أكاذيب صغيرة كبيرة: الأحابيل التي تخفي أن نتنياهو يتحدث مع حماس

إذا فكرتم في الأمر، إنه لمن المُدهش والمُقلق في آن نجاح رئيس حكومة إسرائيل في التملص من المساءلة من جمهوره عما حدث في غزة في الأيام الأخيرة. لم يعقد مؤتمراً صحفياً، ولم يرفع شريط فيديو، ولم يشرح مع من تفاوضت إسرائيل على وقف إطلاق النار، وما هو الثمن الذي دفعته مقابل ذلك، وما هي خطته طويلة الأجل لغزة. نتنياهو، وليس لأول مرة، يعتمد على الذاكرة الجماعية القصيرة للإسرائيليين، ومعظمهم يقضون إجازة صيفية في هذه الأيام ولا يريدون أن تزعجهم المواجهة في غزة.

نتنياهو، وليس لأول مرة، يعتمد على الذاكرة الجماعية القصيرة للإسرائيليين

حتى نزهة دقيقة عبر حسابات الفيسبوك الشعبية والناشطة جداً لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في أسبوع القتال الأخير في غزة، لا تكشف ولو تلميحاً ما حدث على الجبهة الجنوبية. نتنياهو أسكت فعلياً حساباته على مدى الأيام الثلاثة بين 8 و 10 آب/أغسطس، والتي أطلقت خلالها حماس صواريخ على مستوطنات النقب الغربي، وقصفت طائرات سلاح الجو أهدافاً في قطاع غزة، وعقدت الحكومة اجتماعاً طارئاً طويلًا، وكان الشعور بأن هناك احتمال كبير لحرب.

حتى في الأيام التي سبقت "صمت نتنياهو" على الشبكة، لم يتطرق رئيس الحكومة بتاتاً إلى التوترات في الجنوب. رفع بوستات ووزع تغريدات عن حيوية "قانون القومية". في 6 آب/أغسطس تفرغ نتنياهو لمقالة في صحيفة "إسرائيل اليوم"، صحيفته، أفاد فيها أنه وبّخ وزيرة خارجية النرويج على تمويل بلادها لمنظمات يسارية تنزع الشرعية عن إسرائيل.

في نفس اليوم، مجّد في بوستٍ احتفالي إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران. قبلها بيومين، تباهى بقرار شركة "ستاندرد آند بورز" برفعها التصنيف الائتماني لإسرائيل، والذي يعكس بحسب قوله القوة الاقتصادية للبلاد وسياسته الاقتصادية. ولا أي كلمة عن التصعيد في غزة، الذي كان القضية الأكثر تؤججاً في تلك الأيام، وألقى بظلاله على حياة عشرات الآلاف من الناس في محيط غزة وشمالها.

نتنياهو عاد إلى الشبكة فقط بعد يومين من وقف إطلاق النار مع حماس، وحينها أيضاً لم يتطرق إلى مشكلة غزة - التي من الواضح أنها لم تختفِ، بل سقطت مؤقتاً عن جدول الأعمال. عندما عاد لنشر بوستات، تشبث نتنياهو مرة أخرى بأجندة وطنية وقومجية، بما في ذلك نزع الشرعية عن اليسار والعرب الإسرائيليين. وبهذه الطريقة، حول نتنياهو بسهولة الانتباه عما كان يشغل الإسرائيليين قبلها بيومين فقط: احتمال اندلاع حرب أخرى ضد حماس في غزة. في مساء السبت 11 آب/أغسطس، رفع شريط فيديو من التظاهرة في ميدان رابين في تل أبيب ضد قانون القومية، وظهر فيه عرب إسرائيليون يلوحون بالأعلام الفلسطينية، وكتب: "لا يوجد دليل أفضل على ضرورة قانون القومية".

إذا فكرتم في الأمر، إنه لمن المُدهش والمُقلق في آن نجاح رئيس حكومة إسرائيل في التملص من المساءلة من جمهوره عما حدث في غزة في الأيام الأخيرة. لم يعقد مؤتمراً صحفياً، ولم يرفع شريط فيديو، ولم يشرح مع من تفاوضت إسرائيل على وقف إطلاق النار، وما هو الثمن الذي دفعته مقابل ذلك، وما هي خطته طويلة الأجل لغزة. نتنياهو، وليس لأول مرة، يعتمد على الذاكرة الجماعية القصيرة للإسرائيليين، ومعظمهم يقضون إجازة صيفية في هذه الأيام ولا يريدون أن تزعجهم المواجهة في غزة.

