"إسرائيل" والحرب المتعدّدة الجبهات.. قراءة في السيناريوهات والتداعيات (1 / 3)

الوضع اللوجستي في "الجيش" الإسرائيلي يمرّ بحالة من الفشل والإخفاق ستوقفه عن شن حرب متعددة الجبهات، وستضعه في مأزق في الساعات الأولى منها.

  • "إسرائيل" والحرب المتعدّدة الجبهات.. قراءة في السيناريوهات والتداعيات (1 / 3)

في صباح الخامس من حزيران/يونيو 1967، شنت "إسرائيل" ضربة جوية مفاجئة على سلاح الجو في كلٍّ من مصر وسوريا والعراق والأردن، استهدفت من خلالها مدرّجات الطيران والقاذفات البعيدة المدى والمقاتلات النفّاثة، واختتمت قصفها بتدمير الرادارات والمنشآت الفنيّة.

كان الهدف الأساسي لتلك الضربة هو تحييد سلاح الجو العربي من المعركة وضمان الاستفراد الإسرائيلي بالأجواء العربية، ما مكّنه لاحقاً من شنّ هجمات حاسمة على القوات البرية والقواعد العسكرية. وقد تبع ذلك تدمير مواقع المدفعية والأسلحة الثقيلة والإستراتيجية التي تملكها الجيوش العربية ومنصّات الصواريخ المضادّة للطائرات.

وقد شاركت عشرات الطائرات الإسرائيلية في شنّ تلك الغارات المكثّفة، وألقت قنابل تزن الواحدة منها 180 رطلاً، احتوت فتائل متفجرة تستمر في الانفجار لفترة طويلة لجعل القواعد المستهدفة غير قابلة للاستعمال مرة أُخرى.

وبحسب دراسة أعدها مختصّون، فقد خسرت الدول العربية التي تم استهدافها نحو 80% من عتادها العسكري، وقُتل وأصيب عشرات الآلاف من جنودها خلال الأيام الستة التي دارت فيها رحى الحرب، والتي أفرزت في نهايتها واقعاً جديداً، تمثّل باحتلال "إسرائيل" لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة في فلسطين وشبه جزيرة سيناء المصرية، إضافةً إلى مرتفعات الجولان السورية.

اليوم، بعد أكثر من 55 عاماً على ما أُطلق عليه اسم "نكسة حزيران"، لم تعد "إسرائيل" ذلك الوحش المصنوع من فولاذ، ولم تعد تلك القوّة القاهرة التي تطوّع خصومها بالحديد والنار.

وقد باتت رهينة تطورات وتغيّرات إستراتيجية دفعتها إلى مزيد من التقوقع والانطواء، وأرغمتها على التخلّي بطريقة أو بأخرى عن أطماعها التوسعية على مستوى الجغرافيا بالحد الأدنى، والتي كانت تلوّح بها في وجه كل دول المنطقة، ولم نعد نسمع عن تلك الخريطة المعلّقة على أبواب البرلمان الإسرائيلي التي تظهر حدود تلك "الدولة" وهي تمتدّ من النيل إلى الفرات.

وهنا، لست بصدد مناقشة الأسباب التي أوصلت الكيان إلى هذا الواقع الجديد، ولن أستعرض وجهة النظر الإسرائيلية حول التقهقر والتراجع، إنما سأذهب خطوة إلى الأمام باتجاه قراءة مستقبلية للمشروع الإسرائيلي في المنطقة، لا سيما في حال تعرضه لهجوم "متعدد الجبهات" يكون فيه أعداؤه وخصومه، وهم كُثر، في موقع المبادرة، وتكون فيه هذه "المستوطنة" الصغيرة قياساً بجيرانها في موقع الدفاع، بحيث تفقد رفاهية الهجوم الخاطف، وتدفع ثمن عدم امتلاكها العمق الإستراتيجي، وتجد نفسها في عين العاصفة التي ستهبّ عليها من كلّ الجهات.

