ناجورنو كاراباخ .. صراع عرقي أم تصفية حسابات؟
أعاد تجدد المناوشات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا إلى الأذهان الصراع العرقي والعسكري القديم بين الجانبين على إقليم "ناجورنو كاراباخ" الذي تقطنه أغلبية أرمينية وأعلن استقلاله عن أذربيجان في مطلع عام 1992. عودة المناوشات بينهما بعد فترة الهدنة الطويلة التي استمرت منذ عام 1994 حتى الآن أثارت سؤالاً رئيسياً حول طبيعة الصراع في هذه المنطقة وهل هو بالفعل مجرد صراع عرقي أم إنه تعدى هذه المرحلة ليصبح فرصة دورية لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية التي لم تتسع ساحة الشرق الأوسط لحلها؟
ظل الأقليم الذي كان خلال الحقبة السوفيتية متمتعاَ بأحد أشكال الحكم الذاتي منتظراً فرصة مواتية للإنفصال عن آذربيجان إلى أن حانت الفرصة عام 1988 حين قدم المجلس المشرف على الأقليم طلباَ للمجلس السوفيتي الأعلى لإلحاقه بأرمينيا وهو ما لاقى اعتراضاَ من جانب أذربيجان التي اشتبكت قواتها مع سكان الإقليم في محاولة لمنعهم من الانفصال. استمر التوتر العسكري والسياسي بين الجانبين في التصاعد إلى أن أعلنت أذربيجان وأرمينيا استقلالهما عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 فقام برلمان الإقليم في مطلع عام 1992 بالتصويت بالموافقة على الانفصال عن آذربيجان. بعد عدة أشهر من تحرك برلمان الإقليم اندلعت حرب واسعة بين أذربيجان من جهة والإقليم مدعوماً من أرمينيا من جهة أخرى، حققت قوات الإقليم خلال هذه الحرب التي استمرت حتى منتصف عام 1994 نصراً كبيراً على المستوى الميداني حيث سيطرت على ما بين 9 إلى 20 بالمائة من أراضي أذربيجان من بينها الإقليم نفسه والشريط الاستراتيجي الفاصل بينه وبين أراضي أرمينيا المسمى "ممر لاتشين" وكذلك أراضي 6 مقاطعات أخرى شرق وجنوب الإقليم، ترتب على هذا الموقف إعلان الفصائل الأرمنية في الإقليم قيام "جمهورية ناجورنو كاراباخ" وتوقفت العمليات العسكرية التي حصدت ما يناهز 35 ألف قتيل بعد التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار في أيار/ مايو 1994 في العاصمة البيلاروسية مينسك برعاية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بجانب روسيا. وعلى الرغم من هذا الاتفاق إلا أن حالة الحرب بين البلدين ظلت قائمة بشكل ضمني فى ظل تجدد دوري للاشتباكات الحدودية المحدودة بين أذربيجان والجمهورية التي لم تعترف بها أي دولة لكنها تحظى برعاية ودعم عدة دول على رأسها روسيا وأرمينيا التي تتعامل معها كجزء من أراضيها. وقد تم عام 2006 التصديق على دستور جمهورية مرتفعات كاراباخ الذي نص على أنها جمهورية تتخذ النظام الرئاسي.
تجدد الاشتباكات في الإقليم
تظهر الصورة بشكل أوضح إذا ما استعرضنا الأطراف الإقليمية المنخرطة في هذا الملف. تعد تركيا من الأطراف الرئيسية في هذا النزاع نظراً لأنها كانت تساند أذربيجان منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي وانضمت عام 1993 إلى الحصار الاقتصادي الجوي والبري الذي فرضته باكو على الأراضي الأرمينية وفيه منعت وصول السلع والبضائع عبر السكك الحديدية إليها. مازالت الحدود بين تركيا وأرمينيا شبه مغلقة حتى الآن على الرغم من بوادر تقارب بين البلدين ربما ستختفي على خلفية تجدد التوتر بخصوص الإقليم، حيث بات واضحاً أن لتركيا يداً أساسية في هذا التجدد للرد على تعزيز روسيا في الشهور الأخيرة لعلاقاتها العسكرية مع أرمينيا حيث قامت أواخر العام الماضي بتفعيل قيادة الدفاع الجوي المشتركة معها وأرسل الجيش الروسي قوات من الجيش 58 المتمركز في شمال القوقاز تشمل ألوية وأفواج عسكرية خاصة الى الحدود تضم 7000 جندي يتمركزون حالياً في مواقع على الحدود الأرمينية – التركية بجانب مواقع دفاع