دراسة: كيف ينحاز الإعلام الغربي إلى"إسرائيل" في حربها على غزة؟
تشير دراسة أجريت على المئات من منشورات "إنستغرام" إلى ضرورة إجراء حوار جدّي وتفكر وسائل الإعلام الغربية البارزة وتغيير أسلوبها في التعاطي مع مجريات الأحداث.
موقع "ميدل إيست آي"، ينشر تقريراً للكاتب والباحث محمد المصري، يتحدث فيه عن نتائج دراسة أجراها أظهرت انحياز وسائل الإعلام الغربية إلى "إسرائيل".
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرف:
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كانت التغطية الإعلامية الغربية في طليعة المناقشات، وانهالت شكاوى الناس والمجموعات من مختلف الجهات. وقد قمتُ مؤخراً بنشر أول دراسة تجريبية حول هذا الموضوع في مجلة أكاديمية بارزة. ويقدم تحليل المحتوى الكمّي الخاص بي، الذي نشرته مجلة "Journalism & Mass Communication Quarterly"، أدلة ملموسة وقابلة للقياس على أنّ وسائل الإعلام الإخبارية الغربية السائدة تظهر تعاطفاً أكبر بكثير تجاه القتلى الإسرائيليين وأعمال العنف التي ترتكبها "إسرائيل" مقارنة بالضحايا الفلسطينيين.
وقامت الدراسة بتحليل أكثر من 400 منشور على منصة "إنستغرام"، بما في ذلك الصور الثابتة والتعليقات التوضيحية ومقاطع الفيديو التي تنشرها شبكات "سي إن إن" و"بي بي سي نيوز" و"فوكس نيوز" و"إم إس إن بي سي" و"سكاي نيوز". كما تم تقييم عدد من المتغيرات الرئيسة، بما في ذلك اختيار المصادر وإضفاء الطابع الإنساني على الضحايا والإطار المهيمن.
واستناداً إلى الأبحاث العلمية السابقة، توقعتُ العثور على أنماط تغطية تفضل الروايات والمواقف الإسرائيلية. ورغم تأكيد هذه التوقعات، فإنّ حجم التباينات كان كبيراً ومثيراً للدهشة في كثير من النواحي.
المصادر
تعدّ الاختلافات في المصادر بمنزلة نقطة انطلاق مناسبة نظراً إلى أهميتها في الأبحاث السابقة؛ فقد أظهرت أنّ وسائل الإعلام الغربية تمنح المصادر الإسرائيلية امتيازاً خاصاً بصورة دائمة. وانسجاماً مع الأبحاث السابقة، فضّلت شبكات "سي إن إن" و"بي بي سي نيوز" و"فوكس نيوز" و"إم إس إن بي سي" و"سكاي نيوز" المصادر الإسرائيلية.
وفي كل فئة من منشورات "إنستغرام"، الصور الثابتة والتعليقات التوضيحية ومقاطع الفيديو، استخدمت وسائل الإعلام مصادر إسرائيلية ومؤيدة لـ"إسرائيل" أكثر بكثير من استخدامها للمصادر الفلسطينية والمؤيدة للفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، في فئة الصور الثابتة، استخدمت وسائل الإعلام مصادر إسرائيلية أكثر بنحو 9 أضعاف من المصادر الفلسطينية ونحو 11 مرة أكثر من المصادر المؤيدة لـ"إسرائيل" مقارنة بالمصادر المؤيدة للفلسطينيين. وفي فئة التعليقات المنشورة، تم استخدام المصادر الإسرائيلية بشكل متكرر أكثر بـ4 مرات تقريباً من المصادر الفلسطينية، وتم الاستشهاد بالمصادر المؤيدة لـ"إسرائيل" 9 مرات أكثر من المصادر المؤيدة لفلسطين. وفي مقاطع الفيديو، كانت الاختلافات في المصادر أقل وضوحاً ولكنها بقيت ذات دلالة إحصائية.
والجدير ذكره أنّ هذه الاختلافات في المصادر قد تمت ملاحظتها عند الجمع بين وسائل الإعلام الخمس ضمن فئة واحدة وعند التحقق من كل وسيلة إعلامية على حدة. ولا يمكن المبالغة في أهمية هذه الاختلافات الواضحة في المصادر. إذ تؤكد الدراسات الإعلامية أنّ التركيز ونبرة التغطية الإخبارية غالباً ما يتشكلان من خلال المصادر المستخدمة. وبالتالي، من المنطقي الافتراض أنّ هذا الاعتماد الكبير على المصادر الإسرائيلية والمؤيدة لـ"إسرائيل" والإهمال المنهجي للأصوات الفلسطينية والمصادر المؤيدة لفلسطين قد يؤدي إلى ظهور تفاوتات كبيرة في التقارير الإخبارية.