تخوّف إسرائيلي ملحوظ

في مقال سابق بتاريخ 8 كانون الثاني/يناير الماضي حمل عنوان "التحدّيات التي تواجه إسرائيل" في ظل تأكّل نظرية "الأمن القومي"، أشرنا إلى ما قاله اللواء إسحاق بريك، رئيس لجنة الشكاوى في "الجيش" الإسرائيلي سابقاً، حول وجود ضعف وعيوب خطرة يمكن أن تكشفها أي حرب مستقبلية يواجهها الكيان الصهيوني، وأن الوضع اللوجستي في "الجيش" الإسرائيلي يمر بحال من الفشل والإخفاق، وأنَّ هذا الفشل سيوقف "الجيش" عن شن الحرب المتعددة الجبهات، وسيضعه في مأزق في الساعات الأولى من الحرب "المتعددة الميادين" المقبلة، ولن يسمح له بمواصلة القتال أو تحقيق الانتصار.

هذا التخوّف الذي بدا واضحاً في تصريحات المسؤول الإسرائيلي السابق يشاركه فيه الكثير من القادة الحاليين في أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، ويشاركهم فيه كذلك العديد من وسائل الإعلام الصهيونية، التي قالت في أكثر من مناسبة إن القضية الأساسية والمركزيّة التي باتت تتصدر أجندة المؤسستين السياسية والأمنية في الكيان الصهيوني، تتعلّق بحصول أسوأ سيناريو من الممكن أن يقع، وهو مواجهة عسكريّة واسعة يخوضها الاحتلال على الجبهتين؛ الشمالية ضد حزب الله اللبناني، والجنوبية ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة.

وتشارك في هذه المواجهة أيضاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإمكانياتها العسكرية الهائلة، وربما ينضم إليها بعض حلفائها، كأنصار الله في اليمن والحشد الشعبي وقوى المقاومة في العراق، مع عدم إغفال مشاركة محتملة للجيش العربي السوري. هذه الحرب، في حال حدوثها، كما تقول بعض المصادر العسكرية، ستصيب المشروع الصهيوني بانتكاسة خطرة قد تصل إلى حد انهياره وتفكّكه.

 كل ما سبق من تخوّفات دفع "جيش" الاحتلال إلى إجراء مناورات عسكرية موسعة تحاكي تورط "إسرائيل" أو تعرّضها لحرب متعدّدة الجبهات، مثل المناورة التي حملت اسم "ذخر قومي"، والتي خاض فيها جنود "الجيش" تدريبات مكثفة استمرت عدة أيام. وقد حاكت تعرّض الكثير من المواقع للدمار، وحاولت التأقلم من خلالها مع التعامل مع أحداث غير متوقعة. 

ولكن تلك المناورات والاستعدادات لم تنجح في تبديد المخاوف التي تنتاب القادة الصهاينة، وهذا ما عبّر عنه ضابط إسرائيلي رفيع المستوى، بقوله: "إن وضع القوات العسكريّة في إسرائيل يعدّ الأسوأ منذ 55 عاماً، والدولة ستكون في ورطة في أي حرب قادمة يشارك فيها أكثر من طرف، وهذا يرجع إلى افتقادها جاهزية الحرب على نطاق واسع".

سيناريو الرعب

منذ عام 2017، ونتيجة الكثير من المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، والتي ألقت بظلال قاتمة على مستقبل المشروع الصهيوني، باتت "إسرائيل" تعتقد أن تفجّر مواجهة "متعددة الجبهات" هو مسألة وقت فقط، وأن التجهيزات التي يقوم بها "محور المقاومة"، الممتد من طهران، مروراً بصنعاء وبغداد ودمشق وبيروت، وصولاً إلى فلسطين المحتلة، قاربت على الانتهاء، وأن عليها أن تعمل بكل قوة، وتستثمر كل الإمكانيات العسكرية واللوجستية المتاحة للاستعداد لذلك اليوم الحاسم الذي سيهدد استقرارها بطريقة لم تعتدها من قبل، وربما يؤدي في مرحلة ما إلى سقوط مشروعها العدواني الذي يعتمد على عامل القوة فقط، في حين يفتقد أسس البقاء الأخرى ومقوّماتها.

