"لو موند دبلوماتيك": هل فات الأوان على لقاء بين فرنسا والجنوب العالمي؟
في الوقت الذي ينقسم فيه العالم إلى مراكز قوى، تكافح باريس من أجل العثور على مكانتها.
نشرت صحيفة "لو موند دبلوماتيك" مقالاً لجون دو غلينياستي، وهو سفير فرنسا السابق لدى موسكو (2009-2013)، ومدير الأبحاث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS)، ومؤلف كتاب "فرنسا، دبلوماسية مشوشة"، تحدث فيه عن تراجع قيم الغرب وخاصة خلال الحرب على غزة، وفشل سياسة العقوبات التي يعتمدها، وموقف فرنسا السياسي حيال هذه الصراعات.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
بعد أن أمضت فرنسا سنوات تعزز فيها سياستها الخارجية المستقلة، ها هي اليوم تواصل اصطفافها إلى جانب بقية الدول الغربية. فالصراعات في أوكرانيا وغزة تكاد لا تميّزها عن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى. لكنّ عمليات إعادة الهيكلة الجيوسياسية الجارية وتأكيد مكانة بلدان الجنوب من شأنها أن تبرّر البحث من جديد عن نهج "ديغول-ميتران".
فالتأثير الأخلاقي والفكري والنفوذ الاقتصادي والقوة العسكرية، كلها عوامل جاذبة لخدمة مصالح القوى المهيمنة من دون تكبّد أي عناء. هو النهج الذي اتبعه العالم الغربي، بل وأساء استغلاله في بعض الأحيان، ولا شك أنّ الولايات المتحدة كانت في المقدمة في هذا السياق. وفي وقت استفاد الاتحاد السوفياتي طويلًا من نفوذ أيديولوجي حقيقي، مدعوماً بعقيدة تحررية وقوة عسكرية تستند إلى ترسانته النووية، صنّفت الدول الغربية حرياتها بالنظامية واقتصادها بالرأسمالي وسياستها الخارجية بالإمبريالية.
وقد تجسد التغيير في ميزان القوى لصالح الغرب من خلال اتفاقيات هلسنكي في عام 1975، التي وقعها الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا. فأكدت الوثيقة الختامية حرمة الحدود (وليس عدم حرمتها كما أراد السوفيات، الراغبون في استبعاد أي تعديل، حتى لو تمّ عن طريق التفاوض أو تقريره بصورة ديمقراطية)، ودعت إلى التعاون الاقتصادي، الضروري للاتحاد السوفياتي، وقبل كل شيء إلى حرية تداول الأفكار والمعلومات والأشخاص ("السلة الثالثة" الشهيرة). وكانت هذه المعاهدة بمنزلة بداية نهاية الاتحاد السوفياتي، مع تلاشي شرعيته الأيديولوجية تدريجياً وضعف قوته الاقتصادية حتى سقوط جدار برلين.
إنّ ما يحدث اليوم في أوكرانيا وغزة يعكس التحول في ميزان القوى نفسه، الذي بدأ قبل الأحداث نفسها في وقت طويل، والذي يمكن اعتباره نقطة تحوّل تاريخية وهو يتمثل في فقدان سطوة العالم الغربي على المستويات العسكرية والاقتصادية والأخلاقية (القِيم).
