صحافي أميركي: 8 أيام قضيتُها في فلسطين المحتلة.. القهر سيُقابل بالمقاومة
صحافي أميركي يزور فلسطين المحتلة يقول إنّه رأى وسمع اليأس والقهر في جميع أنحاء فلسطين، وأيضاً الصمود الفلسطيني الجذريّ الذي يصنع بعض الأمل في ساحات انكسار الروح.
موقع "Counterpunch" ينشر مقالاً للصحافي الأميركي ماثيو هوه، يتحدّث فيه عن تجربته وعمّا رآه بعد قضاء 8 أيام في فلسطين المحتلة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
عدت إلى الأردن بعد 8 أيّام زرت خلالها فلسطين، ضمن وفد للتضامن مع مقاومي الاحتلال الصامدين والتعلّم منهم في طريق التحرير من الاحتلال. زرنا مدن بيت لحم والخليل والقدس ونابلس ورام الله ومستوطنة "سديروت"، وأجرينا لقاءات واستمعنا وتحدّثنا مع مسيحيين ويهود ومسلمين وغير متديّنين، ووصلنا إلى حدود قطاع غزّة. ومع أنّني أتقاضى أجراً مقابل البحث في القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية، إِلّا أنّ الأسئلة التي طرحتها والملاحظات التي دوّنتها، جيوسياسية بطبيعة الحال، لكن لا يمكن فصلها عن الواقع والتجربة الإنسانية مهما كانت، على شاكلة النسيان والتخلّي الذي تمارسه الحكومات ووسائل الإعلام ومراكز الفكر في واشنطن ولندن وبروكسل ومعظم عواصم المنظومة الغربية، وهو يفسّر بوضوح مدى الفشل الذي تتّسم به السياسة الخارجية لهؤلاء.
شعرت بالعجز حين تعرّفت إلى حسن أبو ناصر وصافحته، الذي فقد 130 فرداً من عائلته في غارة جوّية إسرائيلية واحدة على غزّة. لا أعرف حقيقة ما يمكن أن يقال أمام رجل يقف وسط فاجعة كادت أن تبيد سلالته. وأغلب الفلسطينيين الذين تحدّثت معهم عن غزّة ردّوا بلهجة خدرة أمام الواقع القاسي. ويقول ممثّلو منظّمات المجتمع المدني الذين التقيناهم، إنّ حصيلة الضحايا نتيجة للإبادة الجماعية الإسرائيلية في القطاع تتراوح بين 100 و200 ألف فلسطيني. وفي أثناء الحرب على غزّة المستمرّة حتّى الآن، قتلت "إسرائيل" في الضفّة الغربية وفقاً لوكالة الأونروا 780 فلسطينياً، بينهم 174 طفلاً. وقتل المستوطنون 21 فلسطينياً آخرين، وشنّوا أكثر من 3500 اعتداء وهجوم وجريمة، وأحرقوا المحاصيل الزراعية ومنازل الفلسطينيين. كذلك أصيب أكثر من 5000 فلسطيني خلال العام الجاري، بالرصاص والقنابل الأميركية الصنع التي زوّدت بها "إسرائيل". وأغارت الطائرات الإسرائيلية، ونفّذت 100 هجوم في الضفّة الغربية بعد نحو 20 عاماً من توقّفها. وكان 18 من أصل 168 ضحية قد قتلتهم الغارات المذكورة من الأطفال. وقبل 7 تشرين الأوّل/أكتوبر العام الماضي، كان معدّل قتل "الجيش" الإسرائيلي للفلسطينيين أكثر من ضحية واحدة يومياً. وفي الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي، قتل الجنود الإسرائيليون ما يقرب من 50 طفلاً في الضفة الغربية وحدها. ومع ذلك، يعتقد الكثيرون في الولايات المتّحدة أنّ التاريخ بدأ في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023. بالطبع لا يمكن مقارنة الوضع مع ما يحصل في غزّة، ولكنّ العنف ضد الفلسطينيين في الضفّة الغربية وصل إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من عشرين عاماً ويزداد سوءاً.
