خلفيّات التحالف "الاضطراري" بين هانوي ومانيلا في بحر الصين الجنوبي
التقارب بين مانيلا وهانوي يعتبر نقطة مهمة في علاقاتهما الثنائية، وفي مشهد المواجهة الجيوسياسية الحالية في بحر الصين الجنوبي، وكذلك في المسار الفلبيني الذي يركّز على توسيع قاعدة التعاون الدفاعي.
تستمر التفاعلات الجيوسياسية والأمنية في منطقة بحر الصين الجنوبي في التطوّر بشكل لافت خلال الفترة الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين دول المنطقة، التي وجدت نفسها مضطرة لتأمين مصالحها في هذه المنطقة الحيوية، التي تتنازع على السيادة فيها العديد من الدول، على رأسها الصين، التي تطالب بالسيادة على البحر بأكمله تقريباً، بينما تطالب دول جنوب شرق آسيا الأخرى، وهي الفلبين وفيتنام وماليزيا وتايوان وبروناي، بالسيادة على العديد من المناطق البحرية الموجودة في هذا النطاق.
هذا الوضع ربما كان سبباً أساسياً في لجوء بعض الدول في جنوب شرق آسيا - رغم اختلاف توجهاتها الاستراتيجية - إلى البحث في إمكانية التعاون فيما بينها، لتشكيل ما يشبه "الحلف المقابل" للأنشطة الصينية في منطقة بحر الصين الجنوبي، ولعل أبرز مثال على ذلك الفلبين وفيتنام، اللتان عقدتا منذ أسابيع قليلة، اتفاقاً بشأن التعاون في مجال الأمن البحري في بحر الصين الجنوبي، والذي جاء بعد اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في لاوس، وتم خلاله تأكيد أهمية التنفيذ الكامل للإعلان بشأن السلوك البحري في بحر الصين الجنوبي، والذي اتفقت عليه الرابطة مع الصين، عامي 2002 و2012.
هذا الاتفاق، تمّ توقيعه ضمن اتفاقات أخرى، خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الفلبيني، فرديناند ماركوس، إلى العاصمة الفيتنامية، أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، تنظّم أنشطة قوات خفر السواحل في كلا البلدين، وتنسّق بينها لمنع وإدارة الحوادث والاحتكاكات التي تنشأ في مياه بحر الصين الجنوبي، وهي احتكاكات تزايدت بشكل واضح خلال الأسابيع الأخيرة، وكانت الصين والفلبين جزءاً أساسياً فيها.
تصاعد التوتر البحري بين بكين ومانيلا وهانوي
كان ملف النزاع بين الصين وعدة دول ـــــ بينها الفلبين ـــــ على السيادة في جزر "سبراتلي" ببحر الصين الجنوبي، من الملفات الأساسية التي تضع لها بكين أولوية أساسية في استراتيجيتها السياسية والعسكرية.
والفلبين من جانبها بدأت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، في الإشارة إلى بحر الصين الجنوبي باسم "بحر الفلبين الغربي"، وأعلنت في حزيران/يونيو 1978، عن مرسوم رئاسي أعلن القسم الشمالي الغربي من جزر سبراتلي ـــــ وتحديداً جزر "كالايان" ـــــ أراضي تابعة للفلبين، وهو ما لم تعترف به الصين حتى الآن.
وقد قامت القوات الصينية عامي 1994 و2012، باحتلال جزر "ميستشيف" المرجانية ومنطقة "سكاربورو شول"، اللتين تقعان في النطاق الذي تطالب به مانيلا، ومنذ ذلك التوقيت تواجهَ الجانبان عشرات المرات في محيط هذه المنطقة، خاصة بعد أن استقرت بشكل دائم سفينة تابعة للبحرية الفلبينية في منطقة "توماس شول"، واحتك الجانبان في العديد من المرات حول الجزر التي تطالب بها الفلبين في بحر الصين الجنوبي، وعلى رأسها "سكاربورو شول"، و"سكند توماس شول"، و"واتسون ريف"، و"إيروكوا ريف"، و"سابينا شول".
ويلاحظ أن حالة "التوتر البحري" بين الجانبين، قد تزايدت بشكل مطرد منذ أواخر العام الماضي، حين اتهمت الفلبين الصين بحشد زوارق الصيد وحرس السواحل الخاصة بها، في منطقة "واتسون" المرجانية قبالة سواحلها. من جانبها، اتهمت الصين الفلبين بالقيام باستفزازات في منطقة "سكند توماس شول" المتنازع عليها، حيث اشتكت مانيلا من استخدام خفر السواحل الصيني لخراطيم المياه، وأشعة الليزر، في استهداف السفن الفلبينية لإبعادها من المنطقة، وهو ما أدى إلى مواجهة بحرية بين سفن كلا الجانبين في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وقد تصاعد التوتر في هذا النطاق البحري بشكل أكبر خلال آذار/مارس الماضي، بعد أن أجرت الصين مناورات بحرية في بحر الصين الجنوبي، بالتزامن مع مناورات فلبينية - أميركية مشتركة، وقد أثار هذا المشهد بشكل عام، مخاوف جدية من إمكانية نشوب صراع مسلّح واسع النطاق، على خلفية تصاعد المواجهات البحرية بين الفلبين والصين، وعلى هذه الخلفية، يبدو أن مانيلا تسعى إلى نسج علاقات استراتيجية مع الدول الأخرى التي تتشارك معها في وجهة النظر المتعلقة بالسيادة في بحر الصين الجنوبي، وبما أن فيتنام لا تزال على خلاف مع الصين في بحر الصين الجنوبي، فقد برزت كخيار طبيعي للتعاون الدفاعي مع الفلبين.