ففي عام 1953، انتهت الحرب الكورية من دون تحقيق أيّ نصر؛ في حين تعرّض الغرب للهزيمة في أغلب الحروب التي خاضها ضد دول الجنوب منذ عام 1945 (فيتنام، وأفغانستان، وسواهما)؛ وحتى عندما حقق انتصارات (العراق في عام 2003، وليبيا في عام 2011، وغيرهما)، أدت تدخلاته العشوائية إلى إحداث فوضى عارمة. ولم ينجح سوى عدد قليل من عمليات "الشرطة" (جمهورية الدومينيكان في عام 1965، وبنما في عام 1989، وغيرهما) أو المهمات التي تتمتع بشرعية دولية واسعة النطاق، والتي غالباً ما تتحقق بموجب قرارات الأمم المتحدة، مثل حرب الخليج الأولى بين عامي 1990-1991. وقد شكّل الشعور بالقدرة الغربية المطلقة القاسم المشترك بين هذه الحروب مختلفة الدوافع (مكافحة الإرهاب أو تهريب المخدرات، أو التدخل لأسباب إنسانية، أو حتى الاعتبارات الجيواستراتيجية). وكل منها قاد الحكومات الغربية إلى التفاوض على رحيلها بعد سنوات قليلة، عندما ارتأت أنّ هذه العمليات لم تعد "قابلة للاستمرار" في ظل عدم تحقيق انتصارات حقيقية. ومن المؤكد أنّ انسحاب القوات الأميركية، الذي كان بمنزلة كارثة في بعض الأحيان، كما حدث في فيتنام عام 1975 أو في كابول عام 2021، جاء نتيجة قرارات سياسية مستندة إلى اعتبارات تتعلق بالميزانية أو الانتخابات، ولكنه كان يعني في المقام الأول استحالة تحقيق نصر.
وتوضح الأحداث الأخيرة استمرار هذا التحول في ميزان القوى. فلا يمكن التصدي لتعطيل اليمنيين الملاحة في البحر الأحمر . ومع استبعاد أي تدخل بري في اليمن، الذي عانى حرباً استمرت عشر سنوات، يسعى الغرب للحدّ من الأضرار عن طريق نشر أجهزة مضادة للصواريخ تحملها أساطيله المُبحرة في البحر الأحمر. وفي ظلّ مواجهة المحاربين اليمنيين المجهزين بالصواريخ والطائرات المسيّرة، يبقى تأثير القوة التكنولوجية والعسكرية للبريطانيين والأميركيين على مسار الأحداث عقيماً. إنّ وقف إطلاق النار في غزة، وهو الشرط السياسي الذي فرضه اليمنيون، وحده القادر على وضع حد لهذه الزعزعة العميقة للاستقرار. فقد ولّى الزمن الذي كان الغرب يستطيع فيه التدخل بسهولة والانسحاب بعد ذلك، باعتبار أنّ التقنيات العسكرية، ومن ضمنها الطائرات المُسيّرة الإيرانية أو التركية، باتت في متناول عدد من بلدان الجنوب.
عدم فعالية العقوبات
الغرب في صدد خسارته معركة القيم. فإذا كانت وجهات النظر السائدة في الجنوب قد أصيبت بصدمة من جرّاء عملية حركة حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإن كانت الهند واحدة من الدول النادرة التي أعربت عن تعاطفها مع "إسرائيل"، فإن اهتمامها سرعان ما تركز على القصف واسع النطاق الذي يتعرّض له قطاع غزّة. فقد طغى مشهد الضحايا في غزة البالغ عددهم 34,000، 70% منهم من النساء والأطفال، وعلامات المجاعة والأوبئة والعقبات المفروضة على المساعدات الإنسانية والتدمير المنهجي للمباني التراثية، على مسألة الرهائن؛ وفي المقابل، تسعى "إسرائيل" جاهدة لمواصلة هجومها. ومن المؤكد أنّ الموقف الدبلوماسي الأميركي قد تطور داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ فالضغط الذي مارسه الناخبون الديمقراطيون وبعض الأنظمة العربية القلقة على استقرارها، بالإضافة إلى العنف السائد وحق النقض (الفيتو) على وقف إطلاق النار، أفسح المجال أمام اقتراح هدنة بسيطة (عرقله كل من روسيا والصين)، للتصديق أخيراً، عن طريق الامتناع عن التصويت، على القرار الصادر في 25 آذار/ مارس 2024، الذي يقضي بوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، ما أثار خيبة أمل "إسرائيل". وقد أظهرت بعض المواقف توافر عوامل متعددة تفسر هذا التحول، لكنها لم تغيّر الشعور بأن القيم الغربية في حالة تقلّب.