كان من المهمّ زيارة فخري وآمنة في مقطورة إلى جوار منزلهم المهدّم في القدس المحتلة، إلى جانب 15 منزلاً آخر في حي سلوان دمّرتها "إسرائيل" لإفساح المجال لبناء المستوطنات. كان هذا المنزل الذي ولد فيه فخري. الآن يعيش هو وآمنة مع أولادهما ووالديه إلى جوار أنقاض منزلهما والأشجار المدنّسة مشتّتون بين البقاء والمغادرة. أكثر من ذلك تطلب الحكومة الإسرائيلية من فخري تسديد فاتورة بقيمة 10 آلاف دولار لدفع تكاليف تدمير منزله، إذا لم يفعل، فسيتمّ اعتقاله ومصادرة حسابه المصرفي، كما ورد أمر هدم للمقطورة التي يعيشون فيها الآن. وفي الوقت نفسه تتعرّض عائلة فخري وآمنة للهجوم ليلاً دائماً، حيث يُداهم الجنود والمستوطنون المقطورة، ويدمّرون الممتلكات، ويُعتقل فخري على نحو مستمرّ، وفي اليوم الذي انتُخب فيه ترامب جاءوا في الساعة الثالثة صباحاً، واعتدوا على الأطفال بالضرب، وهدموا 7 منازل في الحيّ نَفسه، وهناك أكثر من 100 منزل في سلوان الآن تنتظر أوامر الهدم، ويعيش فيها 1500 فلسطيني.
ومنذ عام 1947، هدمت "إسرائيل" 173 ألف منزل ومبنى في الضفّة الغربية. ومن بداية العام الجاري دمّرت ما يقرب من 1400 مبنى وزادت أوامر الهدم بنسبة 400%، وفي القدس وحدها هذا العام، هُدم 183 مبنى، 33 منها في حيّ فخري وآمنة. ووفقاً للأونروا، فقد نزح 5000 فلسطيني على مدار الـ13 شهراً الماضية، بسبب هدم المنازل والعمليات العسكرية الإسرائيلية وهجمات المستوطنين في الضفّة الغربية. وإلى جانب إرهاب السلطات الإسرائيلية من خلال "جيشها" ومستوطنيها المموّلين من الولايات المتّحدة، مع أنّه يتّضح أمامها أنّ هدم المنازل هو وسيلة التطهير العرقي للضفّة الغربية بهدف الضمّ في نهاية المطاف، و"إسرائيل" ترى أنّها أمام أفضل فرصة لها لتنفيذ التطهير العرقي والإبادة الجماعية وضمّ كامل الأرض الفلسطينية.
أفراد عائلة فخري وآمنة لا يستطيعون النوم، يتوجّسون بخوف من اعتداءات الجنود والمستوطنين كلّ ليلة. وهم متعبون جسديّاً ونفسياً، يقول فخري: "نحن نعيش تحت العقوبات ودفع الغرامات، والمعتقل والسجن. ليس لدينا أمل، ولا مؤازرة من أحد، لا شيء يبقينا على قيد الحياة، سوى محاولتنا إبقاء أطفالنا أحياء".
هذا اليأس والقهر رأيته وسمعته في جميع أنحاء فلسطين، وخاصّة من العائلات التي لديها أطفال. مع ذلك، شهدت على الصمود الفلسطيني الجذريّ الذي يصنع بعض الأمل في ساحات انكسار الروح، المؤثّر بالبعض إلى عجز يحيله إلى غاية وحيدة في إنقاذ أولاده من هذا الجحيم ونقلهم إلى برّ الأمان. وهذا أمر لم أكن أشاهده في السابق بين الفلسطينيين، ويبدو أنّ 80 عاماً من الفصل العنصري والضمّ والإبادة الإسرائيلية تركت أثراً بالغاً فيهم.
لقد زار عدد كبير من ممثلي الحكومات والمنظّمات الدولية وغير الحكومية مكان إقامة فخري وآمنة المؤقّت. وقد جلست على الأريكة التي سبق وجلس فوقها رئيس الشؤون الفلسطينية في السفارة الأميركية، هانز ويكسل، الذي كان يشغل منصبين سابقين قبل تولّيه الشؤون الفلسطينية في القدس، حيث كان يقدّم المشورة لجنرالات الجيش الأميركي، ويدير عمليّات "مكافحة الإرهاب" في الشرق الأوسط. ولا شكّ في أنّ مزاياه العسكرية والإمبريالية هذه، كانت معه في أثناء زيارته آمنة وفخري الذي يصف هؤلاء الزوّار الكبار، بأنهم "كلّهم كاذبون"، وهو وصف صحيح تأكّد لي هذا خلال الأيّام التي قضيتها في فلسطين مؤخّراً.
إنّ استراتيجية "إسرائيل" في كسر المقاومة الفلسطينية من خلال الإرهاب والوحشية قد تنجح مع قلّة من الأفراد والعائلات، ولكنّ احتلالها وإخضاعها لن يواجها في المجمل سوى مقاومة متعمّقة. ولمن يريد مثالاً تاريخيّاً، أنصحه بمشاهدة فيلم "معركة الجزائر".
في الحقيقة إنّ ما شاهدته خلال 8 أيّامٍ في فلسطين يجعلني انهار وأنا أفكّر في ذلك في الفندق في مادبا في الأردن، وللمرّة الأولى بكيت هذا الأسبوع على ما يتعرّض له الفلسطينيون. وتطاردني نظرات الأمّهات في رام الله المشدوهة أمام القيم الإنسانية التي تخون نفسها.
