ما بين إيران وباكستان.. عن خلفية الضربات وحتمية التوافق
ترسم المشادات الحالية بين باكستان وإيران مشهداً من التوترات بين البلدين. وتوحي في علاقة متلبدة بين جارتين، كان التعاون حاكماً بينهما، في مختلف الصعد، وما زال. فهل تقف أحداث اليوم أمام مسار طويل من مجالات التعاون، أمنياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً وتنموياً، بين البلدين؟
بعد استهداف حرس الثورة في إيران مقارَّ منظمة "جيش العدل" الإرهابية في باكستان، والرد الباكستاني عبر استهداف "جيش تحرير بلوشستان" داخل إيران، بالإضافة إلى حالة التوتر، سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً، بدا للمتابع كأن إيران وباكستان دولتان خصمتان تقفان على حافة إعلان الحرب.
ضمن مسار التعريف بالفصيلين، اللذين تم استهدافهما، هل الخصومة هي الوجه الحقيقي المعبّر عن تلك العلاقة؟ وما أسباب الالتقاء وبعض التنافر بين إسلام آباد وطهران؟
حركة "جيش العدل"
تعود أصول حركة "جيش العدل" البلوشية، والتي استهدفتها إيران، إلى حركة "جند الله" البلوشية أيضاً، والتي تأسست عام 2002، في محافظة سيستان بلوشستان الحدودية بين إيران وباكستان، على يد عبد المالك ريغي، والتي كانت تدعو إلى استعادة "دولة البلوش" التاريخية، والتي كانت تُعرف باسم "خانيه كلات"، والتي ظلت بمثابة دولة للبلوش حتى عام 1839، عندما أُخضعت للسيطرة البريطانية، وجرى تقسيمها بين باكستان وإيران وأفغانستان.
نفّذت حركة "جند الله" عدداً من العمليات الإرهابية داخل إيران، ذهب ضحيتها ما يزيد على 157 شهيداً و400 جريح. وفي 20 حزيران/يونيو 2010 أعدمت طهران زعيم الجماعة، عبد الملك ريغي، بعد إدانته بالضلوع في هجمات إرهابية في إيران.
عام 2012، أعلن الأمير الجديد لـ"جند الله"، عبد الرحيم ملا زاده، تأسيس "جيش العدل"، عبر توحيد الفصائل والحركات المسلحة، التي تخوض حرباً ضد السلطات الإيرانية. وفور تأسيسه، باشر التنظيم الجديد سلسلة من العمليات الإرهابية، طالت المدنيين والمراكز الأمنية في محافظة سيستان بلوشستان، حيث تجاوزت نشاطاته الإرهابية 12 عملاً مسلحاً، خلّفت ما يزيد على 86 شهيداً ومئات الجرحى.
نتيجة ذلك، شكلت منطقة الحدود بين إيران وباكستان خاصرة أمنية رخوة، استغلتها تلك المجموعات لتنفيذ عمليات ضد أهداف متعددة، والهرب بعدها إلى داخل الحدود الباكستانية. وهذا ما كان محل حوار ونقاش بين الجهات الأمنية والاستخبارية والسياسية الإيرانية والباكستانية.
"جيش تحرير بلوشستان"
هو حركة "بلوشية" انفصالية، تدعو إلى انفصال إقليم بلوشستان عن الحكومة الباكستانية، وعدم السماح باستغلال موارد الإقليم، لغير خدمة سكانه من البلوش تحديداً.
أُعلِن "الجيش" عام 2022، بعد اندماج كل من "جيش بلوشستان الجمهوري" و"جيش بلوشستان المتحد".
نفذت الحركة مجموعة من الهجمات ضد مناطق باكستانية متعددة، مع التركيز أكثر على منطقة إقليم "بلوشستان". وأبرزها هجوم لاهور في 20 كانون الثاني/يناير 2022. كما نفذت، في شباط/فبراير من العام نفسه، سلسلة هجمات في منطقتي بانجور وناوشكي الباكستانيتين.
الجارتان: إيران وباكستان
تعود العلاقات الودية بين إيران وباكستان إلى زمن طويل، سجلت خلاله لائحة طويلة من عناصر الالتقاء. تلك العناصر كانت دائماً تُعيد التواصل بين البلدين إلى نقطة التوازن الإيجابي بعد أي توتر تشهده العلاقات بينهما.
ينتمي الشعب الباكستاني، وجاره من سكان المناطق الحدودية في إيران، إلى أصل واحد، بحيث استقرت القبائل المتعددة، في تلك المنطقة، بعد هجرات حدثت من آسيا الوسطى، عُرفت بـ"الهجرة الإندوإيرانية". وكانت إيران هي مدخل الدين الإسلامي لشمالي الهند (باكستان حالياً). وكانت، في التاريخ الحديث، أول من اعترف باستقلال باكستان عن الهند، واستقبلت على أراضيها أول سفارة باكستانية في العالم.
مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، برز عامل التقاء جديد، على المستوى الثقافي، وهو الخلفية الإسلامية لكِلا البلدين، الأمر الذي جعل مواقف العاصمتين متقاربةً جداً بشأن القضايا الإسلامية العامة، مثل القضية الفلسطينية.
