مصير أوكرانيا.. صورة جديدة لأوروبا والعالم
مقالة مستشار الرئاسة الروسية، السفير المفوض فوق العادة ألكسندر كرامارينكو، تعالج اتجاهات العملية العسكرية الروسية الخاصة، ومصير أوكرانيا، وأي صورة ستكون لأوروبا والعالم بعدها.
من المنطقي أن نفترض أن أهداف العملية العسكرية الخاصة، والتي أعلنتها موسكو، تقود إلى تفكيك أوكرانيا داخل حدودها السوفياتية. وهو هدف متواضع، وخالٍ من العمق التاريخي، وآخر معالم الإرث الخطير لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية؛ أي المشهد الأخير في تفككه. وينطبق الأمر على دول، مثل بولندا وليتوانيا، التي احتفظت بالحدود الستالينية (على حساب ألمانيا)، وباتت هذه الحدود مادة لتصعيد الصراع الحالي. أوكرانيا السابقة لن تكون موجودة بعد الآن. في الواقع، لم يعد لها وجود مع انقلاب شباط/فبراير 2014، الذي دمر الانسجام داخل المجتمع الأوكراني. سوف تتحطم صورتها القومية العدوانية التي قادتها إلى النازية الفاضحة.
إن قصة مقاتلي "آزوف" في ماريوبل، والذين رفضوا "الاستبسال حتى الموت"، وحاولوا إقناع موسكو بـ "السماح لهم بالرحيل" من خلال أطراف ثالثة، ثم استسلموا في نهاية المطاف، هي تأكيد واضح، مفاده أن أوكرانيا دولة بلا مستقبل، إذ لا يوجد من هو على استعداد للموت من أجلها. إن سلوك هؤلاء المقاتلين وسَجنهم أنفسهم في آزوفستال، بدلاً من القتال (وكانت لديهم سيطرة على المدينة التي احتلوها، وفي إمكانهم المحافظة على بنيانها، إلّا أنهم لم يشعروا بالأسف عليها)، في الواقع، يَنزعان شرعية سلطات كييف، إذ كان من الممكن أن يشكل "الاستبسال حتى الموت" حجة لمصلحة استمرار وجود الدولة في شكلها الحالي.
من الواضح أن النازيين الأوكرانيين لا ينتمون إلى القوات الهتلرية الخاصة، أو الألمان الذين ارتبطت تجربة النازية بهم عضوياً، لأنها نابعة من التاريخ السابق للحضارة الغربية (من الناحية المثالية، تندرج ضمن تعريف سبنغلر بشأن "رحلة روح فاوستين في الفضاء اللامتناهي"، والذي توجب على روسيا تثبيته مرة أخرى). بالنسبة إلى الأوكرانيين، الذين لديهم تاريخ مُغاير وتجربة دولة مشكوك فيها (تجدر الإشارة إلى أن الألمان لديهم أيضاً تجربة غير مقنعة بسبب التوحيد القسري لألمانيا تحت وطأة "الحديد والدم")، استوردوا هذه الهوية من الخارج: أولاً، من فيينا في غاليسيا، ثم على أيدي الألمان، والآن على أيدي الأميركيين. وهو أمر مصطنع للغاية.
كانت النتيجة مهزلة، وإن كانت دموية، مع أوشام وخطابات حادة وتقديس للموت (ليس موتهم، بل موت الآخرين). حتى نيتشه لن يحكّه جلده في قبره. لم يظهر رجل خارق بينهم، ولا طبقة أسياد تهيمن على "عبيد موسكو".. لا مشهد ستالينغراد، ولا الحراس الفرنسيون في واترلو. تبين أنهم من مادة فاسدة، كذلك هي تجاربهم الأولى مع الديمقراطية الغربية ومحاربة الفساد (كانت اتفاقيات مينسك والفيدرالية بمنزلة الاختبار الأمثل لاتجاههم نحو أوروبا، ومُنحت هذه الفرصة لكييف من جانب موسكو بدعم من برلين وباريس!)... لقد استغرق استئصال واشنطن لها، من وجهة نظر "الاستراتيجية الروسية"، وقتاً طويلاً. من هنا نبع الانجذاب إلى النازية والعسكرة. في الواقع، ما الذي يمكن للنخب الأميركية أن تقدمه، باستثناء السماح بأداء لعبة "حصرية"، على الرغم من أن الأداء جاء سخيفاً.
لذلك، فإن النهاية هي مسألة وقت مع تزايد أعداد الضحايا والدمار. ستضع تجربة ماريوبل ومدن الدونباس القوات المسلحة لأوكرانيا وتشكيلات الدفاع الإقليمية أمام خيار بسيط: إمّا الاستسلام وإمّا التهديد بتدمير بنيتهم. يمكن اعتبار سلوك الحرب ذاته، التي كانوا يستعدون لها طوال ثمانية أعوام كاملة، إجرامياً بحق شعبهم. إذ يتعاملون مع المجندين كعَلَف للمدافع، ويهرب ضباطهم تاركين الوحدات مع أوامر بالصمود حتى النهاية...
