"نيويورك تايمز": الجيش الأميركي ليس جاهزاً لعصر الحرب الجديد
العالم اليوم يتّجه نحو ثورة تقنية تكاد تكون جذرية في المجال العسكري وأنظمة الأسلحة المستقلة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، ولكنّ الجيش الأميركي ليس مستعدّاً لذلك.
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقال رأي للكاتبين راج شاه وهو الشريك الإداري لشركة "Shield Capital" التكنولوجية، وكريستوفر كيرشوف، الذي ساعد في بناء وحدة الابتكار الدفاعي التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، تحدّثا فيه عن عدم استعداد الجيش الأميركي لخوض ومواجهة حرب يتمّ استخدام الطائرات المسيّرة فيها.
أدناه نصّ المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
لقد كانت حرب ماتابيلي الأولى في غرب زيمبابوي بين شركة "جنوب أفريقيا" الاستعمارية البريطانية وسكّان المنطقة من مُحاربي نديبيلي، أولى المعارك التي تنبّأت بأنّ مُستقبل الحروب سيشهد تطوّراً غير مسبوق، ولا يُمكن توقّعه. فلقد استخدم الإنكليز في هذه الحرب نحو 700 جندي وقلّة من المساعدين الأفارقة و5 مدافع "مكسيم"، هي أوّلُ سلاح آلي بالكامل يُسْتخدم للمرّة الأولى في التاريخ، لصدّ أكثر من 5000 من مقاتلي نديبيلي، الذين قُتل منهم نحو 1500 بمقابل حفنة قليلة من الجنود البريطانيين.
مع ذلك، ما فرضه "مكسيم" من تطوّر على مفهوم الحرب، لم يظهر حجمه إلا حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، حيث انبلج عصر حرب الخنادق منهياً سلاح الفرسان الأساسي في الجيوش عبر التاريخ منذ العصر الحديدي.
قبل أسابيع، شهد العالم على حدث مماثل من حيث الأهمّية والمعنى لاستخدام مدفع "مكسيم" آنذاك، حيث سحب الجيش الأوكراني دبّابات القتال "أبرامز إم 1 إيه 1" التي قدّمتها الولايات المتّحدة من خطوط المواجهة، بعد أن دمّرت طائرات مسيّرة انقضاضية روسية العديد منها، مع أنّها أقوى الدبابات الحديثة على الصعيد العالمي، وشكّل خروجها إلى الخطوط الخلفية للجبهة إعلاناً عن نهاية الحرب الآلية التقليدية المعتمدة على الإنسان. فعالم اليوم يتّجه نحو ثورة تقنية تكاد تكون جذرية في المجال العسكري وأنظمة الأسلحة المستقلة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، ولكن الجيش الأميركي ليس مستعدّاً للانتقال السريع إلى هذا المستوى المفارق تماماً على ما تعوّد عليه من احتكار السلاح الفعّال وانتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي في كلّ مكان.
وفيما يحدث هذا كلّه، لا يزال البنتاغون يُنفق أغلب أمواله على أنظمة أسلحة قديمة. ولا يزال يعتمد على نظام إنتاج تقني مُكلّف بصناعة الدبّابات والسفن وحاملات الطائرات التي يمكن للأجيال الجديدة من الأسلحة المستقلة ذاتياً والأسرع من الصوت أن تقضي عليها تماماً، وحتّى على تلك الأجهزة التي لا تعتمد بالكامل على الذكاء الاصطناعي، وتستخدم تكنولوجيات قريبة منه في الاستهداف والاستشعار والتوجيه.
لقد أصبح استعمال التكنولوجيا متزايداً لصالح هذه الأنظمة. مثلاً، قد أدّى استخدام حزب الله لطائرات مسيّرة مُحمّلة بالمتفجرات إلى تشريد ما لا يقلّ عن 60 ألف إسرائيلي جنوب الحدود اللبنانية. ويستخدم أنصار الله في اليمن طائرات مسيّرة يتحكّمون فيها عن بعد لتهديد 12% من قيمة الشحن العالمية التي تمرّ عبر البحر الأحمر، وها هي ناقلة النفط "سونيون" العملاقة جانحة ومشتعلة. وفي هجوم طُوفان الأقصى في العام الماضي استخدمت حركة حماس طائرات مسيّرة رباعية المراوح وربّما استخدمت بعض قدرات الذكاء الاصطناعي لتعطيل أبراج المراقبة الإسرائيلية بطول جدار غزّة الحدودي، بما سمح لما لا يقلّ عن 1500 مقاتل بالهجوم حيث قتل مئات الجنود من الإسرائيليين.