أما على مستوى العلاقات الدولتية بين البلدين، فدفعت 3 محاور أساسية هذه العلاقات دائماً إلى منحى تعاون إيجابي، وهي: الطاقة، والحدود، والتجارة.
وفي حين تُعَدّ إيران من أغنى الدول في مجال الغاز، تعاني باكستان شحاً شديداً في هذا المورد المهم من موارد الطاقة. في عام 2012، تم توقيع اتفاقية مد أنابيب غاز بين إيران وباكستان، قبل أن تقف العقوبات الأميركية عائقاً أمام تنفيذها، لكن العرض الإيراني ظل متاحاً أمام إسلام آباد، وظلت الأخيرة في حاجة ماسة إل الغاز من إيران.
وعلى مستوى الحدود، للدولتين مخاوف وهواجس من المجموعات الانفصالية المتمركزة عند حدود الطرفين. وغالباً ما شهدت العلاقات على المستوى الأمني بينهما تعاوناً شديداً، وصل في عدة مرات إلى إجراء تدريبات مشتركة، وتبادل للتكنولوجيا الأمنية والتكنولوجيا العسكرية، بالإضافة إلى التعاون الاستخباري، الذي تجلى في أكثر من حادثة، إحداها إلقاء القبض على زعيم تنظيم "جند الله"، عبد الملك ريغي.
أمّا في ميدان التجارة، فتقف العقوبات الأميركية عائقاً وحيداً أمام تطور العلاقة إلى مستويات متقدمة، إلّا أن هذا العائق لم يقف حائلاً بصورة تامة بين البلدين، إذ ما زال العلاقات التجارية واتفاقيات التعاون جارية بين البلدين، بالإضافة إلى التعاون على مستوى التنمية، بحيث وقّع كثير من المدن الباكستانية اتفاقيات توأمة مع المدن الإيرانية.
ما لا شك فيه أن بعض العقبات يقف بين التعاون المشترك بين البلدين، ويتسبب بتعثر في العلاقة بينهما أحياناً. وأهم هذه العقبات العلاقة بالولايات المتحدة الأميركية، بحيث تحافظ باكستان على علاقة مستقرة معها، تمنعها من اتخاذ خطوات متقدمة مع إيران، في حين تشهد العلاقة بين الأخيرة والولايات المتحدة عداءً متصاعداً منذ انتصار الثورة الإسلامية إلى اليوم. يضاف إلى ذلك العلاقة بالهند، التي تَعُدّها باكستان خصماً تاريخياً لها، منذ انشقاقها عنها، بينما تُعَدّ العلاقات الإيرانية الهندية جيدة وإيجابية، الأمر الذي كان يثير مخاوف إسلام آباد من حين إلى آخر.
تؤدي دوراً أيضاً قضية أفغانستان، التي تتأرجح السياسة الباكستانية حيالها، تلاؤماً مع المصالح الأميركية في المنطقة. ففي حين تُعَدّ باكستان من أكثر الدول التي دعمت "طالبان" وساعدتها على الوصول إلى الحكم، ما لبثت أن تحولت إلى ألد أعدائها مع إعلان الولايات المتحدة الحرب عليها. بينما كانت ايران تسعى، حتى اليوم، لبناء علاقة طيبة ومتوازنة بجارتها أفغانستان. وأخيراً، هماك الاختلاف المذهبي، والذي غالباً ما يُستغَلّ من جانب أجهزة الاستخبارات الغربية، من أجل محاولة اللعب على أوتار هذا الاختلاف لتأسيس جماعات انفصالية مذهبية ودعمها.
هذه العقبات، على الرغم من حساسيتها، وإن استطاعت، بين حين وآخر، فرض التنافر بين البلدين، فإنها لن تستطع تحويل هذا التنافر إلى واقعٍ حاكم في العلاقة بينهما، ولم تمنع الالتقاء الدائم، وتغليب الجوانب الإيجابية في العلاقة بعد كل توتر.
وفي عودة إلى الحادثة الأخيرة، والقصف المتبادل بين الطرفين، وعلى الرغم من ارتفاع حدة الخطاب، والتوتر الدبلوماسي بين العاصمتين، فإنّ المتتبع لمسار الأحداث على أرض الواقع يرى أن ما حدث محاولة تقدُّم إلى الأمام، وليس إلى الخلف، في العلاقة بين إيران وباكستان.
فلم تتجاوز إيران، في عمليتها العسكرية، حدود استهداف المجموعات المعتدية على أمنها القومي تحديداً، وذلك بعد سلسلة طويلة من الاعتداءت التي كلفت الجمهورية الإسلامية عدداً كبيراً من الضحايا. وفي المقابل، كان الرد الباكستاني دقيقاً وموجَّهاً أيضاً إلى المجموعات التي عدّتها إسلام آباد "مجموعات انفصالية تشكل خطراً على الأمن القومي الباكستاني"، من دون أن تتعداه إلى أي استهداف يمثل تحدياً للأمن القومي الإيراني، أو إلى استهداف للمصالح الإيرانية أو الشعب الإيراني.
ويمثّل هذا الرد، يضاف إليه بيان الخارجية الباكستانية، دعوةً إلى العودة إلى طاولة التفاوض والاتفاق، من أجل ضمان أمن البلدين، وهو ما يُرجَّح حدوثه في الأيام والأسابيع المقبلة.