوار إلى ما ترنو إليه، غير عابئة بجراحات تُدمي جسدها، ولا بعقبات تعترض طريقها، وهي مسيرة لن تتوقف إلا على أبواب المسجد الأقصى، ترفع شارات العزة، وتلوّح برايات الحرية، وتردّد نشيد الانتصار.