كولومبيا تقطع الفحم عن "إسرائيل": التداعيات الاقتصادية المحتملة
اتخذ الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، موقفاً يُغامر بتبادل تجاري مهم لاقتصاد بلاده مع "إسرائيل" في سبيل أن يقف العالم ويُعيد النظر في موقفه من الإبادة الجماعية ويتأمل الحق التاريخي المشروع للفلسطينيّ في أرضه.
جاء "طوفان الأقصى" منذ أكثر من 10 أشهر، في الـ7 من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ليفتح صفحة جديدة من التضامن العالمي مع الفلسطينيين، ولا سيما في قارة أميركا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي. وكان موقف كولومبيا الرافض للإبادة الجماعية للفلسطينيين والمؤيد للحق الفلسطيني التاريخي في أرضه، منذ اليوم الأول من "الطوفان"، هو الأبرز بعد مواقف كوبا وفنزويلا التي لم تتغيَّر على مدار العقدين الماضيين على الأقل.
تمتد العلاقات بين كولومبيا و "إسرائيل" منذ منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وتوطَّدت خلال العقود الثلاثة الماضية، وصولاً إلى توقيع الرئيس الكولومبي السابق، إيفان دوكي، عدّة اتفاقات وإنشاء مراكز تعاون مع "إسرائيل" خلال مستهل العقد الجاري. وعلى الرغم من الضغوطات السياسية والاقتصادية والأهمية البالغة لتبادلها التجاري مع "إسرائيل"، إلا أن كولومبيا تعدَّت أخيراً في مناصرتها لفلسطين المشاحنات الدبلوماسية، ووصلت إلى حد المقاطعة الاقتصادية مع قرارها الأخير الذي يقضي بحظر تصدير الفحم إلى "إسرائيل"، بهدف الضغط على الأخيرة لتوقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
مرسوم الحظر: كولومبيا لن تشارك في إبادة الفلسطينيين
أصدرت الحكومة الكولومبية، في 7 صفحات، "مسودة مرسوم رقم 1047" الذي يقضي بحظر تصدير الفحم إلى "إسرائيل"، في الـ 14 من أغسطس/ آب الجاري، ووقَّع الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، ووزير الخارجية، لويس أورتيا، ووزير المالية والائتمان العام، ريكاردو غونزاليس، على مسودة المرسوم يوم الأحد الماضي، وسيدخل القرار حيِّز التنفيذ بداية من 22 أغسطس/ آب الجاري.
جاء في نص المسودة أنه "وفقاً للمادة 1.1 من ميثاق الأمم المتحدة، فإن أهداف الأخيرة بشأن الحفاظ على السلام والأمن الدوليين يمكن تحقيقها من خلال اتخاذ تدابير جماعية فعالة لمنع وإزالة تهديدات السلام وقمع أعمال العدوان بالوسائل السلمية ووفقاً لمبادئ العدالة والقانون الدولي"، ويجب على "أعضاء المنظمة تقديم كل نوع من الدعم في أي إجراء يتخذ وفقاً لهذا الميثاق". وبحسب "الأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية في حالة منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل) جرى الاعتراف بخطورة الوضع الإنساني الذي تطور في فلسطين نتيجة للعملية العسكرية التي نفذتها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر عام 2023".
وأوردت المسودة بيانات صادرة عن الأمم المتحدة بخصوص أعداد الشهداء والجرحى ومن يعانون انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية في غزة، وخلصت مراجعة المسودة لبنود مواثيق الأمم المتحدة إلى أن "إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان"، ومثَّل "العدد الهائل من الضحايا المدنيين والتدمير الواسع النطاق للممتلكات والبنية التحتية المدنية، نتيجة حتمية للاستراتيجية التي اختارتها إسرائيل باستخدام القوّة أثناء الأعمال العدائية التي نُفِّذَت بنيَّة إحداث أكبر ضرر ممكن"، وهو ما أثبت صحته "استخدام القوّات المسلحة الإسرائيلية للقوّة بشكل مُتعمَّد وبأسلحة ذات قدرة تدميرية عالية في المناطق المأهولة بالسكان".
وذكرت المسودة أيضاً أن "الحصار والأعمال العدائية والتهجير أثَّرت على الفئات الضعيفة، بما في ذلك الأطفال حديثي الولادة وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، والأسر التي ترعاها النساء والأرامل إلى جانب الأمهات ذوي الأطفال الصغار والنساء الحوامل والمُرضِعات". وبناءً على ما سبق، "تعتبر جمهورية كولومبيا أن العمليات العسكرية ضد الشعب الفلسطيني تمثل انتهاكاً للسلام والأمن الدوليين وقواعد القانون الدولي".
