الأسعار ترتفع والعملة تنحدر: تونس "تُكيّف" اقتصادها مع صندوق النقد

بينما يأمل التونسيون أن تنجح السلطات في التوصّل إلى حلول للأزمة، أعلنت الهيئات المعنية عن ارتفاع جديد في أسعار أسطوانات الغاز بنحو 14%، وزادت أسعار الوقود بنسبة 3%، إضافةً إلى تقليص كتلة الأجور.

  • الأسعار ترتفع والعملة تنحدر: تونس
    الأسعار ترتفع والعملة تنحدر: تونس "تُكيّف" اقتصادها مع صندوق النقد

على الصعيد الاقتصادي، تعيش تونس أجواء متوترة أدّت إلى تأثيرات شديدة السلبية انعكست على حياة معظم المواطنين، وخصوصاً أبناء الطبقات الوسطى ومحدودي الدخل؛ فمن جهة، ثمة ارتفاع كبير طال أسعار معظم المواد التي يستهلكها التونسيون بشكل يومي. ومن جهة أخرى، تفاجأ تجار التجزئة والزبائن على حد سواء باختفاء عدد من المواد الأساسية، مثل السكر وزيوت الطعام والبنّ، الأمر الذي أصاب السوق التونسي بحال من الاضطراب، ودفع المواطنين إلى لوم الدولة على انخفاض منسوب تدخّلها لضبط الأسعار وتنفيذ رقابة عليها والحرص على توفير مستلزمات الأسرة التونسية اليومية من المواد الغذائية والسلع الضرورية.

وفي السياق ذاته، كشفت بيانات البنك المركزي في تونس عن استمرار تراجع العملة الوطنية للبلاد (الدينار) إلى مستوى متدنٍّ جديد في مقابل الدولار، الأمر الذي يؤدي إلى تأكّل احتياطي البلاد من العملات الأجنبية، ويرفع كلفة خدمة الدين، ويزيد عجز الميزانية.

ووفقاً للمركزي، فقد جرى تداول الدينار خلال الأسبوع الماضي عند نحو 3.2669 دينار في مقابل دولار أميركي واحد، بتراجع نسبته 16% عن السنة الماضية، فيما يستمر سعر العملة التونسية في الانخفاض مع كلّ صباح جديد؛ فمنذ نحو 10 أعوام بالتمام والكمال، كان الدولار الأميركي يساوي 1.51 دينار لا أكثر، وارتفع معدل التضخم السنوي في البلاد خلال الشهر الماضي إلى نحو 8.6%، وهو أعلى مستوى في آخر 3 عقود.

وبينما يأمل التونسيون أن تنجح السلطات في التوصّل إلى حلول للأزمة، أعلنت الهيئات المعنية عن ارتفاع جديد في أسعار أسطوانات الغاز بنحو 14%، وانتقل سعر الأسطوانة من 7.75 إلى 8.8 دينارات، وزادت أسعار الوقود بنسبة 3%، أي من 2.33 دينار لليتر إلى 2.4 دينار، إضافةً إلى تقليص كتلة الأجور.

وتسبّب توالي ارتفاع الأسعار بزيادة الاحتقان في الشارع، وخصوصاً أن الحكومات العربية دائماً ما تلقي باللائمة على الأزمات العالمية، في محاولة للتملّص من المسؤولية، وسعياً لتبرئة السياسات الاقتصادية الملتزمة بمخططات دولية من اللوم أو الاتهام بالفشل.

اتفاق مبدئي مع الصندوق

بعد شهور من المفاوضات بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي، توصل المسؤولون إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق الدولي، مقبول من الناحية التقنية، إذ أعلن المتحدث باسم الحكومة نصر الدين النصيبي، قبل أسبوع، أنَّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي جاهز، وأن الحكومة استوفت جميع الشروط، مرجعاً سبب هذه الخطوة إلى أهمية الاتفاق بين الحكومة والاتحاد العام للشغل بخصوص ملف زيادة أجور الموظفين.

وبحسب النصيبي، أصبح الملف التونسي مقبولاً، ولم تطلب تونس مبلغاً محدداً من الصندوق، بل قدمت طلباً لتمويل برنامج إصلاحي لمدة 3 سنوات، إضافةً إلى شرط عدم التوجّه نحو بيع المؤسّسات العامة، بل التوجه نحو الإصلاح وإعادة الهيكلة.

ويعتبر مؤيدو هذا التوجه الاقتصادي أنَّ الاتفاق مع صندوق النقد ليس مطلوباً في ذاته، وأن المال الذي يتم اقتراضه لا يرقى إلى حد سداد العجز الذي تعانيه البلاد (عجز الموازنة التونسية = 3 مرات قيمة القرض المتوقع)، ولكنَّ الاتفاق يكون مطلوباً كـ"شهادة حسن سير وسلوك" تُسهّل تعامل حكومات العالم الثالث مع العالم الأول/الغربي، وحتى في حال لم تحصل الحكومة على ما يكفيها من القروض المباشرة، فإن الوصول إلى اتفاق مع هيئات المال الدولية يفتح مجالاً للاقتراض من الدول الأخرى، كما يمنح المؤسسات التجارية والصناعية الكبرى العابرة للحدود إشارة خضراء للاستثمار في هذا البلد.