جوي تحتوي على بطاريات صواريخ "S400" التي تشكل بالتكامل مع البطاريات من نفس النوع في قاعدة حميميم السورية تغطية رادارية وقتالية لحوالى 70 بالمائة من الأجواء التركية مما يشكل ضغطاً عسكرياً كبيراً على تركيا التي باتت تعاني من تبعات التدهور المستمر في علاقاتها مع روسيا. أيضاً لا يمكن إغفال الجانب التاريخي من العداء بين تركيا وأرمينيا اللتين دارت بينهما حرب عنيفة على خلفية الغزو التركي للأراضى الأرمينية خلال عشرينيات القرن الماضي والتي حدثت قبلها مجازر كبيرة ارتكبتها القوات العثمانية ضد الأرمن. تمثل روسيا وإيران الحليفين الأساسيين لأرمينيا في هذا الصراع، روسيا على الرغم من كونها وسيطاً في أزمة الإقليم إلا أنها دعمت أرمينيا تسليحياً خلال حربها مع أذربيجان وتحتفظ فيها حالياً بقاعدتين عسكريتين تقعان في العاصمة "يريفان" ومدينة "غيومرى" وتساهم في دعم الاقتصاد الأرميني بجانب إيران التي بدورها وبالرغم من أنها من المفترض والبديهي أن أن تدعم الطرف "المسلم" في هذه الأزمة وهو أذربيجان إلا أن الدعم الفعلي من جانبها كان موجهاً لأرمينيا حصراً خصوصاً في الجانب الاقتصادي التي تمثل فيه أرمينيا سوقاً مهمة للسلع الإيرانية ولقطاع النفط الإيراني الذي يصدر لها النفط وينشئ حالياً خطاً للغاز يربط بين البلدين. أما في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فعلى الرغم من كونهما أيضاً من بين الوسطاء في اتفاق وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا إلا أنه كان واضحاً اتخاذهما جانب أذربيجان منذ البداية وهذا كان جلياً في الخطة التي اقترحتها الولايات المتحدة عام 1994 لتسوية النزاع حيث اقترحت اعتراف أذربيجان باستقلال الإقليم وبسيادة أرمينيا على ممر لاتشين المؤدي إلى الإقليم مقابل منح أذربيجان منطقة "مغري" الفاصلة بين الأراضي الآذرية وأقليم "ناختشيفان" التابع لأذربيجان والواقع داخل الأراضي الأرمينية مع منح أرمينيا حق المرور عبر هذه المنطقة في اتجاه الحدود مع إيران وهي خطة قوبلت بالرفض من أرمينيا حينها نظراً لأنها كانت تصب في مصلحة أذربيجان وتمنع أرمينيا من السيطرة على الحدود مع إيران التي تمثل لها شرياناً حيوياً لا بديل عنه، الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة طرح خطة خاصة به تفيد باعتراف كل الأطراف بوحدة أراضي أذربيجان مع إعطاء الإقليم شكل من أشكال الحكم الذاتي وهي خطة تم رفضها أيضاً. الموقف الأوروبي في هذه الأزمة ظل محل جدل إلى أن قام البرلمان الأوروبي باعتماد استراتيجيته لجنوب القوقاز والتي كان ملخصها الإقرار بأن المناطق التي سيطرت عليها قوات إقليم كاراباخ خلال الحرب في أوائل تسعينيات القرن الماضي هي أراض محتلة ويجب الانسحاب منها.
في هذا الصدد لا يمكن تجاهل دور إسرائيلي واضح في ما يتعلق بالتسليح. سابقاً وخلال الأزمة الجورجية صادرت القوات الروسية أعتدة إسرائيلية الصنع ضمن تسليح الجيش الجورجي من بينها طائرات دون طيار وصواريخ مضادة للدروع، الأمر نفسه حدث في الأزمة الحالية حيث اتضح أن الطائرة دون طيار الآذرية التي أسقطها الدفاع الجوي الأرميني هي من نوع "Thunder-B" إسرائيلية الصنع.
الوضع الميداني العسكري
الإشتعال المفاجئ في هذا الملف بعد فترة طويلة من الهدوء النسبي يؤكد أن ما حدث كان "تصفية حسابات" إقليمية بين روسيا وتركيا، روسيا من مصلحتها إيقاف التدهور في هذا الملف حيث إنها في غنى عن أي تطورات دراماتيكية فيه نظراً لانشغالها بالميدان السوري والوضع الأوكراني. وستظهر الأيام المقبلة ما إذا كان هذا هو اشتعال لفتيل أزمة قد تؤدي إلى خلط أكبر للأوراق الإقليمية وتشتيت أكثر للمجهود الروسي أم أنه اشتعال موقت ربما يخمده تدخل روسي ما سواء على المستوى السياسي أو العسكري.