وتعرض المسودة بيانات صادرات الفحم الكولومبي إلى "إسرائيل" موضِّحة أن الأخيرة "تعتمد بشكل كبير على الفحم لإنتاج الطاقة" وأن "صادرات كولومبيا من الفحم تساهم في توليد الطاقة للأنشطة المرتبطة بالصناعات العسكرية". ولذلك فإن "تقييد تصدير هذا المورد يهدف إلى التوافق مع التدابير الدولية المذكورة أعلاه وإحداث ضغط اقتصادي ودولي على إسرائيل لمنع هذه الأعمال العدائية ضد الشعب الفلسطيني".
وبحسب "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية وحظر استخدام القوة الواردة في ميثاق الأمم المتحدة... فإن انتهاك هذه القواعد يشكل تهديداً للأمن القومي لكولومبيا"، وبالتالي "أوصت لجنة الشؤون الجمركية في الجلسة رقم 371 بتاريخ 5 يونيو/ حزيران 2024، وبالإجماع، حظر صادرات الفحم إلى إسرائيل بهدف منع الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني"، وسيظل هذا المرسوم "نافذاً حتى تُنفَّذ الأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية في قضية تطبيق اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل) بشكل كامل".
بيانات الفحم الكولومبي والطاقة في "إسرائيل"
كولومبيا سادس أكبر مُصَدِّر للفحم في العالم، وثاني أكبر مُصّدِّر في الأميركيتين بعد الولايات المتحدة. وقد انخفضت أحجام صادرات الفحم الكولومبي بشكل مطرد خلال سنوات العقد الماضي، حيث تأثرت بانخفاض أسعار الغاز، وانخفاض الطلب على الفحم في حوض المحيط الأطلسي، وبُعدها عن الأسواق الآسيوية الأكثر مرونة وذات المعدّلات الأعلى للطلب. لكن هذا الوضع تغيَّر – إلى حد ما – في الأعوام الثلاثة الماضية، وخاصة بعد توقيع كولومبيا اتفاقيات عديدة مع "إسرائيل" في مستهل العقد الجاري وبداية الحرب في أوكرانيا، حيث اضطرت أوروبا إلى تنويع مصادرها في الفحم بعيداً عن الإمدادات الروسية. وفي ما يأتي نعرض أهم البيانات المتاحة والمستخلصة من تقارير وزارة المناجم والطاقة في كولومبيا، ووزارة الطاقة والبنية التحتية في "إسرائيل".
يمثِّل إنتاج الفحم عصب النشاط التعديني في كولومبيا بواقع 52.5% من الناتج المحلي الإجمالي للتعدين في عام 2021، وشكَّل في العام نفسه نحو 80% من إجمالي الإنتاج في أميركا اللاتينية وقرابة 0.8% من الإنتاج العالمي، حيث سجَّل نحو 60 مليون طن، بينما سجَّل في عام 2022 نحو 64.2 مليون طن، ونحو 66.5 مليون طن في عام 2023. وشكَّلت صادرات كولومبيا من الفحم نحو 69% من إجمالي صادرات التعدين التي تقارب 28% من إجمالي صادرات البلاد في عام 2021، حيث سجَّلت نحو 55 مليون طناً، بينما سجَّلت في عام 2022 نحو 55.5 مليون طن، ونحو 56.5 مليون طن في عام 2023. وخلال الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى أبريل/ نيسان عام 2024، صدَّرت البلاد نحو 15.4 مليون طن من الفحم بقيمة تقارب 2.5 مليار دولار.
بلغ إجمالي واردات الفحم إلى "إسرائيل" نحو 7.5 مليون طن في عام 2013، لكن وارداتها منه ظلَّت تتراجع تدريجياً وصولاً إلى نحو 3.85 مليون طن في عام 2021، بانخفاض يقارب 16% مقارنة بالعام السابق. وجاءت كولومبيا في المرتبة الأولى بقائمة مورّدي الفحم إلى "إسرائيل" في عام 2022 بقيمة تزيد عن مليار دولار، في حين تلتها جنوب أفريقيا (185 مليون دولار) وتركيا (681 ألف دولار) والصين (236 ألف دولار) وهونج كونج (118 ألف دولار). وجاءت "إسرائيل" في المرتبة الرابعة بقائمة وجهات صادرات الفحم الكولومبي في عام 2022 بنسبة تقارب 7.7% من إجمالي صادراته، بعد تركيا (21.2%) وهولندا (14.8%) وتشيلي (7.8%)، وكانت تحتل المرتبة الخامسة في عام 2021 بنسبة تقارب 6%، بعد تركيا (24.7%) وتشيلي (11.3%) وهولندا (10.9%) والبرازيل (9.5%).
وخلال الأعوام الماضية، زادت صادرات "إسرائيل" إلى كولومبيا من 140 مليون دولار في عام 2017 إلى 190 مليون دولار في عام 2022 بمعدل سنوي يقارب 6.4%، فيما زادت صادرات الأخيرة إلى الأولى من 306 مليون دولار في عام 2017 إلى 1.1 مليار دولار في عام 2022 بمعدل سنوي يقارب 28.7%؛ تأتي التكنولوجيات العسكرية ولوازم الأمن السيبراني على رأس ما تستورده كولومبيا من "إسرائيل"، فيما يأتي الفحم على رأس صادرات الأولى إلى الأخيرة وتليه عدد من المحاصيل الزراعية أهمّها القهوة.
