ألمانيا و"عقدة الذنب": دعم مذابح "إسرائيل" مشروع.. والتضامن مع غزة ممنوع
إنطلاقاً من "عقدة الذنب" التي تسيطر على ألمانيا سارعت السلطات ومعها كل الأحزاب السياسية الرئيسة، إلى الانحياز الأعمى إلى الحرب الدموية الإسرائيلية على قطاع غزة.
من سخرية القدر أن الحكومة الألمانية العازمة إدخال تعديلات جديدة لامتحان الجنسية، تتضمن أسئلة من قبيل "حق إسرائيل في الوجود والحياة"، هي نفسها تنكر على المدنيين الفلسطينيين في غزة أدنى حقوقهم في الحماية والسلام والأمان، فضلاً عن دعمها حملة الابادة الجماعية ضدهم.
لهذا، سارعت السلطات الألمانية، ومعها كل الأحزاب السياسية الرئيسة في برلين، إلى الانحياز الأعمى إلى الحرب الدموية، التي تشنها "إسرائيل" على القطاع، وتبنّت موقفاً متشدداً، مفاده أن الدعم للفلسطينيين يعني الموافقة على "العنف العشوائي ضد الإسرائيليين"، فضلاً عن عدّها الدعوة إلى إنهاء الحرب بمنزلة حرمان الإسرائيليين من "حقهم في الدفاع عن أنفسهم".
ومع أن حكومة هذا البلد رضخت، بالتدريج، تحت ضغط المعارضة الهائلة في شوارع برلين، وبدأت السماح بالمظاهرات المناهضة للحرب التي تجري الآن، بانتظام، في جميع أنحاء المدن الألمانية، لكن حملات القمع للمواقف والرموز والكتابات والتحركات والنشاطات الفنية والثقافية المؤيدة لفلسطين استمرت بلا هوادة، في ترجمة لمسار قائم منذ أعوام.
شواهد على قمع السلطات الألمانية كل ما يؤيد فلسطين
من المعروف أنه في عام 2019، أصدر البوندستاغ (البرلمان الاتحادي الألماني) قراراً غير ملزم، مناهضاً لحركة مقاطعة "إسرائيل" BDS، يدعو المؤسسات إلى عدم إعطاء منصة لأي شخص قد يكون مرتبطاً بها. غير أن النمط الاستبدادي هذا شهد ارتفاعاً ملحوظاً بعد انطلاق الحرب الدموية على غزة.
ونتيجة لذلك، فقدَ الفنانون والصحافيون والأكاديميون، الذين يتحدثون ضد "إسرائيل"، وظائفهم. كما جرى إلغاء الأحداث والنشاطات حتى تلك التي لا تتعلق بفلسطين، إذ كان يكفي أن أحد المدعوين أعرب عن تعاطفه مع الفلسطينيين. واختفت أيضاً مساحات النقاش الحر والتعبير بمعدل مذهل.
أما أبرز هذه النماذج، فيمكن إيجازها في الآتي:
خلال الشهر الفائت، تعرّض الفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام لحملات ترهيب وتهديد وتشويه سمعة من جانب السياسيين الألمان، بعد فوز إنتاجهما، وهو بعنوان: "لا أرض أخرى"، بجائزة أفضل فيلم وثائقي وجائزة الفيلم الوثائقي المفضل لدى الجمهور في مهرجان برلين السينمائي، بينما يعود السبب إلى قيام عدرا وإبراهام بإلقاء كلمتين، في أثناء حفل التتويج، تحدثا فيهما عن القمع الإسرائيلي العنيف للفلسطينيين، وتواطؤ ألمانيا في الحرب على غزة.
وعليه، ورداً على كلمتي عدرا وأبراهام، واللتين انتشرتا على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، قام عمدة برلين كاي فيجنر باتهامهما بـ "معاداة السامية".