كما اعتُبرت أوامر محكمة العدل الدولية، التي استحصلت عليها دولة جنوب أفريقيا والتي تأمر "إسرائيل" بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، بمنزلة انتصار أخلاقي غير مسبوق لجنوب الكرة الأرضية ضد حليف رئيسيّ لواشنطن. في المقابل، فإنّ استمرار عمليات إرسال الأسلحة الأميركية إلى "إسرائيل"، والحذر النسبي الذي أبداه الأوروبيون ووسائل الإعلام الغربية فيما يتعلق بالوضع الإنساني للفلسطينيين أعطى مصداقية قاطعة لفكرة "المعايير المزدوجة". ونتيجة لذلك، باتت حقوق الإنسان التي يدرّسها الغرب أقل قبولاً يوماً بعد آخر، نظراً إلى عدم مساهمتها في تسريع وتيرة فقدان هيمنته الأخلاقية.
ولا يبدو الوضع أفضل على المستوى الاقتصادي. فلطالما تمكنت دول مجموعة السبع من فرض سيل من العقوبات على الدول التي لم تعجبها سياساتها، ومن بينها الصين وسوريا وفنزويلا وغيرها. ولا يزال الحصار الأميركي على كوبا قائماً بعد أكثر من ستة عقود، على الرغم من إدانته كل عام من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بإجماع من الدول الأعضاء تقريباً (في عام 2023، صوتت كلّ من الولايات المتحدة و"إسرائيل" ضد هذا القرار، في حين امتنعت أوكرانيا عن التصويت). وفي حال تم بالفعل اعتماد بعض القيود من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (العراق وإيران وكوريا الشمالية)، فإنّ تأثيرها السياسي لا وقع له، على عكس آثارها الاقتصادية، التي غالباً ما تكون كارثية على السكان.. بيد أنّ هذا ليست هي الحال مع ما يقرب من 15 ألف عقوبة فرضت على موسكو بعد غزوها أوكرانيا. وإذا لم تؤدّ هذه القوى، على الرغم من طبيعتها الضخمة والمنسقة، إلى تغيير النظام أو إلى إضعاف المجهود الحربي الروسي أو إلى تغيير في السياسة المتبعة، فإنّ عدم فعاليتها الاقتصادية هو الذي سيفاجئ الغربيين بالتأكيد. وخلافاً لكل التوقعات، عادت روسيا سريعاً إلى تسجيل معدل نمو، 3.6% في عام 2023 وفقاً لصندوق النقد الدولي، أعلى من نظيره في الولايات المتحدة، في حين دخل الاتحاد الأوروبي في حالة شبه ركود. بل وأكثر من ذلك، شهد متوسط دخل الفرد بالأرقام الحقيقية ارتفاعاً للمرة الأولى منذ عشر سنوات، واستؤنفت الاستثمارات وتم احتواء كلّ من التضخم والعجز.
ويعود هذا الأداء الجيد إلى اقتصاد الحرب وإلى العدد الكبير من دول الجنوب التي لا تشارك في نظام العقوبات. إذ لم تعد القوة التجارية والمالية والتكنولوجية حكراً على الغربيين؛ فقد عمدت روسيا إلى إعادة توجيه اقتصادها نحو الجنوب العالمي. ويتم التبادل التجاري حالياً بين روسيا والصين باليوان، وتحذو حذوهما دول أخرى. وقد أصبح من الممكن الآن استبدال آلية المدفوعات الدولية "Swift" بنظام المدفوعات الدولية الصيني (CIPS). بالإضافة إلى ذلك، أدّى تجميد نحو 300 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي الروسي المودعة في المؤسسات الغربية إلى دفع الكثير من الدول إلى الشروع في تنويع احتياطياتها الخاصة (الذهب والعملات المختلفة والرنمينبي، وحتى اليوان الرقمي المستخدم بشكل متزايد). هذا وتمثل مجموعة "بريكس" (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، وإثيوبيا، وإيران) 27% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وهي تعمل على إنشاء عملة محددة. وكما يتم إنشاء دوائر مالية جديدة على نحو لا رجعة فيه، على حساب الاحتكار الغربي.