لم تعد الدول الغربية تُخفي مشاركتها في الصراع المسلح في أوكرانيا. لذلك، فإن هزيمة سلطات كييف ستكون هزيمتها. وبالتالي، لديها رغبة في تأجيل هذا الواقع إلى أقصى حد ممكن، والمراهنة على انتصار كييف في ساحة المعركة. ويتعارض هذا مع تحذير هنري كيسنجر في دافوس من "العواقب الوخيمة" لإطالة أمد الصراع بالنسبة إلى الغرب نفسه. في ضوء مشاركة أربع قوى نووية في الصراع، يمكننا أيضاً التحدث عن الحرب العالمية الثالثة. والتطور اللاحق للأحداث، بما في ذلك استخدام كل من الأطراف إمكانات التصعيد الخاصة به، هو ما سيمكّننا من الحكم على معايير التحول في السياستين الأوروبية والعالمية.
هذا البعد الأوسع للصراع ذو طبيعة هجينة. أي حرب أخرى يغلب عليها الطابع المالي والاقتصادي والإعلامي. سيكون عامل الوقت ذا أهمية كبيرة في تقييم قدرة كل من الأطراف على تحمُّل المصاعب والخسائر بسبب إجراءات الخصم. مع انخراط الغرب في الحرب، من الواضح ما يجب توقعه في المستقبل القريب. من الممكن الانسحاب بصورة استباقية من أسواق الطاقة لتعويض الخسائر، عن طريق زيادة أسعار السلع والمواد الخام...
صورة جديدة لأوروبا والعالم
تعرض العملية العسكرية الروسية الخاصة صورة جديدة لأوروبا والعالم، وصولاً إلى لحظة الحقيقة. وهذا ناتج من سياسة الغرب العدوانية تجاه روسيا، مع إصراره على حصرية المؤسسات المتعددة الأطراف والخاضعة لسيطرته في تنفيذ هذه السياسة. يجب أن نتوقع تطهير الجو الأوروبي من جميع أشكال الخوف من روسيا، والعواقب الأخرى الناتجة من المحاولة الحالية لإضفاء النازية على أوروبا، وخصوصاً أن رهاب روسيا كان دائماً في قلب مثل هذه التجارب الغربية. يتناول دوستويفسكي، ولاسيما في أسطورة المحقق الكبير، حقيقة الأدب والثقافة الروسيَّين، فمن دونهما يغدو إضفاء الطابع الإنساني على القارة أمراً مستحيلاً حتى في الظروف التاريخية الجديدة. الناتو والاتحاد الأوروبي ينتظران التهميش والتفكيك الجزئيَّين نتيجة "الإرهاق الإمبراطوري". ستُستعاد مساحة الحياد المتقلصة وتتوسع. في غضون ذلك، سيتعامل الناخبون الأميركيون والألمان مع حكومتيهم (وهو ما بدأ في أستراليا والمملكة المتحدة وألمانيا، على مستويات متباينة).
أما بالنسبة إلى الألمان ونزعتهم الازدرائية "الفلستية"، فقد اتضح أنهم يبتعدون خطوة واحدة عن النازية، كما عبّر أولاف شولتز عن أن العملية العسكرية الروسية الخاصة تُعفي الألمان من الذنب التاريخي بسبب العدوان النازي. ووصف دوستويفسكي في "الشياطين" انطباعاته عن زهو الألمان بالنصر بعد أن هزم البروسيون الفرنسيين، والشمبانيا والرهائن.
سيقتنع الجميع بأن أفضل طريقة لضمان أمنهم هي طريقة طبيعية وواقعية وخالية من أي علاقات أيديولوجية بين الدول ذات السيادة، بما في ذلك مع روسيا. ينطبق هذا أيضاً على الولايات المتحدة بعد مراجعة جذرية لبنيتها العسكرية بأكملها، والتي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تصمم لإجراء عمليات قتالية مع عدو له القوة نفسها والمعدات التكنولوجية، وفي جبهتين في الوقت عينه. لقد انتهى زمن "السفاري" الأميركي، ولن يرغب أحد في احتمالية محاربة الروس والصينيين في آن معاً. ولّى زمن مجموعات حاملات الطائرات الضاربة وبات من الماضي... إن محاولة الحرب في جبهتين ستؤدي إلى الهزيمة في كلتا الجبهتين (انظر تجربة ألمانيا في حربين عالميتين). ولا يستطيع الأميركيون الاتفاق مع بكين من دوننا. إجمالاً، سيؤثر ذلك فيما كان يُطلق عليه سابقاً سياسات القوى العظمى وتوازن القوى. أخيراً سيُصغون إلى ما قاله كيسنجر.. وسيكون هناك تهميش متصاعد للغرب في السياسة العالمية مع زيادة حادة في تأثير البلدان الأخرى، ولاسيما المناطق الرائدة التي ستستثمر مواردها بعيداً عن النفوذ الدولي. سيتكثف الاتجاه نحو أقلمة السياسة العالمية وإعادة صياغة العولمة على أساس جماعي حقيقي مع مراعاة التوازن الجديد للقوى. لقد وفّر الغرب المسرح الأوكراني لكل هذا المشهد. ألم يكن في إمكانه الإبداع وخلق مشهد أفضل؟
أخيراً، فيما يتعلق بما سيحدث في هذين العامين ونصف العام في أوكرانيا، وبعلاقاتنا بالغرب، فالعبارة الموسيقية الشهيرة في السيمفونية الأربعين لموزارت يبدو أنها تجسد المشهد بصورة جيدة: جولتان من التصعيد/ القواعد الاستراتيجية للعبة (واحدة حدثت فعلاً) وانتقال قوي ومبهر إلى الخاتمة.
المقالة// حرب واحدة، خروج واحد، وأربعة مصائر ونصف، ألكسندر كرامارينكو/ المجلس الروسي للشؤون الدولية. نقله إلى العربية عماد الدين رائف