الضباب يلفّ مهمة ليز تراس في "10 داونينغ ستريت"
يبدو مؤكداً أن تراس ستواصل سياسة جونسون في توفير الدعم العسكري والمالي لكييف لمواصلة التصعيد في وجه روسيا، الأمر الَّذي يضع الأفق الاقتصادي والاجتماعي والاستراتيجي للحكومة البريطانية في خانة المجهول.
سياقان يحكمان انطلاقة ليز تراس في رئاسة الحكومة البريطانية بعد شهرين من تنحي بوريس جونسون من هذا الموقع، عقب توالي الفضائح وتراكم الأزمات التي حاصرته؛ الأول سياقٌ اقتصادي اجتماعي داخلي متشعب، مع امتداد جزءٍ من أسبابه من الخارج إلى الداخل، والآخر سياق ارتدادات الأزمة الأوكرانية وما أفرزته من ضغوط على الدول المنخرطة في المواجهة السياسية والعسكرية التي لا تبدو لها نهايةٌ واضحة حتى الآن، في الوقت الذي تتوسع رقعة الأزمات لتهدد الاستقرار الاقتصادي في مجموعة من أكثر الدول تقدماً، ولتضع الدول الأقل نمواً أمام معضلات اجتماعية شديدة الخطورة.
مهمة اقتصاديّة محفوفة بالمخاطر
في السياق الأول، تواجه رئيسة الحكومة الجديدة معدلات التضخم التاريخية في دول التحالف الغربي، والتي تجاوزت 10%، في الوقت الذي تسابق هذه الدول الوقت في معركة فواتير الطاقة التي تقلق مواطنيها مع اقتراب فصل الشتاء البارد، وتزيد الضغوط على اقتصادياتها التي تعاني ارتفاع تكاليف الإنتاج وتعثر سلاسل التوريد، خصوصاً أنها لم تخرج بعد من تداعيات جائحة "كوفيد 19" التي كانت بالغة السلبية على عرض الوظائف من جهة، وعلى موازنات الدول التي اضطرت إلى التدخل لمنع كوارث اقتصادية خلال المواجهة الضروس مع الجائحة من جهةٍ ثانية.
وفي هذا المسار، تعاني العائلات والمؤسسات على حدٍ سواء في الحفاظ على استقرارها المالي وحماية نفسها من انهياراتٍ حدثت بالفعل في الكثير من الدول الأكثر هشاشة في بناها الاقتصادية وفي إدارتها للأزمة.
ولا شكّ في أن موقف تراس الثابت خلال الأزمة التي واجهت جونسون، وعدم انسياقها مع موجة الاستقالات التي أخرجته من مكتبه في "10 داونينغ ستريت"، يمكن أن يُرى كأداءٍ سياسيٍ متوازن قياساً إلى التقلبات الحادة في مواقفها، والتي طبعت حياتها السياسية برمّتها، إذ يشيع عدم ثبات تراس في موقعٍ سياسيٍ واحد لأكثر من سنتين، ويتناول البريطانيون انتقالها بين الأحزاب السياسية وتأييدها ورفضها لكل طرح سياسي بصورة مستمرة.
ويقع اختيار تراس على تقاطعاتٍ فكرية وسياسية متنوعة تبدأ من نشأتها في عائلة عمالية يسارية من الطبقة الوسطى، ولا تنتهي بالصورة الحديدية التي تحاول تقديمها، تأسيساً على التجربة القوية لرئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، الأمر الذي يبدو في مصلحتها عند لحظة تسلّمها منصبها.
لكن ذلك لا يضمن لها بالضرورة النجاح في تثبيت الصورة نفسها والخروج بنتائج مرضية لحزبها وللبريطانيين بصورةٍ عامة. وإلى جانب ذلك، تستند رئيسة الوزراء الجديدة، صاحبة الـ47 عاماً، إلى آرائها الاقتصادية التحرّرية ومساهماتها السابقة في التفاوض على خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي عندما كانت تشغل منصب وزيرة التجارة الدولية، ثم إلى دورها كوزيرةٍ للخارجية في ظروف أوروبية وعالمية شديدة التوتر.