وانظروا مثلاً إلى وحش السماء العالي، أي طائرة "أف 35"، الموصوفة بالمقاتلة الشبحية من الجيل الخامس باسم "الكمبيوتر الطائر" لقدرتها على دمج بيانات الاستشعار مع الأسلحة المتقدّمة. لكنّ قدرة نظام الطائرة الذي تبلغ تكلفته تريليوني دولار ضعيفة في مُعالَجَةِ البيانات وهي أقلّ من قدرة العديد من الهواتف الذكية. ففي الوقت الذي كانت فيه أوّل طائرة "أف 35" لا تزال تنطلق على المدرّج، كانت أحدث التقنيّات قد حلّقت مُتجاوزة إيّاها بالفعل، بغضّ النظر عن أنّ هذه الطائرة مصمّمة خصيصاً للجيش الأميركي ومنفصلة عن بيئة التكنولوجيا الاستهلاكية. ومنذ العام 2001 تجمّد إنتاجها إلى حدّ كبير، أي العام الذي تعاقد فيه البنتاغون مع شركة "لوكهيد مارتن". واليوم، تتطوّر "أف 35" ببطء من خلال ترقيتها التقنية الثالثة وتزويدها بمعالجات أحدث، لكنّها لا تزال بعيدة عن قدرات المعالجات الحديثة. وتكمن القضية الأساسية هنا في أنّ نظام دورة تحديث الأجهزة هذه تمنع "أف 35" من الاستفادة من التطوّرات المتسارعة في مجالات الذكاء الاصطناعي.
لا شكّ، في أنّ أجهزة الهواتف الذكية لن تحلّ محلّ طائرات "أف 35". ولكنّ الجيش الأميركي، يحتاج إلى منصّات فريدة للمقاتلات الشبحية والغوّاصات، وإلى تقنيات أحدث، في مجال الطائرات المسيّرة. لأنّ جميع أنظمة الأسلحة، قديمها أو جديدها، تحتاج إلى الاستفادة الكاملة من ثورة البرمجيات والذكاء الاصطناعي وهي ثورة يقودها في المقام الأوّل وادي السليكون، وليس المقاولون المتعهّدون في الصناعات الدفاعية الأميركية، ولا بدّ مِن الدمج بين نظامي الإنتاج التقني الحكومي والخاصّ، وهذا هو الآن أحد أهمّ أهداف البنتاغون. وبالفعل قد بدأت وحدة ابتكار الدفاع التابعة له في وادي السليكون في عام 2015، بإدخال التكنولوجيا التجارية المبتكرة إلى الجيش والذكاء الاصطناعي من ضمنه. وتعمل الوحدة المذكورة بطريقة شركات رأس المال الاستثماري أكثر ممّا تعمل بطريقة مكاتب البرنامج العسكري الحكومي. وقد استحدثت طريقة أسرع للشركات الناشئة للتعاقد مع الجيش تستخدمها وزارة الدفاع اليوم للحصول على تكنولوجيا بقيمة 70 مليار دولار.
لكن لا يزال هناك الكثير ممّا يجب القيام به. ففي حين أنّ ميزانية وحدة ابتكار الدفاع أكبر 30 مرّة، ممّا كانت عليه في أوّل عام بدأت فيه العمليات، إذ يبلغ إجماليها الآن ما يقرب من مليار دولار سنويّاً، مع أنّ البنتاغون يُنفق بنسات فقط على الابتكار مُقابل كلّ دولار يُنفقه على الأنظمة القديمة. وتمثّل مبادرة "ريبليكيتور" فقط 0.59% من ميزانية الدفاع في الوقت الذي يقوم فيه خصوم الولايات المتّحدة بتحوّلات هائلة. بطبيعة الحال، لا تحتاج الصين إلى وحدة ابتكار الدفاع، إذ أصدر الرئيس شي جين بينغ، وسلفه هو جين تاو، أمراً يقضي بتوفير التكنولوجيا المدنية لجيش التحرير الشعبي. وهذا الاقتصاد الذي تديره الدولة من أعلى إلى أسفل يجهد في مجال أجهزة الحاسوب الكمومية والأسلحة النووية والصواريخ الفائقة لسرعة الصوت، ويطلق في مداره 13000 قمر صناعي موازٍ لأقمار "ستارلينك".
هذا هو السباق الحضاري الذي تخوضه الولايات المتّحدة. والسؤال الآن هو ما إذا كان بوسعنا تحقيق هذا التحوّل في الوقت الملائم لردع حرب القوى العظمى المقبلة والانتصار في الصراعات الصغيرة التي تُهدّد بتطويق الولايات المتّحدة وحلفائها.
لقد أعلن الرئيس دوغلاس ماك آرثر في عام 1940 بشكل مؤثّر أنّه يمكن تلخيص تاريخ الفشل في الحروب في كلمتين تقريباً، "فات الأوان". وبعد 84 عاماً، وعشية التوتّرات التي لا تختلف كثيراً عمّا سبق في صراعات القوى العظمى السابقة، من الأفضل أن ننتبه إلى تحذير ماك.
نقله إلى العربية: حسين قطايا