ويبدو أنّ السياسة الخارجية الفرنسية، في الوقت الحالي، ستبقى غير متأثرة بنقطة التحول الرئيسة هذه في العلاقات الدولية. ففرنسا، المطوقة بآليات التضامن الغربية والأوروبية المتزايدة، لا تملك مجالاً كبيراً للمناورة. وعلى المستوى العسكري، أخذت مكانها في التحالف البحري المناهض لليمنيين (الذي يعمل تحت القيادة الفرنسية)، من دون الذهاب إلى حد قصف اليمن على غرار حلفائها البريطانيين والأميركيين. أمّا على المستوى السياسي، فإن الدعم العسكري لأوكرانيا يتجاوز الدعم الذي يقدمه شركاؤها مع عدم استبعاد إرسال قوات برية، وفقاً للرئيس إيمانويل ماكرون.
موقف يتجه ليصبح "مغربناً"
في دول الجنوب، وفي الدول العربية تحديداً، يصعب تمييز التفرد الفرنسي؛ وهو أمر أثار سخط عدد من الدبلوماسيين المتخصصين في الشرق الأوسط الذين عبّروا عن ذلك من خلال توجيه مذكرة إلى قياداتهم. فمن الناحية الاقتصادية، لا شيء يميز فرنسا عن سياسات العقوبات التي يمارسها الغربيون والأوروبيون. كما لم تكن قادرة أو راغبة في إنقاذ اتفاق 2015، الذي رفع القيود المفروضة على طهران مقابل وقف برنامجها العسكري النووي؛ وهو الاتفاق الذي ندد به الرئيس دونالد ترامب بصورة فردية. وعلى الرغم من التعبير العلني عن عدم موافقتها وندمها، فقد واصلت مضيّها في هذا الطريق. ولم تقم حتى بحماية أعمالها واستثماراتها في إيران وروسيا وأماكن أخرى من العقوبات الثانوية التي فرضتها الولايات المتحدة على الدول التي أرادت الامتثال للاتفاق. وفي مجلس الاتحاد الأوروبي، صوتت لصالح تدابير مستوحاة من النموذج الأميركي ضد شركات البلدان الثالثة التي تواصل الحفاظ على روابط غير عسكرية مع بلدان خاضعة للعقوبات.
وبعد الهجوم الإيراني الضخم على "إسرائيل"، رداً على استهداف قنصليتها في دمشق، بدت الدعوات الفرنسية للتهدئة موجهة بشكل خاصة ضد إيران، التي استدعى الوزير ستيفان سيجورني سفيرها. ومع ذلك، ترغب فرنسا، ولا سيّما في الفترة التي تسبق الانتخابات التي يمكن أن تُعيد ترامب إلى السلطة، في إسماع صوت معين على الساحة الدولية في حال فشلت في قيادة أوروبا. هذا وتحتفظ باريس بعلاقات جيدة مع بكين رغم الضغوط الأميركية وإحراج معظم حلفائها باستثناء ألمانيا. وخلال رحلة في نهاية آذار/ مارس 2024، عاود الرئيس ماكرون التواصل مع البرازيل، التي انتقدها في السابق بسبب رضاها عن موسكو.
وفي الوقت الذي ينقسم فيه العالم إلى مراكز قوى، تكافح باريس من أجل العثور على مكانتها. ويحدث كل شيء وكأن الحرب في أوكرانيا قد بلورت دبلوماسيتها على موقف "الغربنة"، وأبعدتها عن نهج "ديغول-ميتران". وباعتبار أنّ العالم يتغيّر لصالح دول الجنوب، تصبح هذه المرجعية وجهة نظر من جديد.
نقلته إلى العربية: زينب منعم