"Znetwork": صدّ الانحدار أم السقوط في الهاوية؟

يعتقد المجتمع الأميركي أنّ فوز دونالد ترامب الانتخابي، جاء لصدّ تراجع ازدهار الإمبراطورية الأميركية الذي شهدته طوال القرن 20، لكن لا شكّ أنّ هذا فهم يائس.

  • "Znetwork": الأميركيون لجأوا إلى انتخاب رئيس دِينَ من جانب القانون الجنائي الأميركي

موقع "Znetwork" ينشر مقالاً للكاتب بوافينتورا دي سوزا سانتوس، يتحدث فيه عما إذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيصدَ الانحدار الذي تشهده الإمبراطورية الأميركية، أو سيُسقط الولايات المتحدة في الهاوية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

يعتقد المجتمع الأميركي أنّ فوز دونالد ترامب الانتخابي، جاء لصدّ تراجع ازدهار الإمبراطورية الأميركية الذي شهدته طوال القرن الـ20، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. لا شكّ في أنّه فهم يائس، لأنّ الأميركيين لجأوا إلى انتخاب رئيس دِينَ من القانون الجنائي الأميركي، وكان أداؤه سيّئاً للغاية خلال جائحة كورونا (1.2 مليون حالة وفاة كان يمكن تجنّب مُعظمها)، وحرّض على اقتحام مبنى الكابيتول، وأعلن صراحة أنّه على استعداد للقضاء على جوهر الديمقراطية الأميركية، في مقابل وعد ترامب بأنّ كلّ شيء سيعود إلى ما كان عليه من قبل.

الإمبراطوريّات كلّها في التاريخ تدهورت بعد صعود، وتراجعت في الاقتصاد والسياسة والثقافة. بناءً على هذا تظهر لفتة الأميركيين في هذا الأمر، مُحاولة لفعل شيء لوقف الانحدار، بعد أن قام الأعداء الخارجيّون بالانقلاب النهائي. ومن الصعب تحديد الأسباب التي تُؤدّي إلى تراجع الإمبراطوريات وكيف يبدأ ومتى ينتهي. على سبيل المثال، بدأت الإمبراطورية الرومانية في التقهقر بعد وفاة ماركوس أوريليوس في عام 180، واستغرق انهيارها الكامل بعد ذلك نحو 3 قرون. مع ذلك يجب تجنّب التعميمات الواسعة بشأن هذا الموضوع، الذي يميل إلى الحتميّات، ولا يأبه بالحساسيّات الخاصة والطارئة لكلّ حالة. ويمكن تخيّل أنّ المؤرّخين في المستقبل لن يقلقوا بشأن تراجع الإمبراطورية الأميركية بقدر قلقهم لمعرفة المدّة التي نجت منها من تنبّؤات انطلاق قطار انحدارها.

والانحدار المقصود هو الذي يُسْتخدم كخطاب وسلاح سياسيين للوصول إلى السلطة. كما هو شعار ترامب في الانتخابات "اجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى"، الذي يشير إلى أنّ الإمبراطورية لم تعد مزدهرة. وعليه، حصد التصويت الشعبي لأنّ هذا الخطاب مقنع في الولايات المتّحدة اليوم.

وقف الانحدار أو السقوط في الهاوية؟

الاستقطاب الاجتماعي، وتركيز الثروة في جهة من دون غيرها، وزيادة عدم المساواة، وتدهور مستوى النخب السياسية، وهيمنة تجارة النقد على رأس المال الإنتاجي، كلّ هذه تُعَدّ علامات على التراجع. فالانحدار عملية هيكلية، لكنّها مُوزّعة على مُختلف القطاعات، بحيث يمكن إيقافه في بعض الأحيان إذا استشعرت القوى المسؤولة عن التراجع ذلك.

في اليوم التالي لفوز ترامب، أعلن مؤشّر "بلومبرغ" للمليارديرات أنّ فوز دونالد ترامب ساهم، بين عشية وضحاها، في زيادة ثروات أغنى 10 أشخاص في العالم. ووفقاً للمؤشّر، اكتسبت هذه الثروات ما يقرب من 64 مليار دولار في ذلك اليوم وحده. وكانت هذه أكبر زيادة يومية تُسجّل مُنذ بدء المؤشّر في عام 2012. كما نمت ثروة إيلون ماسك، وهو أغنى رجل في العالم، أكثر من غيره بنسبة 10%، أي ما يعادل 26.5 مليار دولار، وهو أحد أكبر مؤيّدي حملة ترامب وموعود بمنصب في الحكومة المقبلة. كذلك، زادت ثروة جيف بيزوس، مالك "أمازون"، بأكثر من 3%، وهو ما يعني زيادة مقدارها 7 مليارات دولار. وبيل غيتس صاحب "مايكروسوفت"، حصد ارتفاعاً في ثروته بنسبة 1.2%، ووصلت إلى حدود 159 مليار دولار. وعلى المنوال عينه، حصّل لاري بيج وسيرغي برين مُؤسّسا "غوغول"، زيادة في ثروتيهما بنسبة 3.6%، حيث بلغت ثروة كلّ منهما نحو 150 ملياراً. 