لذلك، أقر العديد من الخطط التدريبية التي يمكن من خلالها مواجهة سيناريو كهذا، وباتت التدريبات المخصصة بدرجة أولى لمواجهة هذا الأمر إلزامية لدى أذرع "الجيش" المختلفة، وصارت تقام بشكل دوري كل عام، ومن ضمنها "مناورات ركنية" موسعة يشارك فيها آلاف الجنود.

ورغم كلّ ذلك، فإن قيادة "الجيش" الإسرائيلي ما زالت تعتقد أنَّ قدرتها على مواجهة حرب "متعددة الجبهات" ما زالت دون المستوى المطلوب، وأنَّ هناك حاجة ملحّة لمعالجة الكثير من الإشكالات المتعلّقة أساساً بالذراع البرية لـ"الجيش" الإسرائيلي الذي يشهد حالاً من "الانحطاط التكتيكي والعملياتي" لم تكن موجودة من قبل، ويعاني جنوده عدم رغبة في القتال، وخصوصاً بعد ما تعرضوا له من انتكاسات وخسائر فادحة في الحروب الأخيرة، لا سيما في جنوب لبنان وقطاع غزة.

إضافةً إلى ذلك، هناك التحدّي الجديد الذي برز بوضوح خلال السنوات الأخيرة، وهو سلاح "الطائرات المسيّرة" الذي بات يملكه محور المقاومة، وكذلك الصواريخ الدقيقة التي أصبحت تحيط بـ"دولة" الكيان من كل الاتجاهات. أضف إلى كلّ ذلك الخبرات القتالية الواسعة التي بات يمتلكها مقاتلو المقاومة، نتيجة مشاركتهم في العديد من المواجهات الصعبة والقاسية.

وبالتالي، وبعيداً من التوقعات الإسرائيلية في هذا الشأن، وقياساً على العديد من التطورات والأحداث التي يشهدها الإقليم على صعيد العلاقة بين الكيان الصهيوني ومحور المقاومة بكل روافده، سنحاول رسم سيناريو عملي وواقعي وقابل للتطبيق في حال توافر شروط معينة.

هذا السيناريو الافتراضي يتعلق بدرجة أولى بتفاصيل نشوب حرب متعددة الجبهات تشارك فيها الجبهات الست المشار إليها آنفاً.

وسنشير كذلك إلى الأدوات والوسائل التي يمكن أن تُستخدم في تلك المعركة، وسنعرج على بعض التداعيات الإستراتيجية التي يمكن أن تنتج من ذلك، والتي ستساهم من دون أدنى شك في تغيير وجه المنطقة.

يشار هنا إلى أن تلك المعركة لن يكون هدفها الرئيسي تحرير فلسطين كل فلسطين، إنما كسر أذرع تلك "الدولة" الهجينة وتضييق الحيّز الجغرافي الذي تسيطر عليه إلى حده الأدنى، بما يسمح بعد ذلك بتنفيذ الهجوم الكبير الذي يقتلع هذا الكيان ومستوطنيه من كل المنطقة.

المرحلة الأولى: هجوم صاروخي ومدفعي مكثّف

بذلت "إسرائيل" كلّ ما في وسعها لتجنيب ساحتها الداخلية وعمقها الإستراتيجي الهشّ أيّ تداعيات سلبية نتيجة المواجهات العسكرية التي خاضتها على مدار السنوات الماضية، وقامت في أكثر من مناسبة بتحديث "نظريتها للأمن القومي" لتواكب مجمل التطورات والتغيرات المحيطة بها، ولمواجهة جملة المخاطر التي ارتفع منسوبها نتيجة زيادة الكفاءة القتالية والإمكانيات التسليحية لدى دول محور المقاومة وفصائله.

رغم ذلك، استمرت الإخفاقات، وتوسعت الخروقات، وباتت سماء المستوطنات الصهيونية شبه مفتوحة أمام صواريخ محور المقاومة، رغم ما يملكه الكيان من منظومات دفاع جوي حديثة وفعّالة.

