عمر المختار.. أسد الصحراء الذي أذلّ إيطاليا في ليبيا
ناضل عمر المختار بشراسة ضد المستعمر الإيطالي، وبعد عقد من استشهاده، دخلت إيطاليا الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا فخسرتها واندحرت كلياً من ليبيا بتاريخ 7 نيسان/أبريل عام 1943.
"نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية… بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه… أمَّا أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي، لا حق لأمة في احتلال أمم أخرى، يمكنهم هزيمتنا إذا نجحوا في اختراق معنوياتنا، صاحب الحق يعلو وإن أسقطته منصة الإعدام.. آفة القوة استضعاف الخصم، يستطيع المدفع إسكات صوتي، ولكنه لا يستطيع إلغاء حقي، حين يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أُنهكت قواه، ولكنه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه إلى النهاية". عمر المختار
عمر المختار، شيخ المجاهدين وأسد الصحراء، أيقونة النضال ضد الاحتلال وملهم الثوّار التوّاقين إلى الحرية والانعتاق من الاستعمار، ليس فقط في عالمنا العربي/الإسلامي وفي أفريقيا بل في كلّ العالم .
رجل ليس كالرجال، كان على خلق نبيل، تقي ورع، يتحلّى بصفات المجاهدين الأبرار؛ القوة والصدق والأمانة، يكره الظلم والظالمين، شجاع لا يخشى في الحق لومة لائم، يرفض الخنوع ويحتقر من يبيع ذمته مقابل سقط المتاع.
الميلاد والنشأة
ولد عمر بن المختار بن عمر المنفي عام 1862 (وقيل عام 1858) في قرية جنزور بالبطنان في منطقة الجبل الأخضر ببرقة شرق ليبيا. والده المختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات. بعد وفاة والده تولّى الشيخ حسين الغرياني (شيخ زاوية جنزور السنوسية) رعايته وشقيقه محمد، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية. التحق عمر المختار بعد ذلك بمعهد "الجغبوب" الذي كان منارة للعلم وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربّين.. ومكث فيه 8 أعوام، درس خلالها العلوم الشرعية المتنوّعة كالفقه والحديث والتفسير.
تشبّع منذ صغره بمبادئ الدعوة السنوسية وكان شديد الولاء لها، مخلصاً لشيوخها، وقد حاز على ثقتهم فأسند إليه محمد المهدي السنوسي (شيخ الدعوة) مشيخة "زاوية القصور" في الجبل الأخضر سنة 1897، كما اختاره ليرافقه إلى تشاد سنة 1899 حيث اشتغل بنشر الدعوة وتعليم القرآن. لكنه عاد إلى الجبل الأخضر سنة 1906 فتولى مجدداً مشيخة "زاوية القصور"، كما أصبح قائداً لمعسكرات السنوسية في الجبل الأخضر.
مسار أسد الصحراء الجهادي حافل، فقد كان من بين من اختارتهم الدعوة السنوسية لمقاومة الاحتلال الفرنسي في تشاد عام 1900. كما قاتل تحت راية السنوسيين جيوش الانتداب البريطاني في مناسبتين؛ مرة على الحدود المصرية الليبية، في مناطق البردية والسلوم ومساعد (1908)، ومرة عندما بدأ أحمد الشريف السنوسي الإغارة على البريطانيّين في مصر عبر الحدود الليبية سنة 1915 فانضمَّ إليه عمر المختار، ثم عاد إلى ليبيا لمقاومة الطليان.
مقاومة إيطاليا
عن سن يناهز الخمسين سنة بدأ عُمر المُختار حرباً طويلة ضد الاستعمار الإيطالي دامت 20 سنة بين 1911 و 1931، اتبع خلالها أساليب حرب العصابات، فألحق الهزائم بالجيش الإمبراطوري (1911-1922)، ثم بالجيش الفاشي (1922 - 1931)، بالرغم من قلة عدد المقاومين وضعف عتادهم. في هذا المسار الطويل لم يواجه عمر المختار الجيش الإيطالي فقط بل واجه أيضاً المتخلّفين عن الزحف والخونة ومن باعوا ذممهم بدراهم معدودة.
الحرب ضد الجيش الإمبراطوري الإيطالي (1911 - 1922)
أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا في 29 أيلول/سبتمبر 1911 واستطاعت الاستيلاء على طرابلس في 3 تشرين الأول/أكتوبر من السنة نفسها، وشرعت في إنزال قوّاتها بمدينة بنغازي في الـ19 من الشهر ذاته، فجمع عمر المختار ألف مقاتل التحقوا بالجيش العثماني، فهزموا القوات الإيطالية في معركة السلاوي أواخر 1911 وطردوها.