ليس هذا فحسب، فلقد برزت، على هامش الحفل، فضيحة هزلية، إذ تميز تصرف وزيرة الثقافة الألمانية، كلوديا روث، بالسلوك الصبياني، بعد أن أصرت على أنها صفقت فقط لليهودي كونه تحدث لمصلحة "الحل السياسي والتعايش السلمي في المنطقة"، وليس لزميله الفلسطيني، الذي ردد، للمفارقة، العبارات ذاتها. المضحك في القضية أن أحداً لم يفهم سرّ هذا التصفيق الانتقائي المتحيزّ، مع أن خطاب إبراهام انتقد المعاملة التفضيلية التي يتعرض لها من جانب نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، مقارنة بصديقه عدرا.
بالإضافة الى ذلك، انتشر مقطع فيديو، على نطاق واسع، نشره السياسي الألماني فيرات كوتشاك، يتضمن محتواه قيام أستاذ في إحدى المدارس الألمانية بضرب طالب كان يلف العلم الفلسطيني حول جسده. اللافت أن كل تقارير الشرطة، التي أوقفت الطالب وليس المدرّس، اعتمدت، بحسب كوتشاك، وجهة نظر المعلم فقط، ولم تقم حتى الآن بإجراء مقابلات مع الطلاب.
وفي السياق ذاته، وبينما حظرت الشرطة في برلين، موطن أكبر جالية فلسطينية في أوروبا، الشعار القديم "من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة"، والذي كُتب على لافتة في احدى المظاهرات، ومنعت تداوله أيضاً، بأي لغة، غير أن التطبيق الإجرائي لهذا القرار كان أحادي الجانب بصورة فاضحة. وفي هذا الإطار، أوضح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) أن عبارة "فلسطين حرة" لا مكان لها في ألمانيا، وندد بهذه العبارة، ووصفها بأنها "صرخة حرب لعصابة إرهابية نشطة دولياً".
في موازاة ذلك، لم تحرك الشرطة الألمانية ساكناً، كما تصرفت مع الناشطين الفلسطينيين، في أعقاب قيام محتجين مؤيدين للكيان الغاصب بحمل العلم الإسرائيلي في جامعة هومبولت في برلين، والتهاف بسخرية: "من النهر إلى البحر، هذا هو العلم الوحيد الذي ستراه".
كمّ الأفواه ومعاقبة كل منتقد لـ "إسرائيل"
بعد ملحمة "طوفان الأقصى"، لم تكتفِ الحكومة الألمانية بتطبيق سياسة كم الأفواه، وإنما لبست أيضاً قناع الديكتاتورية، عبر معاقبة كل من يتجرأ على معارضة أفعال "إسرائيل" الدموية، بما في ذلك التساؤل حتى عن عدد الشهداء الفلسطينيين. اللافت أن وتيرة القمع هذه تزامنت مع قيام الناشطين والصحافيين المؤيدين لـ "إسرائيل" بنبش منشورات سابقة في وسائل التواصل الاجتماعي لأي شخص مناهض لـ"تل أبيب" والتشهير به واتهامه بمعاداته للسامية. وتولى هذا الأمر "تحالف الشتات"، وهو مجموعة دولية مكرّسة لمحاربة معاداة السامية، وتُستخدَمه أداة لتتبع مثل هذه الحالات.
أما ضحيتها الأولى فكان الصحافي مالكولم أوهانوي، الذي كتب سلسلة تغريدات في منصة X، تردّ سبب هجوم الـ7 من أكتوبر إلى الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود، وحصار غزة، وقمع الاحتجاجات الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن أوهانوي لم يمجّد حماس، فإن كتاباته عُدّت حجة كافية للعقاب، الأمر الذي دفع إذاعة الخدمة العامة، "آرتي"، إلى قطع جميع العلاقات بأوهانوي على الفور وعلانية.