ليان ناصر، 24 عاماً، فلسطينية مسيحية، أقول طائفتها لأنّ العديد في الولايات المتّحدة والغرب لا يدركون أنّ المسيحيين يعانون نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وضمّ الأراضي والإبادة على قدم المساواة مع المسلمين. ليان، طالبة في جامعة بيرزيت، محتجزة من دون تهمة لمدّة 8 أشهر في المعتقل الإسرائيلي، وليس لدى أسرتها أيّ فكرة عن سبب اعتقالها ولم يُقدّم لهم أيّ تفسير إطلاقاً، وهذا الشهر قد يمدّد احتجازها بلا مسوّغ أيضاً. ويطلق على هذا النوع من الاعتقال لأجل غير مسمّى من دون تهمة بالاحتجاز الإداري. وبهذه الطريقة، يحتجز أكثر من 5500 فلسطيني في الضفّة الغربية في السجون العسكرية الإسرائيلية، من ضمنهم أكثر من 350 طفلاً. وهناك ما يقرب من 100 امرأة أخرى في السجن مع ليان. وفي المجموع، يوجد أكثر من 12000 فلسطيني من الضفّة الغربية في السجون الإسرائيلية، وهو عدد أكبر من أيّ وقت مضى منذ الانتفاضة الأولى، التي انتهت قبل 31 عاماً. ومن بين أولئك الذين وجّهت إليهم اتّهامات بالفعل 4 طلّاب جامعيّين مسجونين من نابلس. وكما روى لنا زملاؤهم في جامعة النجاح، اعتقلهم "الجيش" الإسرائيلي لنشرهم صوراً عن غزّة على منصة "إنستغرام"، وهم في السجن منذ 4 أشهر حتّى الآن.
تعتقد والدة ليان، أنّ اِبنتها بخير. أريد أن أصدّقها، لكنّني لا أستطيع، لأنّ الوثائق الصادرة عن الأمم المتّحدة وجماعات حقوق الإنسان، من ضمنها "بتسليم" الإسرائيلية، والصحافيون، وشهادات الفلسطينيين تشي بخلاف ذلك، ولأنّ "إسرائيل" تمارس التعذيب الجماعي المتعمّد والمنهجيّ، والاعتداء على الفلسطينيين. لم يبدأ ذلك بعد الـ7 من تشرين الأوّل/أكتوبر في العام الماضي، لقد كانت هذه سياسة "الدولة" الإسرائيلية منذ نشأتها في العام 1948.
في الليلة التي اختطفت فيها ليان من منزل والديها، وجّهَ جندي سلاحه إلى والدتها وهدّدها بالقتل قائلاً: "اصمتي وإلا سنطلق عليك النار". وعندما حاول والدها حماية ابنته، وُضعت بندقية في وجهه. وكانت تلك آخر مرّة رأوا فيها ليان، ووالدتها تقول إنّها "ابنتي الوحيدة، وأختي وصديقتي وكلّ شيء بالنسبة لي"، وبدوري أطلب من كل واحد منكم أن يتّصل بحكومة بلاده للمساهمة بالإفراج عنها.
في غزّة اختطف آلاف الفلسطينيين، واحتجزوا وعذّبوا وأعدموا في السجون الإسرائيلية، من ضمنهم أكثر من 310 من الطواقم الصحّية، وقتلت "إسرائيل" أيضاً 1000 طبيب وممرض فلسطيني آخر برصاص وقنابل وقذائف وصواريخ من صنع الولايات المتّحدة. فحياة الفلسطينيين في القدس والضفّة الغربية تخضع بالكامل للسيطرة العسكرية الإسرائيلية. والمحاكمات التي تصل نسبة الإدانة فيها إلى 99.7% والسجون كلّها عسكرية. والفلسطينيون يعيشون تحت أكثر من 16 ألف قانون للاحتلال.
ولا أعرف كم عدد الآلاف من الفلسطينيين المحتجزين والمعذّبِينَ خلف تلك الجدران في المعتقلات. لكن من المهمّ أن يزور الناس فلسطين للتضامن مع الشعب وأقول هذا لسببين، هذا يسمح للجميع عموماً وللأميركيين خصوصاً بالوقوف في تحدٍّ ومعارضة لسياسات حكومة الولايات المتّحدة التي تدعم كلّ ذلك.
أما السبب الثاني والأهمّ، فهو أنّ كلّ فلسطيني التقيته تركني أدرك مدى أهمّية قدوم الناس إلى فلسطين. فالتضامن الذي نظهره لهم يعني لهم كلّ شيء، ويشعرهم أنّهم ليسوا وحدهم في مواجهة وحشيّة الاحتلال.
نقله إلى العربية: حسين قطايا