السلوك التالي في الساعات التي سبقت وقف إطلاق النار يشرح كيف تجاهل نتنياهو ووزراء آخرين، في أحسن الأحوال، واجبهم بإخبار الجمهور بأنهم يقودون ما يحدث بالفعل في غزة، وفي أسوأ الأحوال، ببساطة كذبوا عليه.

الخميس قبل منتصف الليل أفادت قناة الجزيرة، نقلاً عن مصادر مصرية، عن وقف إطلاق نار تم التوصل إليه بين إسرائيل وحماس في غزة. وأكد هذا دبلوماسي أجنبي كان مسؤولاً عن الاتصالات أشار إلى أن الجانبين اتفقا على وقف إطلاق نار وأن التفاهمات ستدخل حيز التنفيذ في منتصف الليل. مسؤول إسرائيلي كبير نفى هذا التقرير في تصريحات للمراسلين السياسيين والعسكريين. لكن في اليوم التالي، بعد ليلة هادئة، اتضح أن تقرير الجزيرة والمصريين كان دقيقاً، وأن الأكاذيب جاءت تحديداً من الجانب الإسرائيلي.

نتنياهو، أو أي أحد من رجاله، لم يقل شيئاً عن وقف إطلاق النار، على الرغم من حقيقة أن هذا ما حدث على الأرض فعلاً، ويبدو أن قيادة السلطة الإسرائيلية حاولت طمس حقيقة أن بنيامين نتنياهو يُجري مفاوضات مع حماس. مراسلون سياسيون وعسكريون قدامى أعربوا عن غضبهم على تويتر في معرض تطرقهم إلى البيانات الكاذبة، وسخروا من ذلك بقولهم ان الجزيرة أكثر مصداقية من الحكومة الإسرائيلية.

الغضب كان كبيراً لأنها ليست المرة الأولى التي يحرّف فيها نتنياهو الواقع كي يُخفي اتصالات مع حماس. حدث هذا في أيار/مايو الماضي في جولة القتال السابقة: القاهرة أفادت عن وقف لإطلاق النار، إسرائيل نفت، ثم تبين أن المصريين كانوا على صواب، وأحدٌ ما ضلل الصحافيين والشعب. وهذا حصل طبعاً بعد عملية "الجرف الصلب" في صيف عام 2014.

نتنياهو لا يمكنه أن يسمح لنفسه بصورة رئيس حكومة يُجري اتصالات مع حماس، فهو في نهاية المطاف "سيد الأمن" الذي خاض انتخابات 2006 بشعار الحملة الذي لا ينسى: "قوي ضد حماس". من الناحية العملية، الجميع يعرفون الحقيقة، بما في ذلك وزراء المجلس الوزاري الأمني اليمينيين: إسرائيل التي يتزعمها نتنياهو تفاوضت مع حماس في الأسبوع الماضي، وليس لأول مرة.

لقد كتب الكثير عن أحابيل نتنياهو وقدرته على حرف جدول الأعمال، وهي تتحسن من سنة إلى أخرى. هذه هي الاستراتيجية الإعلامية التي ترافق تحقيقاته: نزع شرعية هيئات التحقيق، برئاسة الشرطة ومفتشها العام، إلى جانب جدول أعمال سياسي مزدحم، وتكثيف رحلاته إلى الخارج. الرسالة واضحة: في مواجهة التحقيقات التافهة، هناك رئيس حكومة في إسرائيل هو زعيم عالمي. حسابات نتنياهو على الفيسبوك وتويتر وإنستغرام من العامين الماضيين تعجّ بصوره مع زعماء العالم إلى حدّ الإنهاك.

لا شك في أن نتنياهو ينجح في التصرف على الشبكات الاجتماعية وكأنه في عالم مواز، حيث يمكن للمرء أن يتعامل مع ما هو ملائم سياسياً فقط له، ويتجاهل المشاكل التي تضره. مع وجود أكثر من مليوني متابع على الفيسبوك، يستطيع نتنياهو تسويق الواقع الذي يناسبه دون الحاجة إلى تقديم الحساب، وتجاهل حقيقة أنه تحدث مع حماس. وأي شخص يدعي غير ذلك - يتم تعريفه مباشرة على أنه يساري أو خائن.