التعاطف مع ضحايا أعمال العنف
من أهم التباينات التي تم تحديدها في الدراسة هو مستوى التعاطف مع الضحايا. فقد أظهرت وسائل الإعلام الخمس ميلاً واضحاً للتعاطف مع القتلى الإسرائيليين مقارنةً بالضحايا الفلسطينيين. وفي المتوسط، تنشر شبكات "سي إن إن" و"بي بي سي نيوز" و"فوكس نيوز" و"إم إس إن بي سي" و"سكاي نيوز" الكثير من المعلومات الشخصية، الأسماء والأعمار والمهن والهوايات والعلاقات الأسرية، المتعلقة بالقتلى الإسرائيليين مقارنة بضحايا أعمال العنف الفلسطينيين.
كما عرضت وسائل الإعلام بمعدل 0.47 تفاصيل شخصية لكل منشور على "إنستغرام" تتعلق بالقتلى الإسرائيليين، مقارنة بـ 0.14 تفاصيل شخصية فقط لكل منشور حول الضحايا الفلسطينيين. وفي 4 من أصل 5 وسائل إعلامية، كانت التباينات أكثر وضوحاً. فعلى سبيل المثال، قامت قناة "إم إس إن بي سي" بتضمين ما متوسطه 1.14 تفاصيل شخصية لكل منشور حول القتلى الإسرائيليين، مقابل 0.09 فقط تفاصيل شخصية حول الضحايا الفلسطينيين، ما يمثل فرقاً يقارب 13 ضعفاً.
كما تضمنت منشورات "سي إن إن" ما متوسطه 1.33 تفاصيل شخصية لكل منشور عن القتلى الإسرائيليين ومتوسط 0.37 تفاصيل لكل منشور عن الضحايا الفلسطينيين. وفي كل من شبكتي "بي بي سي" و"فوكس نيوز"، كانت الامتيازات المؤيدة لـ"إسرائيل" 0.52 إلى 0.07 و0.20 إلى 0.02 على التوالي. في المقابل، كانت قناة "سكاي نيوز" متوازنة نسبياً، بحيث قدمت 0.22 تفاصيل لكل منشور حول القتلى الإسرائيليين و0.16 حول الضحايا الفلسطينيين.
وتشير أبحاث الدراسات الإعلامية إلى أنّ هذا النوع من التخصيص يلعب دوراً حاسماً في تعزيز الإنسانية، لأنه يساعد الجماهير على التواصل بشكل أعمق مع الضحايا. وبالتالي، من المنطقي الافتراض أنّ الجمهور الذي يتابع الأخبار قد يتعاطف أكثر مع الإسرائيليين لمجرد أنهم يتلقون معلومات أكثر عنهم كأفراد.
بالإضافة إلى ذلك، بحثت الدراسة في الحسابات الشخصية العاطفية في مشاركات الفيديو. وهي عبارة عن تقارير مصوّرة تستعرض "تفاصيل قاتمة عن الضحايا القتلى والجرحى والمفقودين أو أسرهم". وغالباً ما تأتي "في شكل برامج تسلط الضوء على الضحية" ومدعومة "بمقابلات مع أفراد الأسرة" في كثير من الأحيان.
بصورة عامة، كانت وسائل الإعلام تستعرض روايات عاطفية وشخصية عن القتلى الإسرائيليين أكثر مما تعرضه عن الضحايا الفلسطينيين بـ4 اضعاف.
التأطير والسياق
جاءت النتائج المتعلقة بتأطير الصورة معبرة بالقدر نفسه،حيث صوّر نحو 30% من المنشورات التي تغطي العنف الإسرائيلي تصرفات "إسرائيل" على أنّها "دفاع عن النفس"، وهو تناقض صارخ مع المنشورات المتعلقة بالعنف الفلسطيني، حيث تم تصوير 0.5% فقط بهذه الطريقة، أي بفارق 60 ضعفاً. في المقابل، كانت وسائل الإعلام أكثر ميلاً بنحو 10 مرات لتصوير العنف من الجانب الفلسطيني على أنّه "عدوان" مقارنة بالعنف الإسرائيلي.
وقد ساهم الغياب العام للسياق المنتقد لـ"إسرائيل"، ولا سيما في مشاركات الفيديو على "إنستغرام" في تصوير هذه الاتجاهات. وتناولت وسائل الإعلام إلى حد كبير التغطية كما لو أنّ الصراع بدأ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما نفّذت "حماس" وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلّحة هجومها على "إسرائيل".
