بعد زيارته بكين.. ماكرون ينقلب على الولايات المتحدة
يرى ماكرون أن الحرب في أوكرانيا كانت بمنزلة تدمير منظم لأوروبا التي بات عليها اليوم أن تعمل وفقاً لمصلحتها، لا وفقاً لما تقتضيه مصالح الآخرين.
لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبكين عادية، فقد دقت إسفيناً في نعش الاتحاد الأوروبي من جهة، وعلاقة دول الاتحاد بالولايات المتحدة من جهة أخرى. جاءت تصريحاته صادمة للعديد من دول الاتحاد. أما الولايات المتحدة، فقد استنكرتها، ووصفته بأنه يسعى للعودة بفرنسا إلى الديغولية ونسيان الجميل وإنكار كل ما فعلته أميركا للغرب عموماً، ولفرنسا على وجه التحديد.
رأى ماكرون أن معركة أوروبا الحقيقية تتمثل في الاستقلال الإستراتيجي عن أميركا، والعمل على أن تصبح كتلة وازنة لها ثقل سياسي واقتصادي وعسكري في الساحة الدولية، إلى جانب القوى الكبرى الفاعلة اليوم (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، ورأى أيضاً أن الحرب في أوكرانيا كانت بمنزلة تدمير منظم لأوروبا، التي بات عليها اليوم أن تعمل وفقاً لمصلحتها، لا وفقاً لما تقتضيه مصالح الآخرين.
وكرَّر دعم فرنسا لسياسة "صين واحدة"، التي تنصّ على أن بكين هي الممثل الشرعي الوحيد للبر الرئيسي وتايوان، وأن الجزيرة جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، ودعا الأوروبيين إلى اتخاذ موقف مستقل من قضية تايوان بعيداً من التنافس بين الصين والولايات المتحدة، بمعنى أن يكون لأوروبا موقفها المؤيد لحلّ قضية تايوان بالطرق السلمية، ووفقاً لما تطرحه بكين: "دولة واحدة ونظامان".
وكان لافتاً تكرار ماكرون كلام الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي سبق أن تحدث عن تغيرات تحدث اليوم في العالم، ولم تحدث منذ 100 سنة.
دوافع ماكرون
بدا أنَّ الرئيس ماكرون ضاق ذرعاً بالاحتجاجات الداخلية في بلاده، التي جاءت انعكاساً لسوء الأوضاع الاقتصادية فيها، وارتفاع الأسعار، وفقدان الطاقة، وسوى ذلك من المشكلات.
وقد رأى أن الولايات المتحدة تتحمل جزءاً كبيراً من ذلك، بدءاً من إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، التي يقدر ثمنها بـ35 مليار يورو، نتيجة دخول الولايات المتحدة على الخط، وإقناعها أستراليا ببناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، في صفقة جديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا عرفت باسم صفقة "أوكوس" (Aukus)، وهو ما تسبب بفقدان فرنسا مبالغ كبيرة من المال.
أما أميركا وبريطانيا، فهما تعتقدان أن صفقة الغواصات ليست صفقة تجارية، بل قضية تتعلق بالتحولات الإستراتيجية في العالم، التي أدت إلى تشكيل التحالف الثلاثي بين كل من إنكلترا وأميركا وأستراليا (أوكوس)، وأن فرنسا، لو دعيت إلى الانضمام إلى هذا التحالف، لن تقبل به.
كذلك، تسببت السياسات الحمائية الأميركية على بعض الصناعات المحلية بالمزيد من الخسائر للصادرات الفرنسية إلى الولايات المتحدة. وعند بدء الحرب في أوكرانيا، طلبت الولايات المتحدة من الدول الأوروبية المشاركة في الحصار الاقتصادي على موسكو، وعدم شراء الغاز من روسيا، في مقابل تعهد أميركا بتزويد الدول الأوروبية بالغاز، لكن ثمن الغاز الأميركي كان مرتفعاً جداً، ووصل إلى أكثر من 4 أضعاف الغاز الروسي، وهو ما تسبب بالمزيد من الأعباء على المواطن الفرنسي.
ذريعة الولايات المتحدة في ذلك أنَّ أميركا ليست منتجة للغاز، وأنها تبيع الدول الأوروبية الغاز المسال، وهو غاز ثقيل يحتاج نقله بالبواخر إلى كلفة عالية جداً، وأنها لا تستطيع أن تبيعهم الغاز بسعر منخفض، كما كان بوتين يفعل، وأن الشركات التي تبيع الغاز الأميركي هي شركات خاصة، وبالتالي لا تستطيع الحكومة الأميركية ممارسة أي ضغوط عليها.