كانت النشوة في عالم تُجّار عملة البيتكوين مظهراً ماليّاً مُتفائلاً. لكن، لو كان هؤلاء الأفراد من مُواطني دولة معادية للولايات المتّحدة، لوُصفوا فوراً بالأوليغارشيّين. في الواقع أنّ تركيز الثروة في جهة من دون غيرها، سيؤدّي إلى حمائية اقتصادية جديدة ذات عواقب لا يمكن التنبّؤ بها، وسوف تعمّق أزمة التعايش الديمقراطي. وإذا كان خطر الفاشية حقيقياً في انتخاب ترامب، كما زعمت مراراً حملة كامالا هاريس الانتخابية، فلماذا يُدلي جو بايدن الآن بتصريحات تضمن الانتقال السلمي للسلطة إلى ترامب، وهل هذه بادرة ديمقراطية لديمقراطية على حافّة الهاوية؟

ديمقراطية أم نوع جديد من الأوليغارشية؟

بالطبع، لم يفز ترامب في الانتخابات بتصويت كبار رجال الأعمال، بل بأصوات الشعب الأميركي، وخصوصاً الضعفاء الذين تدهور مُسْتوى معيشتهم خلال الأعوام الأربعة الماضية، وخصوصاً بعد أن تمّ حَظر الأجندة الاجتماعية للرئيس بايدن في الكونغرس، وأصبحت الحرب في أوكرانيا استثماراً رئيساً لإدارته. لقد تخلّى "الحزب الديمقراطي" مُنذ فترة طويلة عن الطبقات العاملة، وهو ما عرضها لانخفاض مُستويات المعيشة، والتضخّم في أسعار السلع الأساسية وزيادة الاستغلال. وليس من المستغرب أن تتخلّى شرائح واسعة عن الديمقراطيين وحزبهم الآن. ففي انتخابات العام 2020، خسر الحزب المذكور 10 ملايين صوت، وحصل فقط على أصوات بين الطبقات العليا. واليوم فقد أكثر من الأصوات من جيل الشبان الغاضبين من تواطؤ الولايات المتّحدة في الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزّة.

لكن، كيف يمكن أن تكون الفئات الاجتماعية، التي ستعاني في النهاية أكثر من غيرها تفاقم تركيز الثروة، صوتت لصالح ترامب؟ مع أنّ أحد الشروط الأساسية لعمل الديمقراطية الليبرالية هو أن يكون المواطنون على دراية جيّدة بكلّ تفاصيل الشأن العامّ، وما التدهور الحاصل هنا سوى امتداد لتدهور مُشابه في جميع أنحاء العالم وسط انتشار الأخبار المزيّفة وخطاب الكراهية، الذي يجعل الجمهور الأميركي الأكثر إغفالاً في العالم.

لكن، قد يكون هذا مُجرّد أحد الأسباب. وتظهر استطلاعات الرأي العامّ باستمرار أنّ مُواطني الولايات المتّحدة يُؤيّدون السياسات الاجتماعية التقدّمية، من توسيع الخدمات الطبية بأسعار معقولة، والحقّ في السكن، والسيطرة على تضخم السلع الأساسية وزيادة الضرائب التي يدفعها الأغنياء. ومع ذلك، ركّز الحزب الديمقراطي حملته الانتخابية على خطر الفاشية وردّ الفعل العنيف ضد سياسات الهويتين العرقية والجنسية. بدا هذا تكتيكاً معقولاً بالنظر إلى عنصرية ترامب وكراهية النساء خلال حملته الانتخابية. والحقيقة هي أنّ كلّ هذا بدا تجريديّاً للغاية بالنسبة إلى 75% من الناخبين الذين صرّحوا في استطلاعات الرأي عن مواجهتهم لصعوبات مالية، ولم تفز حجّة الديمقراطيين إلّا بجذب أصوات من الطبقات الاجتماعية الثريّة.