هكذا طرحت تراس نفسها رئيسةً للوزراء مناهضةً لفرض ضرائب جديدة على المكلفين، وساعية لإلغاء الخطط المطروحة لمزيد من الضرائب على الشركات، وخصوصاً مع إفراز الظروف الدولية المستجدة ضغوطاً جديدة على التحول إلى الاقتصاد الأخضر، وظهور عقبات بالغة التأثير تبيّن ضرورة إعادة الدول الأوروبية الغربية التفكير في سرعة هذا التحول، مع تعثر إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها، بحيث تتحوّل هذه الجهود إلى عامل ضغط على الاقتصادات بدلاً من مساهماتها الإيجابية التي كانت منتظرةً في ظروفٍ طبيعية. لذلك، برزت مواقف تراس الداعية إلى تعليق "الضريبة الخضراء" التي كان مأمولاً أن تدفع إلى الأمام خططاً متفائلة للمشروعات الاجتماعية والخضراء.
وإلى جانب ذلك، وبدلاً مما سبق، تعهّدت الرئيسة الجديدة للحكومة إنفاق 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع حتى عام 2026، ورفع هذه النسبة إلى 3% بحلول عام 2030، لكن ليس هذا كل شيء، فالاكتفاء بهذه النسبة من عدمه مرتبط بالضرورة بالتطورات الجيوسياسية المتحركة التي قلبت خلال أشهرٍ قليلة مخططات الدول الغربية (وغيرها من الدول) رأساً على عقب.
وإضافة إلى الضباب الذي يكتنف الآفاق الاقتصادية في بريطانيا بعد "بريكست" و"كوفيد 19" وانطلاق معدلات التضخم صعوداً، وبروز شبح الركود الاقتصادي المخيف، على وقع قفزات متواصلة لأسعار الوقود والغذاء، تحتاج التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة إلى جهودٍ خلّاقة وواعية، ستكون تراس أمام اختبار حقيقي في قدرتها على توفيرها.
يأتي ذلك في وقتٍ يسود الإحباط بين البريطانيين بشأن ارتفاع تكاليف المعيشة على وقع إضراباتٍ يشارك فيها مئات الآلاف من العمال في الموانئ ووسائل النقل والخدمات العامة الأخرى، وذلك بموازاة معاناة الجنيه الإسترليني أسوأ شهرٍ له منذ فترة انسحاب البلاد من الاتحاد الأوروبي.
وفي ظل هذه المعطيات، يتوقّع بنك إنكلترا أن يقفز التضخم إلى 13% مع تفاقم أزمة الطاقة، فيما قدرت مجموعة "سيتي غروب" أن يصل التضخم في بريطانيا إلى ذروته، 18%، مطلع العام المقبل. وفي الوقت نفسه، يزيد من الصعوبات التي تواجهها لندن تراجع موقع بريطانيا مرتبةً من موقعها كخامس أكبر اقتصاد في العالم لمصلحة الهند؛ إحدى القوى الشرقية الصاعدة التي تتخذ لنفسها منهجاً مختلفاً في بناء الشراكات المتنوعة مع القوى العالمية الواقعية اليوم.
ولم يبدُ تأكيد تراس أنَّها ستتحرك منذ "الأسبوع الأول" لمساعدة البريطانيين بشأن فواتير الطاقة مطمئناً مع عدم توضيح الإجراءات التي تعزم على اتخاذها لتحقيق ذلك، وخصوصاً مع مشاركة البلاد في تحديد سقف لأسعار مصادر الطاقة الروسية من طرفها، الأمر الذي لا يبدو واقعياً مع توفر أسواقٍ بديلة لتلك المواد في الشرق على وجه الخصوص. وأمام ذلك، نشر معهد "يوغوف" استطلاعاً للرأي يبرز رأي نحو 52% من البريطانيين المشكك في تراس واعتقادهم بأنها ستكون رئيس وزراء بالغة السوء.
