هل تمهد التحركات الأخيرة في الشرق الليبي لتكريس انفصاله؟
ما يحصل اليوم من خطوات سياسية وعسكرية من مجلس النواب والجيش الليبي في الشرق لا يمكن وضعه إلا في إطار التحضير لتكريس الانفصال عن الغرب الليبي.
تشهد الساحة الليبية منذ سنوات، وبصفة متواترة ومتكررة، مماحكات سياسية بين حكام الشرق والغرب، غالباً ما كانت على شكل مناورات سياسية وخطوات تكتيكية من هنا وهناك، الهدف منها كان واضحاً، وهو الهروب من حلحلة العملية السياسية وتجنب إجراء انتخابات بهدف إطالة عمر الأزمة والإبقاء على الستاتيكو العسكري والسياسي الذي تستفيد منه اللوبيات وأمراء الحرب من كلا الجانبين.
كانت أهداف الفرقاء الليبيين واضحة في ظل عدم وجود بوادر لقبول الفاعلين الدوليين بنشوب حرب جديدة، بعدما اقتنع الجميع بأن موازين القوى العسكرية متقاربة خلال حرب 2019، وبالتالي كانت الأطراف المحلية تدفع باتجاه المحافظة على تموقعها ونصيبها من السلطة وتعطيل أي تقدم سياسي وإلقاء اللوم على الخصوم.
لكن ما يحصل اليوم من خطوات سياسية وعسكرية من مجلس النواب والجيش الليبي في الشرق لا يمكن وضعه ضمن الإطار الذي تحدثنا عنه سابقاً.. إنه تحضير لأمر خطير.. نعم، قد يصبح المشهد الجيوسياسي في ليبيا مختلفاً كل الاختلاف عما عشناه منذ 2014؛ تاريخ انطلاق تحركات خليفة حفتر في الشرق، وقد تصبح التخوفات أمراً واقعاً.. فما يجري الآن عملياً هو تحضير لإعلان فك الارتباط بين الشرق والغرب عبر خطوات سياسية ومالية وعسكرية، ففيمَ تتمثل خطة قادة الشرق الليبي لفك الارتباط مع الغرب؟ وهل يتم ذلك عبر صدام مسلح أم أنه فرض لأمر واقع جديد على الأرض؟
تأمين المجال الجغرافي جنوباً ووضع حدود الكيان السياسي الجديد
يقوم رئيس البرلمان عقيلة صالح بقيادة الجانب القانوني والسياسي لتغيير المشهد الليبي. وبالتوازي مع ذلك، يتكفل خليفة حفتر بالتحركات العسكرية. وقد بدأها بتحريك قواته في اتجاه الجنوب الغربي الليبي وتأمين الجنوب وكل مناطق سيطرته.
هذه التحركات العسكرية تهدف إلى الاستعداد تكتيكياً لأي صدام مسلح مع قوات الغرب الليبي وقضم بعض الأراضي الجديدة وإنشاء منطقة النفوذ الجغرافي التي ينوي قادة الشرق حكمها والتصرف في ثرواتها، والتي سوف تضم عملياً فزان وبرقة. وبتعبير آخر، ضمان السيطرة على مناطق النفط والغاز التي تقع ضمن نطاق المنطقة الوسطى لليبيا.
قبل هذا، زار نجل خليفة حفتر بوركينا فاسو التي تمثل إلى جانب النيجر ومالي حلفاء موسكو الجدد في أفريقيا. هنا تتتضح الصورة أكثر؛ كل ما يحدث الآن وما سيليه من تطورات يدخل في هذه الخانة؛ خانة النفوذ الروسي في أفريقيا، والشرق الليبي سيكون المنطقة التالية لمسلسل الصراع بين موسكو وواشنطن، إذ زار نجل خليفة حفتر أيضاً موسكو. إنها خطوات متتالية ومرتبة من قادة الشرق بالتنسيق مع الحلفاء الدوليين.
وضع الإطار السياسي والقانوني لفرض الأمر الواقع الجديد
خطوات عقيلة صالح الأخيرة التي استعان فيها بالبرلمان ليست جساً للنبض أو مناورة تكتيكية أو إعادة خلط للأوراق في إطار صراعه مع الغرب، بل هي خطوات عملية في إطار رؤية استراتيجية، وستكون القاعدة القانونية لما هو آت.
قام عقيلة صالح بسحب قيادة القوات المسلحة من المجلس الرئاسي، وحوّلها إلى البرلمان، وأسقط كل مشروعية لحكومة الوحدة الوطنية، وعزز مشروعية حكومة الشرق، وأعلن موت العملية السياسية. هي خطوات لن تؤثر في الواقع بشكل فوري، فعبد الحميد الدبيبة سيواصل حكم الغرب، وستواصل الميليشيات حكم نفسها بنفسها.
يعلم صالح ذلك، ولكن هدفه من هذه الخطوات هو الإعلان، وبشكل رسمي، للداخل والخارج بانطلاق العد التنازلي لفرض أمر واقع جديد؛ شرق ليبي أكثر استقلالية مالية واقتصادية عن الغرب وكيان سياسي في الشرق.