واستبعد هذا النهج في إعداد التقارير السياق الأهم، مثل العدوان الإسرائيلي الموثق جيداً خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، والاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية، والحصار الإسرائيلي الطويل الأمد على غزة. فقد تضمنت 19.5% فقط من مقاطع الفيديو سياقاً ينتقد "إسرائيل". في المقابل، كانت الوسائل الإعلامية أكثر ميلاً إلى الخوض في التفاصيل السياقية التي تنتقد الفلسطينيين، إذ إنّ 50% من جميع مقاطع الفيديو التي تنشرها على "إنستغرام" تتضمن سياقاً ينتقد الفلسطينيين.
اقرأ أيضاً: "Counterpunch": الإعلام الغربي وتبييض جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلي
وتتوافق هذه النتائج مع عقود من البحث الأكاديمي الذي يظهر أنماطاً مماثلة، سواء خلال فترات العنف الإسرائيلية- الفلسطينية الأخرى أو خلال فترات الهدوء النسبي. وفي ظل الحرب الجارية، أُجريت الكثير من الدراسات الأخرى؛ وعلى الرغم من أنها لم تخضع لمراجعة النظراء، فإنّها توفر رؤى مثيرة للاهتمام. فعلى سبيل المثال، كشف تحليل أجراه موقع "العربي الجديد" لصالح صحف بريطانية بارزة أنّ "الكلمات المثيرة للعاطفة"، مثل "مذبحة" و"مجزرة"، كانت تستخدم بشكل روتيني في سياق العنف الفلسطيني إلا أنّه لم يتم استخدامها مطلقاً في سياق العنف الإسرائيلي.
وهناك تحليل منفصل أجرته مجلة "Jacobin" لصالح برنامج "Morning Joe" الذي يعرض على قناة "إم إس إن بي سي"، أشار إلى أنّ العرض يبرر القصف الإسرائيلي للمناطق المدنية الفلسطينية ويتبنى بشكل روتيني ادعاءات إسرائيلية مضللة حول عدد القتلى الفلسطينيين.
فهم البيانات
إنّ التباينات الكبيرة التي كشفت عنها الدراسات الحديثة، فضلاً عن الدراسات العلمية الأخرى التي أجريت على مدى سنوات، تثير موجة من الأسئلة.
في ما يتعلق بالمصادر، لماذا تعتمد وسائل الإعلام الغربية الرئيسة على المصادر الإسرائيلية؟
من الواضح أنّ وسائل الإعلام الغربية تتمتع بإمكانية الوصول إلى المصادر الفلسطينية والمؤيدة للفلسطينيين، كما يتضح من المشاورات العرضية معها. فلماذا لا يتم بذل جهد أكبر لإعلاء هذه الأصوات؟
وفي ما يتعلق بتوصيف أعمال العنف، لماذا تميل وسائل الإعلام الغربية إلى استخدام كلمات مثل "مذبحة" أو "مجزرة" أو "همجية" لتوصيف الهجوم الفلسطيني أكثر مما تستخدمها لتوصيف أعمال العنف الإسرائيلية؟
دافعت جودي رودورين، رئيسة تحرير صحيفة " The Forward" الحالية والمديرة السابقة لمكتب "نيويورك تايمز" في القدس، قائلةً: "لقد حدثت مذبحة [ضد الإسرائيليين] في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر [2023] ... وكانت وحشية". وأضافت رودورين بأن مثل هذه المصطلحات ليست "مناسبة" لوصف أعمال العنف التي ترتكبها "إسرائيل"، التي وصفتها بأنها "رد" على هجوم حماس.
ومع ذلك، فإنّ حجة رودورين تغاضت عن نقطة هامة. فحتى لو تم تأطير الهجوم الإسرائيلي على غزة باعتباره رداً على الهجوم الفلسطيني، فإنّ هذا لا يمنع إمكانية أن يكون الرد "همجياً". ومن الممكن أن يكون الرد "همجياً" أو يتضمن "مجازر" و"مذابح". علاوة على ذلك، وصفت الأمم المتحدة والباحثون في مجال الإبادة الجماعية والمحرقة وخبراء في القانون الإنساني الدولي تصرفات "إسرائيل" في غزة بأنّها تشكل "حالة نموذجية للإبادة الجماعية".