وتبرز أيضاً في السياق نفسه توقعات سوداوية تعززها الارتفاعات المتكررة في أسعار الغاز والكهرباء، تتجه إلى أن تصبح 4500 دولار كفاتورة سنوية، الأمر الذي قد يسقط ملايين البريطانيين في فخ الفقر، مع عدم الثقة بتمكن الحكومة الجديدة من تحقيق سقف أسعار هذه المواد على أرض الواقع، ذلك أن البيئة التي تفرز الضغوط على الأسعار لا تزال حبلى بالمزيد من التوترات التي لن تساعد الجهود من أجل استقرار الأسعار.
كل ذلك وغيره من المعطيات سيزيد الضغوط أيضاً على الخزينة البريطانية التي ستكون أمام ضرورة المزيد من الإنفاق لحماية الاستقرار الاجتماعي. وفي هذه الأجواء، تنطلق حملة في مواقع التواصل الاجتماعي لرفض دفع فواتير الطاقة تحت عنوان "لا تدفع".
في المقابل، قد تساعد إجراءات من قبيل خفض الاقتطاعات الضريبية في تهدئة المخاوف مع انطلاقة الحكومة الجديدة، وتعزيز الخدمات الصحية، وتسهيل عمليات الاستدانة، لكنها بمجملها لا تبدو إجراءاتٍ مستدامة بالنسبة إلى الأسر الأكثر ضعفاً، إذ إنها معالجات تأجيلية هشة أمام الاحتمالات السلبية التي تلوح في المستقبل، فضلاً عن تأثيرات هذه الإجراءات في الدخل الوطني، وبالتالي في الإنفاق الحكومي فيما بعد، وفي الاقتصاد البريطاني بالمجمل.
وقد يؤثر موقف تراس المتشدد في ملف "بريكست" وإصرارها على المواجهة مع الاتحاد الأوروبي في تلقي المواطنين نتائج سياساتها، خصوصاً فيما لو تراكمت المعطيات التي تحمّل الخروج من الاتحاد الأوروبي جزءاً من مسؤولية تزايد مصاعب الاقتصاد البريطاني.
انعدام الأفق الاستراتيجي
في السياق الثاني، وفي مسيرها نحو رئاسة الحكومة، استفادت تراس من المنافسة مع مرشح من أصول هندية هو ريشي سوناك لحصد تأييد أغلبية محافظة، وخصوصاً أن قاعدة المحافظين لا تبدو حتى اللحظة مهيأةً لانتخاب "أوباما بريطاني" للمرة الأولى في رئاسة الوزراء، لكن أثر هذا المعطى ينتهي مع توليها مهامها، ليتم التركيز بعد ذلك على نتائج الإجراءات التي ستتخذها حكومتها لمعالجة المشكلات الكبيرة التي تنتظرها.
وتأتي تراس من وزارة الخارجية إلى رئاسة الحكومة في سياقٍ استراتيجي متوتر تتشكل ظروفه تباعاً مع توالي أحداث المواجهة بين الغرب وروسيا، وخصوصاً في أوكرانيا. في هذا المجال، تعتبر رئيسة الوزراء الجديدة من مؤيدي تحفيز المواجهة مع روسيا، وهي التي ساهمت في فرض عقوباتٍ على موسكو وعلى شخصيات اقتصادية وسياسية هناك.
