"نيويورك تايمز": أميركا وأفغانستان وثمن الخداع الذاتي

هناك فجوة هائلة بين الواقع وما كان كبار المسؤولين الأميركيين يزعمونه أمام الأميركيين لعقدين، أنّ نجاح المهمّة في أفغانستان كان قاب قوسين أو أدنى.

  • الجيش الأميركي في أفغانستان
    الجيش الأميركي في أفغانستان

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقالاً كتبه جون سوبكو، الذي يشغل منصب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان منذ عام 2012، تحدث فيه عن الخداع الذي قامت به الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ غزو الجيش الأميركي أفغانستان، إذ أوهمت العالم ونفسها أنّها نجحت في مهمّتها في ذلك البلد، فيما كان الواقع بعيداً من النجاح بشكل كبير، وفق قوله.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

حين انهارت حكومة أفغانستان المدعومة من الولايات المتّحدة، بعد انسحابها من ذلك البلد في شهر آب/أغسطس في العام 2021، انكشف أنّ ما اشتراه الأميركيون بالأرواح والأموال على مدى 20 عاماً من الوجود هناك ضاع سدى. كذلك، كشف عن فجوة هائلة بين الواقع وما كان كبار المسؤولين الأميركيين يزعمونه أمام الأميركيين لعقدين، أنّ النجاح كان قاب قوسين أو أدنى.

وكوني المفتّش العامّ المختصّ بإعادة إعمار أفغانستان منذ عام 2012، قمت أنا وزملائي بالتحقيق وبمراجعة البرامج والإنفاق الأميركي على المهمّة التي كان من المأمول أن تحوّل "مقبرة الإمبراطوريات" القبلية إلى "ديمقراطية ليبرالية" حديثة. ومن خلال مئات التقارير على مدى 12 عاماً، استطعنا تفصيل قائمة طويلة من المشكلات النظامية في مساعي الحكومة الأميركية لتنفيذ استراتيجية متماسكة، إذ عزّزت توقّعات طموحة للغاية، بينما قامت بمشاريع غير مستدامة، ولم تفهم ثقافة أفغانستان وخصوصيّتها وحاجات البلاد وشعبها. وكانت الوكالات الأميركية تقيس النجاح ليس بما أنجزته، بل بما أنفقته من مال باعتباره مهمات منجزة.

مع اقتراب الوكالة من إصدار تقريرها النهائي هذا العام، لا بدّ من سؤال أساسي ونادر، لماذا أكّد العديد من كبار المسؤولين للكونغرس وللجمهور الأميركي خلال 20 عاماً، أنّ النجاح في أفغانستان كان يلوح في الأفق، حين كانت الحقيقة عكس ذلك تماماً، بتبرير أنّ استمرار المهمّة في أفغانستان أمر ضروري للمصالح الوطنية، لكن الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن خلصا إلى أنّها ليست كذلك.

يفترض على إدارة ترامب المقبلة والكونغرس وخصوصاً دافعي الضرائب الأميركيين، أن يتساءلوا كيف حدث كلّ هذا، حتّى تتجنّب البلاد نتائج مماثلة في أوكرانيا وغزّة وسوريا ومناطق الحرب الأخرى. ويجب أن يبدأ الحديث عن المعنى الذي كان من المفترض أن يعنيه "النجاح" في أفغانستان، حيث كان العديد من الأميركيين يعملون على مرّ السنين لأجل تحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية المهمّة في القضاء على ملاذ الإرهابيين، وتأمين مستقبل أفضل للشعب الأفغاني.

لكن الحوافز الملتوية كانت تحرّك نهجنا هناك. ومن أجل الفوز بالترقيات والرواتب الأكبر، كان القادة العسكريون والمدنيون يشعرون بأنّهم مضطرّون إلى بيع نشاطاتهم ومشاريعهم باعتبارها نجاحات، عندما لم تكن كذلك. وكان القادة يسلطون الضوء على المعلومات الإيجابية، ولا يتورّعون عن حجبها حين تكون سلبية، ففي نهاية المطاف، لن تؤدّي إخفاقاتهم إلى خسارة منصب سفير أو الترقية إلى رتبة جنرال.