في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1912 وقّعَت تركيا وإيطاليا معاهدة "أوشي" (ضواحي لوزان بسويسرا) التي فرضت على العثمانيين منح الاستقلال الذّاتي لطرابلس وبرقة، وسحب جميع الجنود والموظفين منهما. لكنّ الليبيين أشعلوا نيران المقاومة التي قادها زعماء، كالشيخ سليمان باشا الباروني في المنطقة الغربية، والشيخ أحمد سيف النصر في الجنوب والوسط، والشريف أحمد السنوسي زعيم الحركة السنوسية في المنطقة الشرقية، والذي خلّفه إدريس السنوسي فأوكل أمر قيادة المقاومة لعمر المختار الذي برز بقوة في برقة التي عرفت أعنف الغارات ضد الطليان، أهمها تلك التي نشبت يوم الجمعة 16 أيار/مايو 1913 في مدينة درنة، ومعركة "بو شمال" في منطقة عين مارة، التي دارت في 6 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، ومعارك "أم شخنب وشلظيمة والزويتينة" في شباط/فبراير 1914.
فاوض الإيطاليون قائد الحركة السنوسية إدريس السنوسي على الصلح ووقّعوا معه معاهدة "الزويتينة" عام 1922، مما أغضب عمر المختار وقادة الحركة، فقدّموا إليه وثيقة يبايعونه فيها زعيماً لهم، شريطة أن يكون ذلك للجهاد ضد الطليان فقط. قبل إدريس شرط البيعة، إلا أنّه هاجر إلى مصر أياماً بعد ذلك.
سافر عمر المختار في آذار/مارس 1923 إلى مصر ليناقش مع القيادات السنوسية مستقبل المقاومة الليبية. فحاولت إيطاليا بواسطة عملائها في مصر الاتصال به وعرضوا عليه إما الإقامة الدائمة في بنغازي مقابل راتب شهريّ كبير، وإن شاء جعلوه الشخصية الأولى في ليبيا، أو البقاء لاجئاً في مصر يتلقّى راتباً دسماً بشرط قطع علاقته بالسنوسية، لكنه رفض وأصرّ على قتال المحتل الأجنبي.
أثناء وجوده في مصر، اتفق عمر المختار مع الأمير إدريس على أن تظل القيادة العليا للمقاومة من نصيب المختار، على أن يتكفّل الأمير في مصر بقيادة العمل السياسي وشؤون اللاجئين ويشرف على إمداد المجاهدين بالمساعدات الممكنة، واتُفق على أن يكون الحاج التواتي البرعصي حلقة الوصل بين الأمير وقائد الجهاد.
الحرب ضد الجيش الإيطالي الفاشي (1923 - 1931)
شهدت الفترة الممتدة بين عامَي 1923 و1926 مناوشات ومعارك عديدة بين الثوّار والقوّات الإيطاليّة في الجبل الأخضر. تسبّبت في خسائر فادحة لدى الجانبين وفي إنهاك القوات الإيطالية وقوات الثوّار، ولكن تأثيراتها السلبية على معنويات القوات الإيطالية كانت شديدة.
سنة 1927 نجح الإيطاليون في احتلال واحة الجفرة والقسم الأكبر من فزان، كما سعوا إلى شراء ذمم زعماء القبائل حتى يكفّوا عن القتال، فأصابوا في ذلك نجاحاً كبيراً، إذ سقطت الجغبوب ومرادة وزلة وجالو وأوجلة بين أيديهم. وقد أدى احتلال الواحات الصحراوية إلى عزل عمر المختار، فحاول الجيش الإيطالي ضرب الحصار على المجاهدين في الجبل الأخضر، لكن عمر المختار ظل يقاوم، فأوقع بتاريخ 28 آذار/مارس 1927 في معركة الرحيبة خسائر جسيمة بالطليان أجبرتهم على الانسحاب، لكن الخسائر البشرية التي تكبّدها المقاومون كانت أيضاً كبيرة.
عاد الإيطاليون للهجوم على الثوّار يوم 11 آب/أغسطس 1927 في وادي الشبولية، حيث حاصروهم في الوادي من جهتيه وقصفوهم بالمدفعية، وبعد مقتل العشرات من الثوّار نجح عمر المختار ورجاله في الانسحاب واتّجهوا شرقاً.
في شهر أيلول/سبتمبر عام 1927، غزت جموع الزوية والجفرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة الطاليان، وأنزلوا بهم خسائر فادحة، كما اشتدت مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسيّة الهامّة، وفي أواخر شهر كانون الثاني/يناير 1928 هزم المقاومون قوات يقودها غراتسياني، أرادت الاستيلاء على ما تبقّى من فزان. لكن في شباط/فبراير سنة 1929، اتصل الإيطاليون بعمر المختار مقترحين عليه عقد اجتماع لبحث سبل الوصول للصلح.