بالإضافة إلى ذلك، استخدمت وسائل الإعلام الإسرائيلية مصادر عسكرية لتقديم تقارير عن السياسات العسكرية التي تشكل جرائم حرب صارخة. وتشمل هذه السياسات نسبة 100:1، التي تسمح لـ"إسرائيل" بقتل أكثر من 100 مدني من أجل قتل قائد فلسطيني واحد؛ و"عقيدة الضاحية" التي تدعو إلى استهداف المدنيين كشكل من أشكال العقاب الجماعي؛ وسياسات "منطقة القتل" المختلفة.
وبالنظر إلى هذا السياق، وعدد القتلى المدنيين المرتفع جداً في غزة، من غير المنطقي أن تصف وسائل الإعلام الغربية أعمال العنف الإسرائيلية بالـ"مجازر" والـ"مذابح". وتُعد التناقضات في التقارير المذكورة هنا أكثر إثارة للقلق عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار التباينات في عدد الضحايا. وفي كل مرحلة من مراحل الحرب الحالية، تجاوزت الخسائر البشرية في صفوف الفلسطينيين الخسائر الإسرائيلية بكثير.
فلماذا إذاً تقوم وسائل الإعلام الغربية البارزة بتغطية كل ما يتعلق بالقتلى الإسرائيليين بشكل لافت وتميل إلى تجاهل الضحايا الفلسطينيين؟ وهذا سؤال وجيه في ظل البيانات والمعطيات المتوافرة.
التوترات الداخلية
إنّ عمليات إنتاج الأخبار مقيدة بشكل أساسي بالأيديولوجيات وسياسات التحرير وإجراءات جمع الأخبار والحكومات والشركات ومجموعات المصالح الخاصة وعقيدة الاتزان الصحفي، من بين أمور أخرى. ومن الممكن أيضاً أن يقوم الصحافيون الأفراد بتقديم تقارير زائفة.
وعلى الرغم من هذه التوضيحات، فإنّ النتائج المذكورة هنا مثيرة للقلق. وتشير عقود من البحث في التقارير الغربية عن "إسرائيل" وفلسطين، بالإضافة إلى نتائج فترة الحرب الحالية، إلى أنّ الكثير من البحث الذاتي مسموح به. ويبدو أنّ الصحافيين الأميركيين والأوروبيين بدأوا يلاحظون مدى تقصير مؤسساتهم الإخبارية.
فعلى سبيل المثال، برزت خلافات كبيرة في صحيفة "نيويورك تايمز" بشأن نشرها تقريراً استقصائياً حول العنف الجنسي المزعوم الذي ارتكبته حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. والمعارضة الداخلية للتقرير، التي تم فضح عدد من جوانبها لاحقاً من قبل الكثير من وسائل الإعلام، أجبرت صحيفة "نيويورك تايمز" على إلغاء حلقة بودكاست مجدولة لمناقشة التقرير. وما يؤكد التوتر الداخلي الحاصل في الصحيفة اتخاذ القرار بإجراء تحقيق داخلي، وصفه بعض الموظفين بـ"مطاردة الساحرات"، لمعرفة كيفية تسرب التفاصيل المتعلقة بإلغاء البودكاست.
اقرأ أيضاً: روبرت مردوخ.. الداعم الأقوى لـ "إسرائيل"
وفي وقت سابق من هذا الشهر، وقع أكثر من 100 موظف مجهول في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" على رسالة موجهة إلى المدير العام للهيئة، تيم ديفي، يشكون فيها من أنّ تقارير هيئة الإذاعة البريطانية عن غزة كانت مؤيدة علناً لـ"إسرائيل" وانتهكت "المبادئ الصحفية الأساسية".
كما يلاحظ جمهور الأخبار بشكل مطرد مشكلات في إعداد التقارير ويعبرون عن إحباطهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وتكشف النظرة الخاطفة على التعليقات و"الإعجابات" الواردة في منشورات وسائل الإعلام الغربية الرئيسة عن خيبة أمل واسعة النطاق.
ونأمل أن تؤدي الأبحاث وشكاوى الموظفين وتعليقات الجمهور إلى إجراء حوار جدي وتفكر وسائل الإعلام الغربية البارزة وتغيير أسلوبها في التعاطي مع مجريات الأحداث.
وهذه الخطوة ليست مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل قد تكون لها أهمية قانونية. ومؤخراً، قال المحامي الدولي في مجال حقوق الإنسان كريغ مخيبر، وهو مدير سابق في مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، إنّ المؤسسات الإخبارية الغربية قد تتحمل المسؤولية القانونية عن تسهيل الإبادة الجماعية.
نقلته إلى العربية: زينب منعم