بالنسبة إلى المقاولين الذين اعتمدت عليهم البعثة الأميركية في إدارة ودعم البرامج والمشاريع، كانت ادّعاءات النجاح سواء كانت حقيقية أو وهمية أمراً ضروريّاً للحصول على أعمال مستقبلية. وعلى هذا أصبح الإنفاق مقياساً للنجاح، كما هو في واشنطن حيث تعدّ الموازنات غير المنفقة علامة على الفشل، مع أنّ المساءلة عن كيفية الإنفاق كانت ضعيفة، لدرجة أنّ أحد الجنرالات واجه تحدّياً، في كيفية إنفاق المليار دولار المتبقّي من ميزانيته السنوية في غضون شهر واحد فقط، ولم تكن إعادة الأموال إلى مصدرها خياراً وارداً بالطبع. وقال مسؤول آخر حدّثنا، إنّه رفض إلغاء مشروع بناء بملايين الدولارات لم يرغب القادة الميدانيون في تنفيذه، لأنّ التمويل كان لا بدّ من إنفاقه، مع أنّ المنشأة لم تستخدم المبنى أبداً.

وكما قال لي أحد المستشارين العسكريين الأميركيين السابقين أيضاً، إنّ النظام بأكمله أصبح أشبه بإصبع الآيس كريم الذي يلتهم نفسه، إذ يتزايد الإنفاق من المال بشكل دائم لتبرير الإنفاق السابق. ومع أنّ الموظّفين قد تبدلوا، لكن تكرّرت الحلول القديمة لسنوات. وفي الوقت نفسه، كانت العديد من المشكلات التي واجهتها البرامج الأميركية خارجة عن سيطرتنا ببساطة. وأظهر الانهيار المفاجئ للحكومة الأفغانية وصعود حركة طالبان أنّ الولايات المتحدة لا تستطيع شراء رؤية إيجابية للأفغان لفساد حكومة بلادهم ولنوايا أميركا.

وبعد أكثر من عقدين من الزمن على غزو أفغانستان، وبعد سقوط المقاطعات الأفغانية مثل أحجار الدومينو في صيف عام 2021، تحت حكم طالبان مجدداً، لا أتذكّر أيّ مسؤول كبير أخبر الكونغرس أو الشعب الأميركي أنّ الفشل كان احتمالاً حقيقيّاً هناك.

سوف يفصل تقريرنا النهائي ما يقوله لنا العديد من الخبراء وكبار المسؤولين الحكوميين الآن، بعد أن نظروا إلى الوراء، ووجدوا أنّ التحدّيات الأساسية حكمت على أيّ احتمال حقيقي للنجاح في الأمد البعيد بالفشل. وزعم البعض أنّ القرارات التي اتّخذت في وقت مبكر يعود إلى عام 2002، مثل الشراكة مع أمراء الحرب ورفض إشراك طالبان في المناقشات حول مستقبل أفغانستان، كانت بمنزلة تمهيد لفشل حتمي. وألقى آخرون باللوم على ضعف التنسيق بين الوكالات، والفساد الأفغاني المستشري، والجهل بالثقافة المحلّية، والمسافة الكبيرة بين الأهداف الأميركية وواقع أفغانستان الفعلي.

كانت هناك أوقات هامّة أتاحت أمام المسؤولين الأميركيين فرصة أن يعترفوا خلالها بالحقيقة. مثلاً، قبل أن تبدأ الولايات المتّحدة في عام 2014 في نقل المسؤولية عن الأمن إلى الأفغان، أدلى عدد من الجنرالات والمسؤولين الأميركيين بتصريحات متفائلة عن أن القوّات الأفغانية ستكون فعّالة في محاربة طالبان، وأنّ الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان احتويت، وأنّ الانتخابات الأفغانية كانت ديمقراطية ونزيهة، وهي تقييمات لا تتّفق مع التقارير التي ترفعها وكالتي إلى الكونغرس أو مع ما هو قائم. وفي عام 2013، قال أحد كبار المسؤولين إنّ أفغانستان قد تثبت أنّها أكثر جهود إعادة الإعمار نجاحاً على مدى ربع القرن الماضي.