لذلك، يأتي التحدي الصاروخي في مقدمة المخاطر التي تواجه "إسرائيل" في أي معركة قادمة، لا سيما عندما تكون معركة متعددة الجبهات، إضافة إلى التحدي الجديد الذي أشرنا إليه سابقاً، وهو سلاح الطيران المسيّر.

ويمكن لنا أن نتوقع قياساً على بعض التقارير والدراسات حجم الضربات الصاروخية وتلك التي ستستخدم فيها الطائرات المسيّرة التي يمكن أن تستهدف الكيان الصهيوني في تلك المواجهة المفترضة، والتي ستكون من دون أدنى شك بمنزلة إعصار هادر لم تشهد المنطقة مثيلاً له في كل الحروب والمعارك السابقة.

وفي اعتقادي، ذلك الهجوم الذي يمكن أن يُشن من الجبهات الست المتوقعة يستوجب وجود قرار جماعي بين تلك الجبهات لتوجيه ضربة كهذه، ستكون بداية لعمليات عسكرية أخرى ستليها خلال أيام قد تصل في مرحلة ما إلى اقتحام وحدات النخبة التابعة لمحور المقاومة لبعض المستوطنات الصهيونية والسيطرة عليها تماماً.

وبحسب تقديرات إسرائيلية وأخرى صادرة عن مراكز أبحاث دولية، من المتوقع أن يسقط على المستوطنات الصهيونية أكثر من 5 آلاف صاروخ طويل ومتوسط وقصير المدى في اليوم الواحد، بحيث يكون أكثر من نصفها من الصواريخ الدقيقة التي لا يزيد هامش الخطأ فيها على عدة أمتار.

وستغطّي هذه الصواريخ كل جغرافيا فلسطين المحتلة، وتصيب معظم المنشآت الحيوية والحسّاسة داخل "إسرائيل"، مثل محطات الطاقة، والقواعد الجوية والعسكرية، والمطارات، والموانئ، والمؤسسات الحكومية، والوزارات السيادية، ومفاصل "الدولة" الأساسية، بما يمكن أن يصيب الكيان الصهيوني بحالٍ من الشلل والعجز الذي يصعب تجاوزه أو معالجة آثاره.

يُضاف إلى ذلك استهداف المستوطنات القريبة من قطاع غزة (مستوطنات الغلاف) وجنوب لبنان والجولان السوري المحتل بصليات كثيفة من الصواريخ القصيرة المدى وقذائف الهاون ذات الفعالية العالية، ناهيك بمئات الهجمات التي ستستخدم فيها الطائرات المسيرة الانتحارية التي يملك محور المقاومة أعداداً كبيرة منها بمزايا وقدرات كبيرة. 

هذا الهجوم الصاروخي الكبير يجب أن يستمر مدة 5 أيام على أقل تقدير بحسب خبراء عسكريين، ليكون ناجعاً وفعّالاً، بحيث يسقط على "إسرائيل" أكثر من 25 ألف صاروخ من النوع الثقيل، وصواريخ أخرى ذات مديات قصيرة، وقذائف هاون.

هذا الأمر ستنعكس تداعياته الهائلة على كل المجتمع الصهيوني والمستوطنين اليهود، بما يمكن أن يؤسس لانهيار الجبهة الداخلية للكيان العبري بشكل شبه كامل، وإلى حدوث نوع من الشلل في أجهزة الدولة الرئيسية، وعلى رأسها المؤسستان السياسية والعسكرية، بحيث يساهم هذا الشلل أو العجز في تهيئة الظروف الميدانية المناسبة لبدء "المرحلة الثانية" من الحرب.

في الجزء الثاني، وقبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الهجوم المتعدد الجبهات، سنشير بشيء من التفصيل إلى قدرات "محور المقاومة" الصاروخية، مع الإشارة إلى أن ما سنذكره سيقتصر على المعلومات التي يعلنها المحور أو تلك الواردة عن مصادر إسرائيلية أو أميركية.