الانشغال بالموصل والرقة لتبرير التخلي عن حلب

واشنطن إذن مصرة على الاستغلال الأقصى لشعار «أولوية القضاء على داعش»، واعتبار كل ما عدا هذه المهمة التي رسمتها لنفسها، محاولة لتشتيت اهتمامها وتعديل حساباتها بما لا يتناسب مع مصالحها واستراتيجيتها، بما في ذلك التطورات السورية، خصوصاً في حلب التي تبدو كأنها غير معنية بوقف تدميرها وإنقاذ مدنييها.

واشنطن إذاً مصرة على الاستغلال الأقصى لشعار «أولوية القضاء على داعش»
ساقت الولايات المتحدة وحلفاؤها من «أصدقاء سوريا» الغربيين خلال السنتين المنقضيتين على ظهور تنظيم «داعش»، مجموعة من الشعارات شكلت غطاء لتحركاتهم العسكرية والسياسية. وكان تعبير «ترتيب الأولويات» وتلويناته، الأكثر استخداماً من جانبهم كلما ارتفعت المطالبات لهم بالتحرك لتخفيف الضغط عن المعارضة السورية، أو دُعوا إلى اتخاذ موقف يردع الهجمات المستشرية عليها.

وهكذا ظهر شعار «أولوية الحرب على الإرهاب» ليغطي قراراً بغض الطرف عن التدخل العسكري والسياسي الإيراني في شؤون العراق وسورية، ثم قراراً آخر بإشراك موسكو في إدارة الملف السوري إلى جانب طهران وميليشياتها، قبل أن تنجح روسيا في التحول إلى طرف مقررٍ في هذا النزاع وتبدأ تدريجاً في رفع سقف شروطها ومطالبها.

واليوم، يترافق بدء معركة الموصل والانخراط الأميركي بقوة فيها، مع حملة تصريحات تدّعي أن الخطر الذي يمثله التنظيم الإرهابي على الغرب سيتقلص إلى حدود كبيرة في حال استعادة المدينة منه، علماً أن معظم الاعتداءات التي شنت في مدن أوروبية وأعلن «داعش» مسؤوليته عنها، نفذتها في الغالب خلايا محلية، ولو بتعليمات من قيادة التنظيم في سورية والعراق. والقضاء على هذه المجموعات المتطرفة المزروعة في أوروبا أو المتسللة إليها يتطلب جهوداً متشعبة من نوع آخر، بينها إنهاء أزمة اللاجئين بإزالة أسباب نزوحهم ووقف الحرب في بلادهم.

أما الحقيقة الأخطر، فهي عِلم الأميركيين المسبق بأن معركة الموصل ستكون صعبة وطويلة جداً، بسبب رفض «داعش» الانسحاب منها، وتحضيراته المكثفة لمواجهة شرسة عبر زرع الألغام وتفخيخ المباني، وحيازته ترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة التي تركها له الجيش العراقي بعد انسحابه، وقدرته على شن هجمات في مناطق عراقية أخرى لتخفيف الضغط عن مقاتليه. ويؤكد أكثر من مسؤول عسكري أميركي في تصريحات موثقة أن المدينة قد تشهد أطول حرب شوارع في التاريخ إذا ما نجح الجيش العراقي وميليشيات «الحشد الشعبي» وقوات «البيشمركة» الكردية في اختراقها، فضلاً عن التعقيدات التي ستولدها مشاركة الميليشيات الشيعية الممولة والمسلحة من إيران في المشهد الديموغرافي والسياسي اللاحق.

ومع ذلك، فإن واشنطن أخذت في حسابها كل الاعتبارات، لذا اقترح عسكريوها مباشرة معركة الرقة، عاصمة «الخلافة»، قبل الانتهاء من استعادة الموصل، في حال اختار «داعش» سحب قواته إليها عبر المنفذ الذي تُرك في غربها عمداً لهذا الغرض. لكن معركة الرقة في حال تقررت لن تشهد أي مشاركة للقوات النظامية السورية أو الروسية المشغولة بتعزيز مواقعها في «سورية المفيدة»، بل سيكون الجهد الأساس المبذول فيها من جانب المعارضة السورية والأكراد، وسيخرج هؤلاء منها منهكين.

واشنطن إذن مصرة على الاستغلال الأقصى لشعار «أولوية القضاء على داعش»، واعتبار كل ما عدا هذه المهمة التي رسمتها لنفسها، محاولة لتشتيت اهتمامها وتعديل حساباتها بما لا يتناسب مع مصالحها واستراتيجيتها، بما في ذلك التطورات السورية، خصوصاً في حلب التي تبدو كأنها غير معنية بوقف تدميرها وإنقاذ مدنييها.

أي أن الأميركيين، بكلام آخر، يمنحون روسيا وبشار الأسد الفرصة الزمنية اللازمة للاستيلاء على حلب بكاملها، بعد استقدام الروس تعزيزات بحرية وجوية وصاروخية ضخمة لهذا الغرض، تحت أنظار واشنطن وسائر الغربيين، وتأكيدهم أن المحاولات الديبلوماسية توقفت جميعها. ويبقى الأمل في أن تتمكن المعارضة السورية من الصمود مدة تكفي لكسر إرادة آلة القتل الروسية، ولو أنه أمل فيه الكثير من التفاؤل.