ودائماً ما يدعو صندوق النقد الدولي الحكومات التي تعاني عجزاً في الموازنة أو مشكلات في إدارة مواردها إلى خفض نفقاتها، بالشكل الذي يُترجم عملياً في تراجع مخططات التوظيف الحكومي وخفض الدعم المُقدّم للمواطنين، سواء بشكل مباشر أو عبر خفض قيمة السلع الأساسية، إضافة إلى تقليل الإنفاق على الهيئات التعليمية والصحية...

وتشترط هيئات المال الدولية على البلدان التي تسعى إلى تكييف اقتصادها بحسب أجندتها، أن تتخلّى عن توجيه الاقتصاد أو دعم العملة المحلية أو منافسة القطاع الخاص بنسختيه المحلية والأجنبية. هذا المسار يؤدي إجمالاً إلى زيادة الأعباء على كاهل المواطن، بسبب ارتفاع الأسعار وتراجع قيمة العملة المحلية، كنتيجة مباشرة لانخفاض الطلب عليها بسبب اعتماد البلاد الفقيرة على الاستيراد، وبالتالي يتم بيع العملة الوطنية باستمرار وشراء الدولار، فتستمر العملة بالانخفاض.

وبحسب الخبراء الاقتصاديين في تونس، فإنَّ الحكومة شرعت بالفعل في رفع الدعم عن المواد الأساسية من دون الإفصاح عن ذلك، إذ فضلت التعلّل باختفاء المواد لرفع أسعارها. واستناداً إلى المعهد التونسي للإحصاء، ارتفعت أسعار الحبوب في آخر شهرين بنحو 11%، ما يعني أن الحكومة انخرطت في تنفيذ البند المتعلق برفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، وهو أهم بند في برنامج إصلاحات النقد الدولي.

معارضة داخلية لسياسات رفع الدعم

على الصعيد الشعبي، ثمة تململ واضح بسبب السياسات التي تنتهجها الحكومة، والتي تنعكس بشكل سلبي على الأسعار، ويمكن أن نرصد عدم رضا الشارع التونسي عن السياسات الاقتصادية عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي أدت دوراً رئيسياً في دفع قطار الثورات العربية منذ نحو عقد ونيف انطلاقاً من تونس.

من جانبه، حذّر نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر مؤسسة نقابية في البلاد)، من أن تأتي التطورات الحاصلة في اقتصاد البلاد على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

وأوضح الطبوبي أن ما يجري هو عملية "تعطيش" للسوق التونسي، حتى يقبل المواطن بشراء السلع التي يحتاجها بأي سعر، مشيراً إلى أن هذا الأمر هدفه تهيئة الشعب نفسياً لرفع الدعم.

وأكد الاتحاد التونسي للشغل صعوبة تمرير هذه الأجندة، لأن الأجور ضعيفة والهشاشة الاجتماعية كبيرة جداً، و80% من الشعب التونسي يحتاج إلى الدعم. وكان الاتحاد قد أعلن منذ نحو 3 أشهر أنه عازم على بدء خوض إضراب، احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية، وتنديداً بالإجراءات التي اقترحتها الحكومة بهدف الخروج من الأزمة المالية.

كلنا إزاء "صندوق النقد" عرب

لا يختلف الحال في تونس عن الحال في الأقطار العربية غير النفطية، فالسؤال الدائر اليوم في مختلف العواصم العربية: إلى متى يستمر هذا الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية؟ ومتى يستقر السوق بالشكل الذي يسمح لمحدودي الدخل بضبط أجندة إنفاقهم وتحديد أولوياتهم؟ ومتى تعود الدولة لأداء الدور المأمول منها عبر ضبط الأسواق وسد حاجة المواطنين؟ ومتى تتوقف الحكومات عن الضغط على شعبها لمصلحة تطبيق أجندات دولية لا تراعي طبيعة الحياة في الدول المتأخرة اقتصادياً، وتضع رهانها كلّه على الاستثمار الأجنبي؟

المشكلة الأكبر التي ربما يعانيها المواطن العربي اليوم هي تراجع عدد ممثليه النخبويين في الميدان الاقتصادي، فبعد تراجع حضور اليسار عالمياً أو استثنائه عبر إصدار "نسخ يسارية" أكثر صخباً في ميدان الحريّات الخاصة وأقل اشتباكاً فيما يتعلق بلقمة العيش، أصبحت النخبة الاقتصادية التي تهيمن على المجال العام، سواء في القطاع الحكومي أو خارجه، أكثر ترحيباً بهذا النوع من السياسات التي تطحن الطبقات الأضعف لمصلحة تطبيق أجندات دولية تضع البيض كله في سلّة مؤسسات المال الغربية، وتبشّر باقتصاد أكثر حيوية يوفّر العديد من الوظائف، ما يعوّض في الختام غياب الدعم، ويعالج رتق انخفاض قيمة العملة المحلية، لكن هذا الاستثمار الخارجي غالباً ما يكتفي بتصدير منتجاته إلى بلادنا، ضانّاً علينا بالمصانع والاستثمار الثقيل.

والحقيقة أن هذا الوضع الاقتصادي المأزوم لم يعد مقتصراً على الدول العربية الفقيرة نفطياً، فقد طالت أجندات "خفض الدعم" بعض العواصم النفطيّة، لكن ربما الفارق هو ارتفاع الأجور بالشكل الذي يرفع قدرة المواطن السعودي مثلاً على تحمّل ارتفاع أسعار الوقود وفواتير الكهرباء، إذا ما قورن بالمواطن المصري أو التونسي، وإن كان ما سبق لا يمنع الشعور بالمعاناة وإبداء التذمّر جراء صعوبات العيش.