وبالمثل، قامت دار نشر "أكسل سبرينغر" بفصل صحافي مبتدئ لأنه أثار أسئلة بشأن سياسات الناشر المؤيدة لـ "إسرائيل"، كما أُوقف فريق كرة القدم الألماني، "ماينز 05"، أحد لاعبيه فوراً (ثم أنهى عقده لاحقاً) بسبب نشره في موقع إنستغرام عبارة "من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة". ومع أنه أقدم على حذفها، لكن ذلك لم يشفع له.
الطامة الكبرى أن هذه الإجراءات قد تكون عادية، أمام ما شهدته ولاية شليسفيغ هولشتاين الشمالية، بحيث اضطرت وزيرة الدولة للشؤون الاجتماعية إلى تعليق مهماتها بسبب مشاركتها في منشور يَدين كلاً من حماس والاحتلال الإسرائيلي.
المشهد الثقافي الألماني وفلسطين
انعكس هوس برلين في التكفير عن عقدة الذنب التاريخية المزعومة تجاه اليهود، على كافة القطاعات في هذا البلد، وخصوصاً الأكاديمية منها، المعقل المفترض لحرية التعبير. وظهر هذا الأمر عندما طرد معهد "ماكس بلانك" عالم الأنثروبولوجيا الشهير غسان الحاج، في شباط/فبراير الماضي.
صحيح أن هذا التحول غير الليبرالي، والذي هز المشهد الثقافي الألماني، لم يضع فقط المهن الفردية في دائرة الخطر، بل امتدّ أيضاً إلى المؤسسات الثقافية بأكملها، والتي أضحت مهدَّدة بقطع التمويل عنها، في حال مست "اسرائيل".
طوال الأشهر الماضية، عانى المغنون والفنانون والناشرون والناشطون والأكاديميون ومنسقو الأغاني (وجلهم من المناهضين لحرب غزة) إجراءات تعسفية بحقهم، شملت إلغاء عروضهم ونشاطاتهم ومعارضهم في المتاحف، بالإضافة إلى حرمانهم من إطلاق كتبهم الشعرية ومؤتمراتهم، أو تم سحب مقابلاتهم. والمثير أن بعضهم لم يواجه أي اتهامات محددة على الإطلاق، كما حدث بعد أن تم تأجيل حفل توزيع جائزة الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، والذي كانت مقرَّرة إقامته في معرض فرانكفورت للكتاب، إلى أجَل غير مسمى.
وفي السياق ذاته، تم إلغاء معرض "بينالي 2024 " للتصوير المعاصر، في منطقة مثلث الراين ونيكار، بالكامل، بعد اعترض المجلس على نشاط أحد القيمين عليه، وتضامنه مع غزة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
واستقال جميع أعضاء اللجنة البحثية للنسخة القادمة من دوكومنتا (معرض كبير للفن المعاصر يقام في مدينة كاسل المركزية كل خمسة أعوام) احتجاجا على إجبار أحد زملائهم على الاستقالة عندما اتهمته صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" بمعاداة السامية بسبب توقيعه عريضة عام 2019، تقول إن قرار البرلمان الألماني المناهض لحركة المقاطعة لـ "اسرائيل"، والذي فرض العقوبات عليها، يشكل انتهاكاً للقانون الدولي.
في المحصّلة، من المفارقات العجيبة في ألمانيا أن هناك شريحة من الطيف السياسي في البلاد تتماهى مع اليمين المتطرف الصاعد، ومستعدة لقبول مثل هذه التدخلات الاستبدادية، كرمى لعيني "إسرائيل"، ولاسيما عندما تستهدف الغرباء كالمسلمين وغيرهم من دول الجنوب العالمي. ولهذه الغاية، نفذت الحكومة الألمانية في الأشهر الأخيرة "حملة ترحيل" لعدد من هؤلاء الغرباء، في استجابة ظاهرية لدعاية اليمين الشعبوي الدائمة ضد المهاجرين في البلاد. أما أحد مبرراتها فكان شبح "معاداة السامية المستوردة".
علي دربج - أستاذ جامعي.