حين سقطت مدينة قندوز في عام 2015 بيد طالبان التي بدأت باستعادة السيطرة على الحكم بعد خلعها منه في العام 2001. وقد كان الحدث كافياً لتبخّر وهم أنّ القوّات الأفغانية قادرة على الصمود، مع أنّ بناء هذه القوّات كان حجر الزاوية في جهود إعادة الإعمار الأميركية، التي كان نجاحها سيمهّد الطريق للانسحاب الأميركي في نهاية المطاف، لكن بدل النظر إلى الواقع، كان لا بدّ من الحفاظ على الرواية الوردية لو كانت تعاكس الواقع.

والحقيقة أنّ مقاتلي طالبان الذين كانوا مسلّحِين ببنادق ودرّاجاتٍ نارية تعود إلى حقبة الحرب الباردة كانوا يتفوّقون في كثير من الأحيان على قوّات الحكومة الأفغانية التي كانت مجَهّزة بأحدث المعدّات وبدعم من سلاح الجوّ الأميركي. وكان الدافع الديني يحرّك طالبان لأجل تطهير البلاد من الغزاة الأجانب وما يعدونه حكومة عميلة نصّبتها واشنطن. وكان أفراد الجيش الأفغاني يعانون انخفاض الروح المعنوية ومن مشكلات لوجستية مزمنة ومشكلات كثيرة في الدفاع، بالإضافة إلى الفساد المستشري ما تركهم غير مهتمين إلا برواتبهم. 

من وجهة نظري، كانت التصريحات الرسمية للإدارات الرئاسية الأميركية المتعاقبة، غير صحيحة في معظم الأحيان. وقبل 6 أيّام فقط من انهيار الحكومة الأفغانية، أعلن السكرتير الصحفي للبنتاغون أنّ أفغانستان لديها أكثر من 300 ألف جندي وضابط من ضمنهم شرطة الأمن، على الرغم من تحذيرات مكتب المفتّش العامّ لسنوات من أنّ لا أحد يعرف حقّاً عدد الجنود ورجال الشرطة المتاحين ولا ماهيّة قدراتهم العمليّاتية. وفي وقت مبكّر من عام 2015، كنت قد أبلغت الكونغرس أنّ المسؤولين الأفغان الفاسدين كانوا يسجّلون أسماء لجنود وضباط شرطة وهميّين في قوائمهم كي يأخذوا رواتبهم.

وفي بعض الأحيان، أخفيت معلومات مهمّة لقياس نجاح المبادرات بشكل متعمّد عن الكونغرس والجمهور الأميركي، من ضمنها التقييمات التي موّلتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والتي خلصت إلى أنّ الوزارات الأفغانية غير قادرة على إدارة المساعدات المالية الأميركية. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها البيروقراطية الأميركية لمنع هذه المعلومات عن العامّة، فقد كشف مكتبي عنها.

إنّ المصالح الخاصّة تشكّل جزءاً كبيراً من المشكلة الحاصلة. في الماضي حذّر الرئيس دوايت أيزنهاور ذات يوم من النفوذ المتزايد الذي يخلّفه "المجمّعُ العسكري الصناعي" على البلاد. واليوم، هناك مجمّعات متعدّدة لعدّة قطاعات في التنمية والمساعدات الإنسانية، ومكافحة الفساد والشفافية، وحماية المرأة والأشخاص المهمّشين، وغير ذلك الكثير. ولا شكّ في أنّ هذه كلّها قضايا خيرة ونبيلة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بأفغانستان، فإنّ المنظّمات التي تعمل تحت هذه المظلّات، سواء بدافع الإيثار أو بدوافع أكثر أنانية، ساهمت في التقييمات المفرطة في التفاؤل للوضع من أجل الحفاظ على تدفّق الأموال، حيث الوهم الذي يخدم المصالح الذاتية هو العدوّ الأكثر شراسة لأميركا.