هذا يُذكّرنا بالتحليل الذي أجراه عُلماء السياسة الأميركيون في سبعينيّات القرن الفائت وثمانينياته، بشأن الرهانات المنخفضة التي وضعتها دول أميركا اللاتينية على الديمقراطية، وإبدالها بسهولة بشكل من الاستبدادية التي وعدت بتحسين الظروف المعيشية للمصوّتين في الانتخابات. ربّما يجب إعادة النظر في هذه التحليلات، لكنّ تطبيقها الآن جارٍ على الشعب الأميركي، الذي يظهرُ بغالبيّته غير قادر على أيّ تأثير في إدارة الحياة السياسية. وفي كتابه الجديد، يُجادل الأستاذ في جامعة أكسفورد جو فويراكر، في أنّ الأوليغارشية في الأميركيتين من حكومة دستورية منتخبة إلى حكومة أوليغارشية غير منتخبة لا تخضع للمساءلة فعلِيّا أمام أيّ جهة، وفي كلا الحالتين   اليوم لا يُستخدم الفساد أو إعانات الدولة أو قروض الدولة، بل إنّها بِبساطة تسيطر على السلطة السياسية بحيث يكون النظام الضريبي والهيكل التنظيمي الاقتصادي يخدم مصالحهم. وبعبارة أخرى، فإنهم يتلاعبون بالسلطة السياسية من أجل تشويه الأسواق أو منع الدولة من إصلاحها. وتنتمي الغالبية العظمى من أعضاء الكونغرس الأميركي إلى طبقة الأثرياء الكبار الذين يشكّلونَ 1% فقط من تعداد السكّان.

على هذا، ربّما كان التصويت لصالح ترامب تصويتاً احتجاجيّاً. وهو تصويت حقيقي، ولكنّ مصيره الفشل. أو أنّه تصويت احتجاجيّ محكوم عليه ألا ينجح، مع أنّ ترامب أعلن بالفعل عن المزيد من التخفيضات الضريبية، والمزيد من تحرير الاقتصاد، وزيادة إنتاج الطاقة الأحفورية أيضا.

يكشف تحليل مشروع "الوعد المحافظ" الذي نشرته "مُؤسّسة التراث" الأميركية في عام 2023، عمّا يمكن أن يحدث في السنوات المقبلة، سواء في الولايات المتّحدة أو في العالم بالتأثّر بالسياسات الأميركية، وتُركّز السلطة في شخص الرئيس، ويعتمد المشروع على الأفكار التالية، في "استعادة الأسرة كمحور للحياة الأميركية وحماية الأطفال، وإعادة الحكم الذاتي إلى الشعب الأميركي والدفاع عن سيادة الأمّة وحدودها وخيراتها ضدّ التهديدات العالمية، وتأمين الحقوق الفردية التي منحها الله للعيش بحرّيَّةٍ بِما يُسَمّيهِ دستورنا بركات الحرّية".

مع ذلك لا بدّ من تفسير أنّ الدفاع عن الحدود يعني ترحيل المهاجرين. وماذا يعني ذلك، سوى الآلاف من رجال الشرطة والجيش كي يبنوا ويحرسوا معسكرات الاعتقال، وهو مساو للقدح والذمّ ضدّ المعلّمين في المدارس والجامعات، الذين يعتبرهم ترامب أنّهم بغالبيّتهم العظمى من المتطرّفين اليساريّين أو الماركسيين أو حتى الشيوعيين، سيجبر المدرّسون على تعليم الطلّاب حبَّ بلدهم وعدم كرهه.

ترامب والعالم

كلّ ما يحدث في داخل الولايات المتّحدة له تداعيات في الساحات الدولية، ويُرجّح أن يكون لفوز ترامب تأثيرات عالمية بالغة، من تسريع التطهير العرقي الجاري في فلسطين من أجل تعزيز "إسرائيل" كرأس حربة استعمارية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي منطقة شكّلت تاريخياً الفضاء الجيوسياسي للعلاقات بين الشرق والغرب، باعتبارها الحرس المتقدّمَ للإمبراطورية في منطقة استراتيجية، حيث سيكون لإسرائيل حقّ النقض "الفيتو" على سياسة الولايات المتّحدة في المنطقة. ووفقاً لهذه الاستراتيجية، فإنّ إيران أكثر أهمّية من الناحية الجيوسياسية من أوكرانيا سلّة خبز أوروبا حيث، حوالي 30% من الأراضي هي بالفعل في أيدي الشركات المتعدّدة الجنسيّات وتابعة لـ "بلاك روك" أكبر صندوق استثماري في العالم.

كلّ ذلك، يُؤدّي إلى تأجّج المواجهة الأميركية مع الصين، ولكن ما إذا كان هذا يزيد أو يُقلّل من احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة أمر غير معروف حاليّاً. وكلّ شيء سيعتمد على استراتيجية الصين التي تعتبر أنّ 4 سنوات جديدة من الترامبية بالنسبة لها أكثر من دقيقة واحدة في حياة الصين الطويلة. وإذا خاضت الحرب، فقد تكون بوسائل مختلفة تماماً عن الحروب السابقة، والآن بعد أن حكم اليمين المتطرّف "أكبر ديمقراطية في العالم"، سوف تتعزّز الجهود والوسائل الأميركية لوقف تقدم مجموعة البريكس، ودعم  قوى اليمين المتطرّف في جميع أنحاء العالم.