وكان ماكرون، بعد وصوله إلى الرئاسة الفرنسية عام 2017، دعا إلى أن تصبح أوروبا قوية وقادرة على قيادة العالم عبر تشكيل قوة أوروبية موحدة. وعام 2018، دعا إلى تشكيل جيش أوروبي، حتى لا تبقى أوروبا معتمدة على الناتو، الذي أصبح اليوم يتألف من 30 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
انطلاقاً من هذه الرؤية، فإنه يعتقد أن القيادة يجب أن تكون في يد أوروبا لا أميركا، وتحديداً فرنسا، نظراً إلى دورها الكبير في الساحة الدولية وتاريخها الاستعماري الواسع.
وعام 2019، رأى ماكرون أن الناتو ميت سريرياً، ويجب البحث عن شكل آخر من التحالفات يكون لأوروبا موقع الريادة فيه. وعام 2022، وقبيل بدء الحرب في أوكرانيا، زار موسكو واجتمع مع الرئيس بوتين، وعاد ليؤكّد أنه لن يكون هناك غزو روسي لأوكرانيا خلافاً لما كانت الولايات المتحدة الأميركية تقوله.
وبعد الحرب الروسية في أوكرانيا، كانت فرنسا أكثر المتضررين من قطع العلاقات مع روسيا، وازدادت الاحتجاجات التي أصبحت تزعزع الأمن والاستقرار فيها. لقد تسببت هذه الحرب بفقدان المواطن الأوروبي حياة الرفاه التي اعتادها لعقود مضت، وبدا أنّ الولايات المتحدة غير آبهة بما يعانيه الأوروبيون من أزمات، ما جعل ماكرون يلقي خطاباً يقول فيه: "لا نريد إذلال روسيا".
هذا الموقف لم يكن نابعاً من محبته لروسيا أو للرئيس بوتين بكلّ تأكيد، بل لقناعته بأنّ روسيا (النووية) لا يمكن أن تهزم، وأن زيادة الضغط على موسكو ستكون لها تبعات شديدة على العالم كله، وعلى أوروبا على وجه التحديد.
لقد أصبح ماكرون يتعامل مع القضية الأوكرانية كأنه وسيط، وليس طرفاً في الحرب، وهو تغير نوعي وكبير، كما أن الدعم الفرنسي لأوكرانيا في حربها ضد موسكو كان محدوداً إذا ما قورن بباقي الدول الأوروبية.
لذا، تعرض ماكرون لانتقاد شديد من بعض الدول الأوروبية، وخصوصاً دول أوروبا الغربية، التي رأت أنه ذهب ليستجدي الرئيس الصيني للتدخل واستخدام علاقته مع موسكو لإقناعها بإيجاد حل سلمي للأزمة في أوكرانيا.
الموقف الأميركي
ترى الولايات المتحدة الأميركية أن أوروبا لم تغفر لها المبادئ التي أعلنها الرئيس الأميركي ويلسون عام 1918، وهي 14 مبدأ، دعا من خلالها إلى حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما لم يرق للدولتين الاستعماريتين آنذاك (بريطانيا وفرنسا).
كذلك، لم يتقبل الأوروبيون الموقف الأميركي من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي سعى لتكريس الموقف الأوروبي كموقف تابع للولايات المتحدة لا العكس.
وعام 1966، وفي قمة الحرب الباردة والمنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حاول شارل ديغول التمرد على حلف الناتو لتكون فرنسا جسراً وسيطاً بين الشرق والغرب، ليعود ساركوزي عام 2009 ويعيد فرنسا إلى الحلف بعضوية كاملة بعد 43 عاماً من انسحاب شارل ديغول منها وطرد القواعد الأميركية من الأراضي الفرنسية. وقد رحب الناتو بهذه الخطوة الفرنسية، واعتبرها تعزيزاً لقوة الحلف.
دعا شارل ديغول إلى الأوراسية، وسعى للاقتراب أكثر من الاتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة، وهو ما يدعو إليه ماكرون اليوم على حساب الأطلسية، وهو يسعى للتوجه شرقاً نحو الصين وروسيا.
أراد ديغول أن تكون فرنسا قوة ثالثة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا، وهو ما يسعى إليه اليوم كي تكون فرنسا وأوروبا قوة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي تحقيق الحلم بأن تكون فرنسا القائد للقارة الأوروبية.