لا يزال هذا الوهم مستمرّاً حتّى اليوم. فوفقاً للبيانات التي قدّمتها وزارة الخزانة لمكتبي، قامت الولايات المتّحدة منذ عام 2021 بتحويل 3.3 مليار دولار إلى أفغانستان لأغراض إنسانية، من خلال المنظّمات الدولية. وتساعد بعض هذه الأموال الشعب الأفغاني، ويذهب بعضها الآخر إلى طالبان. واستجابة لطلب من الكونغرس، أفاد مكتب المفتّش العامّ منذ سنة، أنّه بين الانسحاب الأميركي في آب/ أغسطس 2021 وحتّى شهر أيّار/مايو الماضي، دفع الشركاء المموّلون من الولايات المتّحدة ما لا يقلّ عن 10.9 مليون دولار على شكل ضرائب ورسوم لسلطات طالبان. كذلك، منذ نحو 7 أشهر، أظهرنا أنّ مكتبين من أصل 5 تتبّع لوزارة الخارجية لم يتمكّنا من إثبات أنّ المتعاقدين معهم في أفغانستان قد خضعوا لفحص كاف لضمان عدم استفادة المنظّمات الإرهابية من أعمالهم.

الآن تمرّ أغلب المساعدات المقدّمة إلى أفغانستان وغيرها من البلدان التي مزّقتها الحرب، عبر مكاتب الأمم المتحدة التي تتمتّع بضعف رقابي. وإذا كنّا راغبين في مواصلة تقديم أموال دافعي الضرائب الأميركيين إلى هذه المنظّمات، فلا بدّ أن يكون ذلك مشروطاً بحصول وكالات الرقابة الأميركية على حقّ الوصول الكامل إلى مشاريعها وسجلّاتها لضمان وصول التمويل إلى الناس الذين من المفترض مساعدتهم.

في أفغانستان، كان مكتب المفتّش العامّ هو الوكالة الحكومية الوحيدة التي تقدّم تقارير موثوقة عن الوضع الميداني، وقد واجهنا معارضة شديدة من جانب المسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية والمنظّمات التي تدعم برامجها. ولم نتمكّن من القيام بعملنا إلّا لأنّ الكونغرس منحنا الحرّية للعمل بشكل مستقلّ. ولكنّ المفتّشين العامين في الجيش ووزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية لا يتمتّعون بمثل هذا الاستقلال. وإذا كنّا نريد إصلاح نظام معطّل يضع البيروقراطيين والمصالح الخاصّة في مرتبة أعلى من دافعي الضرائب، فالخطوة الأولى في أن يكون جميع المفتّشين العموميين الفيدراليين مستقلين تماماً. 

في النهاية، إذا لم نزل معوّقات الإفصاح عن الحقيقة في حكومتنا، فسوف نستمرّ في الفشل في الداخل والخارج، بينما نكافئ أولئك الذين يبرّرون الفشل وهم يتحدّثون عن النجاح، ربّما بإهدار مليارات الدولارات. إنّ دافعي الضرائب الأميركيين يستحقون أفضل من هذا.

نقله إلى العربية: حسين قطايا

مع بدء الولايات المتحدة تطبيق خطة الانسحاب من أفغانستان، بدأت حركة "طالبان" تسيطر على كل المناطق الأفغانية، وتوجت ذلك بدخولها العاصمة كابول، واستقالة الرئيس أشرف غني ومغادرته البلاد. هذه الأحداث يتوقع أن يكون لها تداعيات كبيرة دولياً وإقليمياً.