اعتصام قاعة "هاملتون".. رسالة طلبة "كولومبيا" بين قرنين
المحتجون في جامعة كولومبيا يعمدون لإعادة تسمية قاعة "هاملتون" باسم "هند" ليعيدوا للأذهان اقتحام ذات القاعة، في ذات اليوم عام 1968، في سياق الاحتجاج على حرب فيتنام والغضب الطلابي الواسع، فعلى الرغم من تحذيرات موظفي الجامعة حينها ظلّ مئات الطلبة في المباني الأمر الذي شكّل إلهاماً للحركة الطلابية في أميركا وتصعيداً لمطالبها.
رغم إصدار جامعة كولومبيا الأميركية مذكرة موجّهة تطالب بفضّ الاعتصام، واصل المحتجون من الطلبة التظاهر والاعتصام دعماً لفلسطين، وأكّد ممثلوهم، في مؤتمر صحفي عُقد منذ أيام، ثبات المطالب والمواقف ومواصلة التفاوض مع إدارة الجامعة، وأنّ الإدارة تتعاطى مع احتجاجهم بصفته قضية انضباط داخلي، وليس على حقيقته، فهو مساءلة أخلاقية وسياسية يجريها هذا الجيل مع الجامعة، وفق قولهم، وضمّت صفوفهم عشرات من أعضاء هيئة التدريس، مرتدين سترات برتقالية للتمييز.
الآن، يتصاعد الحدث مع خطوة ذات رمزية كبيرة، يبدو أنها تمثّل رد فعل المحتجين على الإجراءات العقابية في حق رافضي تنفيذ أوامر إخلاء ساحة الاحتجاج، بدعوى تعطيل الدراسة والتسبب في مضايقات والتمييز، و"خلق بيئة غير مرحّبة" ببعض أعضاء مجتمع الجامعة، وفق ما قالت المذكرة.
في أولى ساعات صباح الثلاثاء، احتلّ الطلبة المحتجون قاعة "هاملتون"، المجاورة لموقع اعتصامهم ومبنى الجامعة، وسط هتافات بالحرية لفلسطين ورفع الحصار عن غزّة، وأقاموا متاريس خلف الأبواب لتحصين المكان، وأعلنوا أن المبنى حُرر على شرف الطفلة الفلسطينية هند رجب التي قتلت في غزّة، وفق قولهم.
بالتوقيت، الثلاثين من نيسان، يعمد المحتجون لأن يعيدوا إلى الأذهان اقتحام القاعة نفسها، في اليوم ذاته عام 1968، في سياق الاحتجاج على حرب فيتنام والغضب الطلابي الواسع، وحركة الحقوق المدنية، وتداعيات اغتيال مارتن لوثر كينج الذي سبقها بنحو ثلاثة أسابيع. وقتها، رغم تحذيرات موظفي الجامعة، ظلّ مئات الطلبة - لأيام - في 5 مبان، شملت مكتب رئيس الجامعة والمكتبة القانونية، وأغلقوا الأبواب بالطاولات وأعلنوا الإضراب، ما شكّل إلهاماً لعموم الحركة الطلابية في البلاد، وتصعيداً لمطالبها.
كما عبّرت كلمات خوان جونزاليس، أحد المتحدثين باسم المحتجين، بعد اعتصامهم وفي طليعتهم منظمة طلبة من أجل مجتمع ديمقراطي (SDS): "سنتحدث عن وجهة هذا البلد ووجهة الجامعة ودورها في المجتمع".
سياسياً، مثّل التحرك حصيلة حالة تنظيمية، تطورت منذ عام 1964 في جامعة كولومبيا، وقادت الاحتجاج على تجنيد الشباب لحرب فيتنام، لترفع الصوت لاحقاً ضد الحرب كلها، ثم ضد روابط الجامعة بالبحوث العسكرية، وسط أنباء الخسائر البشرية الأميركية وقتل المدنيين الفيتناميين، كذلك يتصدّر فكّ تلك الروابط مطالب التحرك الحالي، ويضمّ أساليب الحلقات النقاشية الصغيرة والدعاية السياسية نفسها وجمع التبرعات والإعاشة، في جيل وعصر يمتازان بتطور وسائل الاتصال، ما يجعل إيقاعه أسرع، مع تباينات ذات صلة بالسياق والمستوى، والمطالب وطابعها الأيديولوجي.
جاء احتلال قاعة "هاملتون"، الأول، وسط مواجهات مطلبية مع الإدارة، كان أبرزها الاحتجاج على إقامة صالة رياضية على أرض حديقة عامة بالجامعة، وفي سنوات حيوية سياسية كانت نفسها ذروة تبلور الحركة الطلابية، وصوتها، بصفتها جزءاً من المجتمع (ومن النخبة)، وفي الخلفية صراع سياسي محلّي قادته منظمة ثانية، جمعية الطلبة الأفرو أميركيين في جامعة كولومبيا (SAS)، ركّزت مطالبها منذ البداية على الحقوق المدنية والمساواة، وصعّدت موقفها بعد فترة احتجاجات عارمة تلت مقتل كينج، شهدتها ولايات متعددة حول نيويورك. سياق أكسب تلك المواجهة بعداً محلّياً معتبراً، رغم مركزية مطلب الانسحاب من فيتنام ووقف الحرب.