ويُذكر أن إجمالي استهلاك الفحم في "إسرائيل" من نصيب قطاع الصناعة، وأن الطاقة المولَّدة عن الفحم بلغ متوسطها قرابة 40% من إجمالي إمدادات الطاقة في الفترة بين عاميّ 2000 و2021، وحدث انخفض بنسبة تقارب 44% في واردات الفحم بين عامي 2012 و2020، وسجّلت الطاقة المولَّدة عن الفحم نحو 16.3% من إجمالي الطاقة المولَّدة في عام 2022، وشكَّلت حصة الفحم في الكهرباء نحو 22% من إجمالي الكهرباء المولَّدة في العام نفسه.
وتوضّح البيانات المذكورة أعلاه أن قطاع التعدين هو الرائد في الاقتصاد الكولومبي، وأن صادرات الفحم الكولومبي تهيمن ضمن صادرات قطاع التعدين، التي تشكِّل ما يزيد عن رُبع إجمالي صادرات البلاد. أيضاً، كولومبيا هي مُصدِّر الفحم الأول إلى "إسرائيل"، وتليها جنوب أفريقيا بقيمة أقل من خُمس قيمة واردات "إسرائيل" من الفحم الكولومبي. وبينما يهيمن الفحم ضمن إجمالي صادرات كولومبيا إلى "إسرائيل"، تشكِّل الطاقة المولّدة عن الفحم في الأخيرة أقل من سُدس إجمالي الطاقة المولَّدة بداخلها، ويبلغ متوسط قيمة صادرات "إسرائيل" إلى كولومبيا أقل من خُمس قيمة إجمالي صادرات الثانية إلى الأولى.
إن صادرات الفحم الكولومبي إلى "إسرائيل" بالغة الأهمية لاقتصادها وحربها على الفلسطينيين والعرب، حتى وإن كانت البيانات تشير إلى أنها لن تعاني إلا القليل؛ في الواقع، انخفض إجمالي واردات "إسرائيل" من الفحم خلال العقد الماضي بسبب اتجاهها إلى التحوّل في الاستهلاك من الفحم إلى الغاز الطبيعي منذ عقد ونيف، ولكن اعتمادها على الفحم يزداد في أوقات الحرب لأسباب عدة من ضمنها أنها تُعطّل استخراج الغاز أحياناً حتى لا تقصفه المقاومة، ما يعني احتمال أن تعاني "إسرائيل" خسارة بالغة من وراء حظر كولومبيا تصدير الفحم إليها، خاصة إن لم يواكب هذه الخسارة زيادة في صادرات الفحم من جنوب أفريقيا وتركيا والصين إليها.
على جنوب أفريقيا وتركيا (ومجموعة بريكس) أن تحذو حذو كولومبيا وأن يتعدّى تفاعلها في مناصرتها لفلسطين المشاحنات أو المسائل الدبلوماسية، وتهبط إلى أرض الواقع بالمقاطعة الاقتصادية وحظر تصدير الفحم (وغيره) إلى "إسرائيل".
ومن المحتمل أن تعاني كولومبيا خسارة صغيرة من وراء حظرها تصدير الفحم إلى "إسرائيل"، تضاف إلى خسارتها السابقة بسبب قطع الأخيرة صادراتها إليها من التكنولوجيات المستخدمة في التطبيقات الأمنية، والتي لا تستطيع كولومبيا إنتاجها محلياً، خلال المشاحنات الدبلوماسية بعد شهر ونيف من السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ما اضطر كولومبيا إلى البحث عن شركاء تجاريين جدد وتحمُّل ضريبة قيمة مضافة بنسبة 19%، بدلاً من 0 إلى 10% حسب المنصوص عليه في اتفاقية التجارة الحرة بينها وبين "إسرائيل"، والتي دخلت حيز التنفيذ في شهر أغسطس/ آب عام 2020.
اتخذ الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، موقفاً يُغامر بتبادل تجاري مهم لاقتصاد بلاده في سبيل أن يقف العالم ويُعيد النظر في موقفه من الإبادة الجماعية ويتأمل الحق التاريخي المشروع للفلسطينيّ في أرضه، حتى وإن كان موقف بلاده محدود بقرارات الأمم المتحدة و"حل الدولتين". لا يمكننا تجاهل المشهد بما يحمله من مفاعيل ومضامين اقتصادية وسياسية؛ تُمثِّل كولومبيا اليوم واحدة من أهم أعمدة نظام عالمي جديد أكثر مساواة وديمقراطية واستدامة بيئية في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بعد أن كانت منذ نحو عامين رأس حربة الولايات المتحدة وحلفها الإمبريالي في القارة بأكملها.