بين 20 آذار/مارس و 19 حزيران/يونيو 1929، عقدت عدة اجتماعات فاشلة بين المقاومة والإيطاليين وتوّجت باجتماع بين عمر المختار والمشير بادوليو حاكم ليبيا العام، حيث اقترح المشير عقد هدنة لمدة شهرين تتوقّف فيها جميع العمليات العسكرية كي تدور المفاوضات في جو هادئ، فوافق المختار على ذلك. لكن الطليان وضعوا بعد ذلك شروطاً تعجيزية هدفها فرض استسلام المقاومين فردّ عليهم عمر المختار: "إنّي لا أرضى بهذه الشروط، وأفضّل الموت جوعاً وعطشاً ولا ألقي بنفسي وإخواني بين أيدي الإيطاليين يتصرّفون فينا كما شاؤوا".
ظل الإيطاليون يماطلون في استئناف المفاوضات، لكنهم في المقابل سعوا إلى بث الفتنة بين المجاهدين عن طريق استعمال المال والوعود بالامتيازات لشراء ذمم من أصيبوا بخوار العزيمة. وعندما تجلّى لعمر المختار عدم جدوى المفاوضات مع مُستعمر أوقف الحوار فانفجر الموقف من جديد.
ونتيجة الفشل المتكرّر للطليان في إخماد ثورة عمر المختار، كلّف موسوليني الفريق أوّل رودولفو غراتسياني بمحاربة المقاومة. فاتخذ عدداً من القرارات القمعية، بينها توقيع عقوبة الإعدام على كل من يتعاون أو يتصل بالثوّار وسجن معظم المشايخ وأعيان بنغازي ودرنة، وأنشأ "المحكمة الطائرة" فهي تستعمل الطائرات في تنقّلاتها، تنعقد بصورة سريعة وتصدر أحكامها فوراً. ولأقل شبهة تحكم على الأهالي بالموت ومصادرة الأملاك وتمنحها للمرتزقة الفاشيّين. كما جمع غراتسياني المدنيين في معسكرات أنشأها في الصحراء وأحاطها بالأسلاك الشائكة، بعدما كان قد أحرق قراهم ومحاصيلهم الزراعيّة وقتل دوابهم. وأعلن عن مكافأة قدرها 200 ألف فرنك إيطالي لمن يجلب عمر المختار حياً أو ميتاً.
يوم 14 حزيران/يونيو 1930 استولى غراتسياني على الكفرة في الجنوب والتي كانت معقلاً للمقاومة كما سيطر على منطقة الفايدية. أمام هذا الواقع نقل عمر المختار دائرة عملياته إلى الناحية الشرقية في الدفنا نظراً لقربها من الحدود المصريّة، مما جعل غراتسياني يقرّر إقامة الأسلاك الشائكة على طول الحدود الشرقيّة من البحر الأبيض المتوسط إلى ما بعد الجغبوب، كلّفت الحكومة الإيطاليّة 20 مليون فرنك إيطالي لكنها بالمقابل حرمت الثوّار من الإمدادات التي كانت تأتيهم من مصر.
في 11 أيلول/سبتمبر عام 1931 علمت إيطاليا بوجود المختار ورفاقه في وادي الجريب في الجبل الأخضر، فأمرت بتطويق الوادي من جميع الجهات، فوقع المختار ورفاقه في كمين العدو، وأثناء المعركة قُتل حصان عمر المختار فسقط أرضاً فهجم عليه الطليان وقبضوا عليه فتعرَّف إليه أحد الخونة.
نقل عمر المختار إلى ميناء سوسة، ومن ثم إلى بنغازي عن طريق البحر. وعندما صل غراتسياني إلى بنغازي يوم 14 أيلول/سبتمبر، أعلن عن انعقاد "المحكمة الخاصة" في اليوم التالي، وفي الساعة الخامسة مساءً، جرت المحاكمة التي كانت صورية شكلاً وموضوعاً، وحكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقاً حتى الموت.
صبيحة يوم الأربعاء 16 أيلول/سبتمبر 1931، نفّذ الاحتلال الإيطالي اعدام المقاوم الشيخ عمر المختار، وذلك في مركز سلوق جنوبي بنغازي بحضور جميع أقسام الجيش الإيطالي، و20 ألفاً من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين الليبيين. وقد سجّل التاريخ أنه قال في كلماته الأخيرة قبيل إعدامه: "نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي...".
بعد عقد من استشهاد عمر المختار، دخلت إيطاليا الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا فخسرتها واندحرت كلياً من ليبيا بتاريخ 7 نيسان/أبريل عام 1943.
الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وبذكراهم ونموذجهم يعيشون بيننا وهذا ما قصده أسد الصحراء حين قال لجلاده: "... عمري سيكون أطول من عمر شانقي" وهكذا كان..