بركان في الخليج

بركان خامد مرشح للانفجار. هكذا بدت الاحتقانات شبه المعلنة في الخليج قبل أن تأخذ الحمم مداها المفاجئ. الحصار شبه الكامل على قطر من ثلاث دول جوار، إضافة إلى مصر، يضع مستقبلها المنظور بين قوسين كبيرين. السيناريوات ضيّقة والأوراق على الطاولة. هناك مساران إجباريان للأزمة المتفجرة على شطآن الخليج، والعالم كله يراقب ويتدخل.

أمام قطر خياران إما القبول بالشروط أو مواجهة المزيد من العزلة
الأول، أن تقبل قطر بالحوار والاشتراطات المعروضة عليها لإنهاء الأزمة، من قطع صلاتها السياسية بجماعة «الإخوان المسلمين» و«حركة حماس»، إلى إعادة تكييف مجمل علاقاتها الإقليمية باسم «وحدة البيت الخليجي». في التقبّل إذعان لحقائق الموقف، وبعده تخسر كل ما استثمرت فيه سياسياً على مدى عشرين سنة. هذا صلب الحوار الجاري الآن بوساطة كويتية وعمانية، أو عبر وسطاء آخرين إقليميين ودوليين. لا توجد مساحيق تجميل سياسية، أو ندية حوار مفترضة: الإذعان أو التصعيد.

الثاني، التلويح بإجراءات عقابية جديدة، لا يفصح عن طبيعتها ولا طريقة تنفيذها، لكنها تعني، والرسالة واضحة، تغييراً في بنية الحكم. وقد أضفت تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب جواً مثيراً يشبه أفلام ألفريد هيتشكوك على حركة الحوادث، كأشباح في الظلام. وفق ترامب، فإنها «بداية النهاية ضد فظائع الإرهاب»، وتأكيد أن قطر متورطة في دعم وتمويل تنظيمات العنف والإرهاب على ما أخبره قادة في الشرق الأوسط. في ذلك ترجيح لمسار العمل العسكري ضد «دولة مارقة»، غير أن الطريق ليس معبّداً ولا سالكاً.

تلك الفرضية تعترضها تصريحات منسوبة لوزارتي الخارجية والدفاع تدعو إلى الحوار وتهدئة الأزمة، فضلاً عن أنه لا تتوافر لها حتى الآن أي ظروف مساعدة بالنظر إلى مواقف قوى دولية وإقليمية مثل روسيا والصين وألمانيا وفرنسا وتركيا وإيران، وكلها تدعو إلى الحوار كمدخل وحيد لإنهاء الأزمة.

باليقين، هناك تنسيق مسبق مع الرئيس الأميركي، لكنه ربما لم يراجع مؤسساته، وهذا طبيعي من رجل بمواصفاته. ما الذي يمكن أن يحدث في ظل مثل هذه الأوضاع المرتبكة؟

أحد السيناريوات المحتملة، وضع الإمارة الصغيرة تحت ضغط لا يحتمل، حتى يتحرك من داخل الأسرة الحاكمة عناصر يتولون السلطة.

في هذه الأزمة تتقاطع الحسابات الدولية والإقليمية على نحو يجعل من الصعب تعريف المقصود بالحوار لإنهاء الأزمة. بالكلام عن الحوار، كما علاقات قطر وسياساتها، الالتباسات بلا حدّ. وضع «الإخوان» و«حماس» في كفة واحدة بالاشتراطات المعروضة قضية تثير تساؤلات حول حقيقة الموقف من القضية الفلسطينية، قبل أي مفاوضات مفترضة تحت عنوان «صفقة القرن». 

في أيّ منطق سياسي، فإن وصف «حماس» بالإرهاب خدمة لإسرائيل وانتقاص من شرعية المقاومة. وفي أيّ منطق تفاوضي، يستحيل حذف «حماس»، التي تسيطر على قطاع غزة، من المعادلة الفلسطينية.

كانت «حماس» قد أعلنت قبل أسابيع وثيقة تعترف بمقتضاها بأيّ دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو ١٩٦٧، وتلك خطوة قد يتبعها الاعتراف بإسرائيل، كما أعلنت فضّ صلاتها التنظيمية بـ«الإخوان».

وقد شجّعت قطر وتركيا «حماس» على إعلان تلك الوثيقة المثيرة للتساؤلات عن توقيتها وأهدافها بقصد الإمساك بورقة فلسطينية مهمة قبل بدء أي تفاوض.

مع ذلك، لم تتردد إسرائيل في إعلان أين تقف. انتهى دور قطر وجاء وقت الصفقات الكبرى. قواعد اللعبة الآن اختلفت.