البريكس وحصان طروادة

من خلال استخدام حقّ النقض ضدّ دخول فنزويلا إلى مجموعة البريكس، والذي ربّما كان العمل الأخرق الكبير للدبلوماسية البرازيلية في العقود الأخيرة، حيث أظهرت البرازيل نفسها كحصان طروادة لمجموعة البريكس، وكإسفين للإمبريالية الأميركية في قلب مُبادرة سعت إلى أن تكون بديلاً عنها. والنفط لا يزال يقول كلّ شيء تقريباً، وإذا انضمّت فنزويلا إلى بريكس في المستقبل سيتمّ إنتاج 6 براميل نفط من كلّ 10 براميل التي تنتج يوميا في العالم من قبل المجموعة. والبرازيل ليست وحدها في هذه السياسة، حيث تحاول الهند، وإن كان ذلك بتكتّم أكثر، تأخير ترسيخ المجموعة، فكما البرازيل قريبة جدا من الولايات المتّحدة، الهند قريبة جدا من الصين.

ومن المشروع الاعتقاد بأنّ البرازيل بتصرّفها على هذا النحو، تُحاول إعادة تأسيس سياسة عدم الانحياز التي انبثقت عن مؤتمر "باندونغ" في عام 1961. المشكلة هي أنّ عدم الانحياز الأصلي كان في الماضي بين دول الاشتراكية السوفييتية والرأسمالية الغربية، في حين أنّ عدم الانحياز المطلوب الآن سيكون بين نسختين من الرأسمالية، واحدة بقيادة الصين الإمبراطورية الناشئة، والأخرى بقيادة الولايات المتّحدة الإمبراطورية المتدهورة. ويظهر تاريخ الرأسمالية أنّه بين نسختين من الرأسمالية لا تُوجد بدائل، بل صراع وحشي يُمكن أن يشهد فتراتٍ متنوعة من الهدنة أحيانا.

يُشير السياق التاريخي أيضاً إلى أنّ فترات الهدنة ستصبح أقصر، إذا ما وضعنا في الاعتبار التاريخ الحديث المحزن لأوروبا، التي بنت بعد الحرب العالمية الثانية، نسختها من الرأسمالية الديمقراطية مع بعد اجتماعي، وقدّمتها كبديل للرأسمالية الليبرالية الأميركية. حدثت ظواهر مُماثلة في اليابان وكوريا الجنوبية. لكنّها كانت قابلة للتطبيق فقط طالما أنّها تخدم أو لا تُعيق مصالح الرأسمالية الأميركية. وفي اللحظة التي لم يعد فيها هذا هو الحال، دخلت هذه البدائل في أزمة، وفي حالة أوروبا، كانت الحرب في أوكرانيا هي انقلاب النعمة إلى نقمة، ولأجل وقف انحدار الرأسمالية الأميركية، التي فرضت على أوروبا أن تدعم خطّتها بشكل تامّ لمواجهة الصين من خلال إضعاف حليفتها الأقوى روسيا. ومضت أوروبا سويّاً مع الويات المتّحدة، وجعلت من نموذجها الديمقراطي الاجتماعي بلا مصداقية، وحوّلت الأموال المخصّصة سابقا للسياسات الاجتماعية نحو تمويل الحروب، وتوقّفت عن شراء الغاز والنفط الرخيص من روسيا، لأجل شرائهما بتكلفة مُضاعفة مرّات من الولايات المتّحدة. كذلك جعلت الحرب الدعائية الزعماء المتواضعين الذين يحكمون أوروبا، يعتقدون أنّه بمجرّد أن تصبح أوروبا أكثر تحالفا مع الولايات المتّحدة، فإنّها ستكون أقوى وأكثر أمانا.

إنّ فوز ترامب وسحب الاستثمارات من "الناتو" والحمائية الاقتصادية التي يُعلن عنها، تظهر بقسوة أنّ أوروبا ستقف قريباً في وسط ساحة العالم عارية وغبية، مُتسائلة كيف كان كلّ هذا ممكناً. ربّما ستعود إلى كونها كما كانت حتّى القرن الـ 15 ركناً ضئيلاً من أوراسيا، وبعيدة الآن عن روسيا كما هو الحال دائما مع الولايات المتّحدة الأميركية، التي يُعتبر ترامب أحد أكبر أعراض أزمتها.

نقله إلى العربية: حسين قطايا