فيتنام من جانبها، تعاني منذ العام الماضي، من زيارات متكررة من قبل سفن الأبحاث وقوارب الصيد والسفن المدنية الصينية، للمنطقة الاقتصادية الخالصة لفيتنام، خاصة في محيط جزيرة "تريتون"، ما حدا بهانوي لاتهام الصين بمحاولة عرقلة عمليات التنقيب عن النفط والغاز في فيتنام. كما تعارض هانوي بشدة، خط النقاط التسع، الذي حددته بكين، لتأكيد الحدود الجغرافية لسيادتها على السواد الأعظم من مناطق بحر الصين الجنوبي.
تقدّم بطيء في شراكة هانوي ومانيلا رغم التحديات المشتركة
على الرغم من هذا التهديد المشترك لكلّ من الفلبين وفيتنام في بحر الصين الجنوبي، لكن كلا البلدين لم يكونا دائماً على وفاق فيما يتعلق بهذا الملف، حيث تسبّبت نزاعاتهما البحرية المعلقة في عرقلة التعاون بينهما لسنوات عديدة، وكانت نقطة البداية في هذا الصدد، سيطرة فيتنام الخاطفة على سلسلة جزر "كاي" في جزر سبراتلي عام 1976، وهو ما أطلق سباقاً بين البلدين لإعلان السيادة على أكبر عدد ممكن من المواقع في هذه الجزر، حيث استحوذت الفلبين على مناطق (لانكيام كاي، وكومودور ريف، ولويتا كاي، وجزيرة لويتا، ونورث إيست كاي)، بينما سيطرت فيتنام على مناطق (أمبوينا كاي، ووسط لندن ريف، وغريرسون ريف، وبيرسون ريف).
على المستوى العام، كانت العلاقات الاستراتيجية بين الفلبين وفيتنام محدودة للغاية، باستثناء العمل معاً، من خلال مبادرات رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، فيما يتصل بمجموعة من القضايا الأمنية غير التقليدية. السبب في ذلك كان حقيقة أن لكلا البلدين ـــــ وما زال لديهما ـــــ مقاربتين مختلفتين لعلاقاتهما الدولية، حيث راهنت الفلبين في معظم مراحلها السياسية ـــــ عدا مرحلة الرئيس رودريغو دوتيرتي بين عامي 2016 و2022 ـــــ على علاقتها مع واشنطن، في حين كانت فيتنام دوماً تحافظ على هامش من المناورة في علاقتها مع كل من واشنطن وبكين.
لكن منذ عام 2010، تسبّبت التحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي، في إطلاق تقارب تدريجي بطيء الوتيرة بين الفلبين وفيتنام، بعد أن بدا لكليهما، أنهما يواجهان تحدياً بحرياً أكبر من جانب الصين، خاصة بعد أن فقد كلاهما المناطق التي كانا يسيطران عليها في جزر سبراتلي، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، لصالح الصين، حيث فقدت فيتنام كلّ المناطق التي تسيطر عليها في جزر "بارسيل" ومنطقة "جونسون".
وكذلك الأمر بالنسبة للفلبين، التي فقدت معظم المناطق الموجودة تحت سيطرتها في هذا النطاق، بما في ذلك جزيرة "ميستشيف ريف"، التي سيطرت عليها الصين، وحوّلتها بعد ذلك إلى قاعدة عسكرية كبرى وسط المنطقة الاقتصادية الخالصة للفلبين، وكذلك مناطق الصيد البحري الغنية، في "منطقة سكاربورو شول"، التي سيطرت عليها الصين عام 2012.
نقطة بداية تصاعد التعاون بين فيتنام والفلبين، كانت عندما تولّت فيتنام رئاسة رابطة (آسيان) عام 2010، وحينها ساعدت مانيلا في توجّهاتها لتشجيع واشنطن على زيادة دورها في أزمة بحر الصين الجنوبي، وهي الجهود التي دعمتها دول عديدة في رابطة آسيان، مثل سنغافورة، وهو ما أثمر عن إصدار إدارة أوباما حينها، بياناً بشأن حرية الملاحة في المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، تلاه تضمين هذا الملف ضمن استراتيجية "المحور نحو آسيا"، التي أعلنتها واشنطن في العام التالي.
انتقل التعاون بين الفلبين وفيتنام إلى مرحلة جديدة، بعد إعداد خطة العمل الفلبينية الفيتنامية (2011-2016)، وتوقيعها عام 2011، والتي تضمّنت مذكّرة تفاهم لإنشاء خط ساخن بين خفر السواحل الفلبيني والشرطة البحرية الفيتنامية، إضافة إلى مذكّرة أخرى لتعزيز التعاون المتبادل وتبادل المعلومات بين القوات البحرية في كلا البلدين.