وتحاول وزيرة الخارجية السابقة استحضار وهج تاتشر في معرض صياغتها لصورتها الجديدة كرئيسة للحكومة، وخصوصاً أنها ستكون ثالث امرأةٍ تتولى هذا المنصب بعد تاتشر وتيريزا ماي. وقد يكون اعتمادها على إرث النساء الحديديات مفيداً فيما لو قرنت ذلك بإجراءاتٍ اقتصادية واجتماعيةٍ داخلية مفيدة، لكن الإفراط في التركيز على هذا الميل سوف يزيد الضغوط عليها، ثم ستكون هذه وصفة فشلٍ قاتل فيما لو ظهرت بصورةٍ ضعيفة في الداخل، بحيث يصبح استحضار المقارنة مع تاتشر ضاراً لمسيرتها، ذلك أن ظهورها فوق دبابةٍ لجيش بلادها سيتحول إلى صورةٍ كاريكاتورية بدلاً من مقصدها بأن يشكل دفعاً معنوياً لمهمتها الجديدة.
وكانت تراس عبّرت عن معالم سياستها الخارجية في مقالة نشرتها صحيفة "دايلي تيليغراف" قالت فيها إنَّ أول شخصٍ ستتصل به بعد دخولها مكتب رئاسة الوزراء سيكون الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وإنَّ رسالتها واضحة للغاية: "ستبذل بريطانيا كل ما في وسعها لمساعدة أوكرانيا على الفوز في المعركة من أجل مستقبلها"، وإنها كرئيسة للوزراء ستعمل من كثب مع حلفاء بلادها لضمان "حصول الشعب الأوكراني على الأسلحة والمعدات التي يحتاجها لإخراج القوات الروسية من بلاده"، متعهدةً فرض عقوباتٍ جديدة على روسيا، ودعم خطة "مارشال جديدة" لإعادة إعمار أوكرانيا، من خلال توجيه الجهود الدولية نحو هذا الهدف.
ومع ذلك، لا يبدو استخدام الأزمة الأوكرانية لتثبيت صورة رئيسة الوزراء البريطانية آمناً بما يكفي، وخصوصاً أن الظروف التي تفرزها هذه الأزمة لا تزال غير مكتملةٍ، بل إنها على العكس من ذلك توحي بأن ما مرّ منها حتى اليوم ليس إلا الجزء اليسير، وأنَّ للقصة تتمة قد تكون فصولها كارثيةً على الدول الأكثر حماسةً للمواجهة.
وتتعزز هذه الفرضية بالنظر إلى مؤشرات الاقتصادات في الدول الغربية المؤيدة لكييف، في مقابل إيجاد روسيا بدائل متينة لصادرات الغاز الذي تنتجه في الهند والصين وإيران وغيرها من الدول المتعطشة إلى واردات الغاز بأسعارٍ تنافسية، والأهم من ذلك أنَّ هذه الواردات تأتي في سياق شراكاتٍ اقتصادية أكثر اتساعاً، وضمن أطر مؤسساتية مثل "بريكس" و"منظمة شنغهاي" و"منظمة الأمن والتعاون" وغيرها... إلى جانب الشراكات الثنائية التي تعززها إفرازات الأزمات الإقليمية والدولية المتكاثرة هذه الأيام.
هكذا، يصبح تشجيع تراس مواطني بلادها على الذهاب للقتال في أوكرانيا خطوةً غير حكيمة على الإطلاق، تنبّه إليها القادة العسكريون البريطانيون الذين انتقدوا تصريحاتها لعلمهم بعدم إمكانية تجزئة الأمن في العلاقات الدولية المعاصرة، ولإدراكهم الواقعي خطورة ارتداد هذه المغامرة على أمن أوروبا الغربية وبريطانيا بصورةٍ قاتلة.
وبين هذا وذاك، يبدو مؤكداً أن تراس ستواصل سياسة بوريس جونسون في توفير الدعم العسكري والمالي لكييف، وتحفيزها على مواصلة التصعيد في وجه روسيا. وفي المحصلة، فإنَّ الضباب في "10 داونينغ ستريت" يبدو أكثر كثافة مما هو في مجمل عاصمة الضباب لندن، الأمر الَّذي يضع الأفق الاقتصادي والاجتماعي والاستراتيجي للحكومة البريطانية الجديدة في خانة المجهول.