الأموال ومداخيل النفط
كثيراً ما يتردد في ليبيا أن الخيط الوحيد الذي لا يزال يوحد الليبيين هو المصرف المركزي، فكل الخصوم يحسبون ألف حساب للأموال، بل إن الصراع في أساسه هو حول ثروة ليبيا التي يتحكم فيها المصرف المركزي، فهل أقام قادة الشرق الخطط الكافية لتأمين تدفق الأموال بسلاسة؟
توحي المؤشرات بأن حكام الشرق بدأوا مبكراً في تلك الخطوات حتى قبل التحركات السياسية والعسكرية. كان لقاء القاهرة بين محافظ المصرف المركزي "الصديق الكبير" ورئيس البرلمان عقيلة صالح في تموز/يوليو الماضي لافتاً ويوحي بأن شيئاً جديداً يطبخ بينهما، إذ وصفه البعض بأنه "تدشين لتحالف مالي وسياسي جديد"، وخصوصاً أن العلاقة بين الدبيبة والمصرف المركزي توترت إثر هذا اللقاء؛ ففي هذه الساعات، يشهد مقر المصرف في العاصمة طرابلس احتقاناً ومحاصرة من قبل الميليشيات، في خطوة تهدف إلى إحداث أمر ما يتعلق بالمصرف المركزي والوضع المالي في ليبيا، وأيضاً يؤكد ما ذهبنا إليه بخصوص توافق قادة الشرق مع محافظ المصرف على أي ترتيبات مستقبلية تخص التدفق المالي لحكومة أسامة حماد.
هل تصل ليبيا لصراع مسلح؟
تتعلق الإجابة على ذلك بشكل رئيسي بمدى استعداد القوى الدولية لذلك، فلم يعد سراً أن تركيا والولايات المتحدة موجودتان عسكرياً في الغرب، وتقومان بتقديم مساعدات عسكرية لبعض التنظيمات المسلحة، وخصوصاً في مصراتة وطرابلس، بل إن النواة الصلبة للقوى المسلحة في الغرب تتواصل بشكل وثيق ومستمر مع الخبراء الأميركيين والأتراك، إضافة إلى الدعم الجزائري للقوى السياسية غرب ليبيا، لأسباب يطول شرحها وتتعلق بالأمن القومي الجزائري. أما في الشرق الليبي، فمصر تقوم بالدعم السياسي والمخابراتي، فيما يدخل الحضور الروسي ضمن الاستراتيجية الروسية في أفريقيا، والتي تعززت بعد حرب أوكرانيا.
من الواضح أن قادة الشرق الليبي يستعدون للحرب رغم أنهم يتوقعون أنها ليست حتمية، فالاستراتيجية التي يعتمدها خليفة حفتر وعقيلة صالح لفرض الأمر الواقع الجديد تقوم على تأمين مناطق النفوذ والبحث عن الاعتراف الدولي والنأي بالنفس عما يحصل بالغرب والتعويل على إجهاد ميليشياته وسياسييه وإغراقهما في صراعاتهما حتى تحين الفرصة لايجاد ثغرة سياسية وعسكرية، ومن ثمة إيجاد صيغة جديدة للعملية السياسية تتم بين منتصر ومنهزم وبين قوي وضعيف، وبالتالي تتوزع مراكز النفوذ على هذا الأساس في ليبيا المستقبلية. هذا الأمر هو ما يسعى إليه حكام الشرق ويعد السيناريو الأمثل.
ولعل خليفة حفتر بدأ هذا المسار عبر محاولة تحييد تركيا وتطمينها بأنها لن تخسر نفوذها في صورة سيطرة حكام الشرق على المشهد، وتجلى ذلك في الزيارة الأخيرة لنجله إلى تركيا، وهو المكلف بصندوق إعمار ليبيا وما يعنيه ذلك من دور في توزيع الاستثمارات وفي استمالة الخصوم عبر الأموال والمشاريع.
كل هذه المعطيات توضح أن تعامل الشرق الليبي مع الأزمة الشاملة في البلاد أصبح يتم عبر رؤية هادئة وأكثر استراتيجية وحنكة، مقارنة بحكام الغرب الذين يسيطر عليهم التشظي والصراعات والتفكك والتفتت وغياب الرؤية الشاملة والموحدة للتعاطي مع الأزمة. وبالتالي، فإن فرضية قيام حرب جديدة بين الخصوم مستبعدة حتى اللحظة.
خليفة حفتر وعقيلة صالح اللذان قطعا أشواطاً مهمة في تحقيق الاستقرار الأمني والعسكري بالشرق الليبي ويسعيان لإقامة المشاريع وتحسين حياة المواطن الليبي لا يرغبان في الوقت الحالي في نشوب صراع مسلح مع الغرب وما قد يسببه من دمار وضحايا قد يقوض الصورة الإيجابية التي يحاولان بناءها بخصوص ما يصفانه بالتجربة الناجحة للنموذج الشرقي.
سوف يمضي حفتر وصالح قدماً على طريق تحصين مناطق نفوذهما عسكرياً وسياسياً وقانونياً ومالياً، وكسب اعتراف دولي سيمكنهما لاحقاً من فرض حل للأزمة وفق رؤيتهما، بعد إضعاف ومحاصرة خصومهما بالغرب. أما الولايات المتحدة التي تدعم حكام الغرب الليبي، فإنها لن تستطيع الوقوف أمام هذه التطورات، وخصوصاً إذا ما نأت تركيا بنفسها عن دعم الشق الغربي من ليبيا وميليشياته، فالمشهد على المدى المنظور مقبل على مزيد من تكريس الانقسام الفعلي والحقيقي في ليبيا، وأي حل سياسي لن يتم إلا بين فريق قوي وآخر ضعيف. وهنا نتحدث عن قوة ملحوظة للفريق المدعوم من روسيا ومصر في مقابل تفكك وضعف للفريق الغربي المدعوم أميركياً.