في المساحات الرمادية، تحركت قطر بين المقاومة وإسرائيل؛ موّلت الأولى واتصلت بالثانية. اللعب الآن على المكشوف مع اللاعبين من ذوي الأوزان الثقيلة، وكل الأدوار التي لعبتها (قطر) سوف تخضع لإعادة نظر وإغلاق حساب.

عندما افتتحت مكتباً إعلامياً لـ«طالبان» في الدوحة، بدا ذلك مثيراً للاستغراب؛ فهو علنيّ في لحظة مواجهات عسكرية في أفغانستان مع القوات الأميركية. الآن، ما كان دوراً وظيفياً أُسنِد إليها قد تحاسب عليه في الميديا الأميركية وداخل مؤسسات صناعة القرار، بقدر ما يعفى الذين أعطوها الضوء الأخضر.

لم تكن وحدها التي تورطت في الأزمة السورية بتسليح وتمويل «جبهة النصرة». أطراف إقليمية أخرى لعبت الدور نفسه، لكن الإمارة الصغيرة من تسدّد الفواتير.

دَورانُ السياسة يكاد يسحقها من كثرة اللعب على المتناقضات والالتباسات. لا يوجد عنوان واحد رئيسي للأزمة. حتى العلاقة مع إيران ليست صلب الأزمة ولا موضوعها الرئيسي؛ فدول خليجية أخرى تحذو حذو الخط نفسه. ما يزعج السعودية التغريد خارج السرب والتطلع إلى المزاحمة على قيادة البيت الخليجي. هذه مسألة حاسمة في البركان الذي انفجرت حممه على غير انتظار.

على مدى عشرين سنة حاولت قطر أن تؤسّس لنفسها وضعاً استراتيجياً يفوق حجمها، اعتماداً على ركيزتين، إحداهما الوفرة المالية الهائلة من تدفقات الغاز الطبيعي المسال... والثانية، بنية إعلامية حديثة وفّرتها قناة «الجزيرة» في سنواتها الأولى، حتى باتت قناة العرب الأولى، قبل أن تفقد وزنها الإعلامي الاستثنائي حين تحولت إلى نشرة إخبارية رسمية تتبنّى خطاباً أيديولوجياً مغلقاً.

عندما هبّت عواصف التغيير على العالم العربي مكّنها تمركزها في ملفات عديدة من التطلع إلى زعامة المنطقة.

بصورة أو أخرى بدأت «حقبة قطرية»، وبدت كلمتها نافذة في الجامعة العربية، ولا كلمة أخرى تفوقها، غير أنها كانت قصيرة وتقوّضت تماماً بعد «٣٠ يونيو» (إشارة إلى ما حدث في مصر في صيف 2013).

قد لا تتوافر لمصر في بعض اللحظات مقومات القيادة، لكن لا أحد آخر في وسعه ملء الفراغ. في الصراع على زعامة العالم العربي تبارزت السياستان السعودية والقطرية. كانت مصر أحد الميادين المفتوحة لذلك الصراع في أعقاب إطاحة جماعة «الإخوان» من السلطة.

السعودية أيّدت على طول الخط، وقطر عارضت على طول الخط.

في عهد العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز، كان كل شيء واضحاً، ووصلت الأزمة إلى حدّ سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من الدوحة في آذار/مارس ٢٠١٤، قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها بوساطة كويتية.

بعد رحيل الملك عبدالله، لم تلتزم الدوحة بأيّ اتفاق. ذلك نصف حقيقة معلنة.

نصف الحقيقة الآخر أن السعودية أعادت النظر جذرياً في طبيعة علاقتها بالنظام الجديد في مصر. قلّلت من مساعداتها المالية، وراهنت على علاقات مختلفة مع «الجماعة»، وتصوّرت أن تحالفاً مع تركيا أجدى وأنفع.

كان ذلك أحد دوافع تحسين العلاقات بين الرياض والدوحة على حساب القاهرة، غير أن تلك الرهانات أخفقت في ما تصورته.

في الظلال تمدّدت الصدامات الخفية بين السعودية وقطر إلى حدود اتهام الأخيرة بالتدخل في ملف حساس يتعلق بمن يخلف الملك سلمان.

الأجواء المسمومة دفعت إلى التصعيد. لا التصريحات المنسوبة لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، التي تنال من قمة الرياض وقد جرى نفيها رسمياً، ولا أيّ سبب معلن آخر، تفسّر انفجارات البركان الخامد بهذا الحجم من التصعيد والتصادم.

ليس لسبب بعينه انفجر بركان الخليج، بقدر ما هو لمجمل أعمال قطر ومنازعتها للدور السعودي، فضلاً عن تدخلها في ملف الوراثة الحرج.