تلت هذه الخطة نقلة نوعية في العلاقات بين الجانبين، عبر توقيع الشراكة الاستراتيجية بينهما (JSESP) أواخر عام 2015، والتي أطلقت سلسلة من الاجتماعات الدورية بين القيادات العليا في كلا البلدين، بدأت منذ عام 2019. وانعقد الاجتماع الخامس منها في تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
يضاف إلى ذلك، اشتراك الجانبين عام 2014، في سلسلة من تدابير بناء الثقة، بما في ذلك إقامة مباريات كرة القدم والكرة الطائرة في الملاعب التي تسيطر عليها فيتنام والفلبين في جزر سبراتلي، كما أصدرت هانوي عام 2016، بياناً دعمت فيه القضية التي رفعتها الفلبين ضد الصين أمام محكمة التحكيم الدائمة، بشأن المطالبة بالسيادة على مناطق في بحر الصين الجنوبي، وهي القضية التي حكمت المحكمة فيها لصالح مانيلا.
تحديات تحوّل العلاقة بين الفلبين وفيتنام إلى "تحالف استراتيجي"
من هذا المنطلق، يمكن اعتبار الزيارة الرسمية التي أجراها مؤخراً إلى هانوي، الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس، بمثابة مؤشر واضح على التقارب الاستراتيجي المتنامي بين الفلبين وفيتنام فيما يتعلق بالأمن البحري وبحر الصين الجنوبي، خاصة أن هذه الزيارة تضمّنت توقيع العديد من مذكرات التفاهم، وقدّم خلالها ماركوس، دعوة لفيتنام للمشاركة في المناورات البحرية المتعددة الأطراف (MARPOLEX)، التي ستحتضنها الفلبين في وقت لاحق من العام الجاري، إلى جانب إندونيسيا واليابان.
يتوقّع أن يحفّز التقارب الأخير بين مانيلا وهانوي، دولاً أخرى في رابطة (آسيان)، على اتخاذ مواقف أكثر تشدّداً من أنشطة بكين في بحر الصين الجنوبي، حيث قد يقدّم التعاون بين الفلبين وفيتنام ديناميكية جديدة في التعاطي مع الأنشطة الصينية، مما قد يجبر الصين على التعامل بحذر مع كلّ الدول المنخرطة في هذه المنطقة خلال المرحلة المقبلة.
ومع ذلك، لا يرجّح أن تتحوّل الاتفاقات الأخيرة التي وقّعها كلا البلدين إلى حالة "تحالف استراتيجي كامل"، لعدد من الأسباب، يتعلق معظمها بالاختلافات السياسية والأيديولوجية بينهما، ومنها قرب فيتنام الجغرافي والسياسي والتاريخي من الصين، كما أنه من غير المرجح أن تتبع هانوي النهج الفلبيني نفسه حيال زيادة التقارب والتعاون الدفاعي والسياسي مع واشنطن، خاصة أنه توجد قيود تشغيلية تحول دون إنشاء تحالف قوي بين الفلبين وفيتنام على المستوى العسكري، حيث يفتقر جيش الفلبين المدجج بالسلاح الأميركي، وجيش فيتنام المدجج بالسلاح الروسي، إلى التوافق التكنولوجي والعملياتي بينهما، ما يقلّص من إمكانية التعاون بينهما على مستوى التدريبات العسكرية الكبرى، لتقتصر فقط على التعاون الاستخباراتي.
كذلك لم يتمكّن كلا البلدين ـــــ حتى الآن ـــــ من إيجاد حلول نهائية لخلافاتهما حول السيادة في جزر "سبراتلي"، كما أن لكل منهما مطالبات لم يتم حلّها مع ماليزيا، وبالتالي من غير المرجّح أن تتمّ تسوية مثل هذه النزاعات قريباً، في ظل وجود إصرار من كليهما على مطالباتهما الحالية في هذا الصدد، وكذلك تركيز الأصوات القومية والصديقة لبكين في الفلبين بشكل متزايد، على التوجهات التوسعية لفيتنام في بحر الصين الجنوبي، خاصة أنشطتها في مجال الصيد.
خلاصة القول إن التقارب الأخير بين مانيلا وهانوي يعتبر نقطة مهمة في علاقاتهما الثنائية، وفي مشهد المواجهة الجيوسياسية الحالية في بحر الصين الجنوبي، وكذلك في المسار الفلبيني الذي يركّز على توسيع قاعدة التعاون الدفاعي بينه وبين القوى الإقليمية والدولية، والتي باتت تشمل إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، كلاً من كندا واليابان والهند وأستراليا وفرنسا. لكن من غير المرجح أن يتحوّل هذا التقارب إلى تحالف كامل، وسيتعيّن على مانيلا وهانوي التغلّب أولاً على ضعف مستوى الثقة بينهما، والاختلافات الاستراتيجية والأيديولوجية، وافتقارها إلى التوافق العملياتي والعسكري.