وترى واشنطن أن ماكرون يتنكر لدورها في حماية أوروبا والدفاع عنها، وخصوصاً أنها شاركت الأوروبيين حروبهم في الماضي ضد النازية والفاشية، كما أنها ساعدت فرنسا مرتين وحمتها من الاحتلال النازي لأراضيها، ولولاها لكانت أوروبا قد وقعت في قبضة الاتحاد السوفياتي منذ الحرب الباردة، وأنها اليوم تشارك الأوروبيين حربهم ضد روسيا البوتينية، المسكونة بالرغبة في التوسع والعودة إلى العهد الإمبراطوري، كما ترى واشنطن، وأن موسكو كانت قادرة على ابتلاع أوروبا كلها لولا الحضور الأميركي في المشهد الدولي؛ فنتيجة للوجود الأميركي عاشت القارة الأوروبية حالة من الاسترخاء والازدهار.
ولم تكن الدول الأوروبية تسعى لزيادة قوتها والإنفاق على جيوشها نتيجة لاعتمادها على الولايات المتحدة، ولم تكن أوروبا في يوم من الأيام موحدة إلا عام 1990، حين أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، وبعد هزيمة الاتحاد السوفياتي، أن أوروبا باتت اليوم حرة وكاملة وموحدة.
كما أنَّ النظام الدولي القائم حالياً (نظام ما بعد الحرب الباردة)، الذي كان للولايات المتحدة أكبر دور في صياغته، أعطى مقعدين دائمين لأوروبا في مجلس الأمن الدولي مراعاة للتنافس التاريخي بين بريطانيا وفرنسا، على حساب غيرهما من الدول والتكتلات.
وترى الولايات المتحدة أن أي نظام دولي قائم لن يكون نصيب القارة الأوروبية فيه سوى مقعد واحد، وهذا المقعد لن يكون من نصيب فرنسا بكل تأكيد، بل من نصيب ألمانيا، التي تسعى لإعادة بناء قوتها العسكرية بموازنة إضافية تصل إلى 100 مليار يورو، ليكون جيشها هو الأكبر والأقوى أوروبياً.
كما أن الاقتصاد الألماني هو أكبر اقتصاد على صعيد القارة الأوروبية، إذ يساهم في 27% من مجمل الصناعات الأوروبية، تليه إيطاليا 16%، ثم فرنسا بنسبة 11% فقط.
كذلك، ساهمت الولايات المتحد الأميركية في مشروع مارشال لإعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية في أوروبا وبناء اقتصاداتها من جديد، وذلك عبر تقديم الهبات العينية والنقدية، إضافة إلى حزمة من القروض الطويلة الأمد.
ختاماً، يبدو أن العلاقات الفرنسية الأميركية لن تعود إلى سابق عهدها، رغم المحادثة الهاتفية التي أجراها ماكرون مع الرئيس بايدن بعد زيارته للصين.
كما أن فرنسا بدأت تتخذ خطوات عملية تسهم في ابتعادها عن التحالف مع الولايات المتحدة بحثاً عن مصالحها التي بدأت تراها بالتعاون مع بكين، وخصوصاً أن الأخيرة لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولا تربط تعاونها الاقتصادي بأجندات سياسية محددة.
من هنا، كان لافتاً تصريح ماكرون المتعلّق بأهمية التخفيف من الاعتماد على الدولار الأميركي، وهو ما اعتبرته واشنطن طعنة لها. وقد أثارت تصريحات ماكرون سخطاً شديداً في أوروبا الشرقية والوسطى وجزء من أوروبا الغربية، التي رأت دولها أن تصريحاته تخصّ فرنسا ولا تخص الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن رئيس وزراء المجر هو الوحيد الذي أيد ماكرون، وهو الذي كان يؤيد روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وشكك في جدوى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
أما رئيسة المفوضية الأوروبية، التي تزامنت زيارتها إلى بكين مع زيارة ماكرون، فقد رأت أنه يتحدث باسم بلاده، وليس نيابة عن الاتحاد الأوروبي الذي يعارض أي تغيير في وضع تايوان. أما بكين، فيبدو أنها نجحت في إحداث شرخ في التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، واستجابت لطلب ماكرون بأن يستمع الرئيس الصيني إلى طلب زيلينسكي بإجراء محادثة هاتفية بينهما.
ويبدو أن تلك المحادثة الهاتفية كانت ناجحة، إذ اتفق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتسمية سفير لأوكرانيا في بكين، وإعلان الصين أنها سترسل وفداً إلى أوكرانيا وباقي الدول الأخرى للاستماع إلى وجه نظر جميع الأطراف، وهو ما يمثل انتصاراً لـ"دبلوماسية المصالحات" التي تنتهجها بكين، وهزيمة للولايات المتحدة التي سبق أن رفضت المبادرة الصينية لحل الأزمة في أوكرانيا ورأت أن لا قيمة لها.