اليوم، تسود مطالب على قدر التمرد نفسه، لكن أكثرها متّصل، تحديداً، بتسليح وتمويل الإبادة الجماعية في فلسطين، في إطار معاناة شعبها التاريخية، ولا يقتصر المشاركون وقياداتهم - عرقياً- على الأميركيين البيض المعياريين والأفارقة، ولا يتصدّرهم ذوو الأصول العربية والمسلمون وحسب، بل كثير ممن يعرّفون أنفسهم للإعلام بأنّهم يهود، ويوجّهون النقد لمنظومة علاقات أميركا بالصهيونية، وتنويعاتها، من استثمارات ضخمة لمؤسسات أكاديمية إلى نفوذ صهيوني داخلها، وحِزَم تسليح حكومية لا تقتل سوى الأطفال، بلا وزن حقيقي لتبرير دعم "إسرائيل" بمكافحة الإرهاب، مع تغطية إعلامية على الانترنت، ذات طابع مفتوح وشعبي، تعرِض ضحايا الأسلحة المدنيين، وفشلها في تحقيق سواء الأمن أو النصر.
من جهة أخرى، ميدانياً، جاء تصعيد عام 68 ردّاً على رفض الإدارة استلام عريضة المطالب بالأساس، مع استمرار بناء الصالة الرياضية المرفوضة، التي شهد موقعها اعتصاماً منذ البداية، وأجمع الطلبة لاحقاً أنّ استلام العريضة كان ليمنع احتلال القاعة، بينما يردّ التصعيد الجديد على إجراءات فصل بعض الطلبة مؤقتاً، واستدعاء الشرطة للحرم الجامعي في 18 نيسان واستخدام العنف والاعتقال.
فارقٌ آخر أنّ الاقتحام السابق كان أعنف، حدّ احتجاز رئيس الجامعة وقتها هنري س. كولمان في مكتبه، ورغم ذلك ظلّ الاعتصام قائماً لأيام، لكن الآن يأتي العنف الأكبر من جانب الشرطة، التي اقتحمت القاعة اليوم التالي، الأربعاء أول أيار، وأخلت المعتصمين، وفضّت الاعتصام القائم في حرم الجامعة نهائياً، حتى اللحظة، بعد أسبوعين من محاولات لفضّه بالقوة.
عكس الستينيات، التي شُوهدت فيها صورة ماو تسي دونغ مرفوعة داخل القاعة نفسها، لم تظهر صبغة أيديولوجية محددة في التحرك، وتمسَّك خطابه وشعاراته بالإطار العام لمبدأ التحرر الوطني للمستعمرات، والانحياز لأولوية الإنسان وحياته وقيمه العليا على تحصيل الأرباح، والتحالف السياسي الاستعماري لصانعيها، صيغة تتسع لتضمّ طلبة من مختلف الانتماءات الثقافية والعرقية والسياسية، وتطرح سؤالاً مختلفاً عن السؤال القديم، وقد خفّضت أميركا سقف العنصرية السابق داخلها: لماذا توجّهون أموالنا لقتل أبرياء وتتحالفون مع عنصريين دمويين، بلا جدوى استراتيجية مشروعة بل بكلفة استراتيجية وأخلاقية كبرى؟
لعل اختلاف إعادة التسمية الرمزية لقاعة هاملتون التي أعلنها المحتجون، بين الأمس واليوم، يعكس مسافة فكرية بين لحظتين، ورسالة رمزية يرسلها محتجو اليوم، لحظة إدراك تاريخ الذات، عندما سمّاها المحتجون قاعة "نات تيرنر"، أبرز رموز التحرر الثوري، لا الإصلاحي، للعبيد الأفارقة، الذي شُنق بعد تمرّد مسلح عام 1831، ولحظة إدراك تاريخ الآخر، الفلسطيني العربي في هذه الحالة، الذي لم يزل مقموعاً بالظاهرة الاستعمارية، وتعبّر قصة استشهاد الطفلة هند عن مواجهته لتحالف الصهيونية ورأس المال، والنخبة الأميركية والغربية الحاكمة، إذ قتلها "الجيش" الإسرائيلي ووالدها وأقاربها مستهدفاً سيارتهم، وظلّت وابنة خالها على قيد الحياة، وأبلغت الأخيرة الهلال الأحمر الفلسطيني هاتفياً أنّهما محاصرتان بالدبابات، ليرسل سيارة إسعاف بمسعفَين لإنقاذهما، وينقطع اتصاله بهما كذلك ويعثر على جثث الجميع بعد 12 يوماً، عندما سمحت قوات الاحتلال بدخول المنطقة.
تكثّف قصة الشهيدة هند، ذات السنوات الست، عجزاً على مستوى دولي وإقليمي عن حماية الإنسان، وأبسط حقوقه الأساسية، وعن تحقيق ما يمنح المعنى للعقيدة الفكرية الليبرالية، الذي يجمع الانتماء لها قطاعاً واسعاً من النخبة الأميركية. وهنا رسالة يمكن قراءتها وتعكس وعي هذه الخطوة بذاتها، لم يعد احتجاج الشباب يسائل التاريخ الماضي، والحقائق "التأسيسية" التقليدية التي تفرضها الأطراف المحافظة، مثل الشكل القديم للاستغلال (العبودية)، أو الحرب وراء البحار لردع خطر مستشرَف (مكافحة الشيوعية)، ويوجّه الآن غضبه نحو أطراف ومؤسسات تبنّت بالفعل، لعقود، شعارات حقوق الإنسان والمساواة، والمعرفة والتقدم لخدمة البشرية، مع ثبات انتمائها لنخبة عالمية، لا أميركية وحسب، يضمن بقاؤها، وما يفرضه من نظام، مصالح ضيقة لم تزل قائمة على استغلال، يشمل الأموال والجهود والأرواح، ويتمثّل سياسياً في التحالف الغربي الصهيوني، بلا مساحة لبديهيات المنظومة القيمية الإنسانية العامة.