"فورين أفيرز": الولايات المتحدة تخوض حرباً تجارية خاسرة
لم تنجح الرسوم الجمركية في إحياء قطاع التصنيع الأميركي، وفي الواقع قد تتمكن من طمسه.
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر تقريراً تتحدث فيه عن عواقب سياسة واشنطن برفع الرسوم الجمركية على الدول المنافسة على الاقتصاد والأمن القومي الأميركي.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
لكل من كامالا هاريس ودونالد ترامب رؤاه المختلفة تماماً لمستقبل الولايات المتحدة. فهما يختلفان بشكل كبير عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الاجتماعية كالإجهاض، ولم يتفقا على زيادة الضرائب أو خفضها. ومن الممكن أن يأخذا مسار السياسة الخارجية الأميركية في اتجاهات متعارضة، خاصةً عندما يتعلّق الأمر بتحالف البلاد مع أوروبا.
ومع ذلك، يتفق المرشحون الديمقراطيون والجمهوريون على قضية واحدة تتمثل بسياسة الحماية. فقد اقترح ترامب فرض رسوم جمركية شاملة تتراوح بين 10% و20% على الغالبية العظمى من السلع. وكانت هاريس أكثر انتقاداً للرسوم الجمركية الشاملة، إلّا أنّه وفقاً لناطق باسم حملتها الانتخابية، فإنها "تفرض رسوماً جمركية هادفة واستراتيجية لدعم العمال الأميركيين، وتعزيز اقتصادنا، ومساءلة خصومنا".
وهذا التوافق ليس مستغرباً. فعلى مدى العقد الماضي، اكتسبت سياسة الحماية دعماً من الحزبين، وخلال السنوات الأربع التي قضاها في منصبه، فرض ترامب رسوماً جمركية على المواد المستوردة من الحلفاء والخصوم على حدّ سواء. وقد وعد الرئيس جو بايدن بالدخول في عصر تجاري مختلف، متعهداً بالعودة إلى التعددية. ومع ذلك، حافظت إدارته على جميع الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب وأضافت رسوماً جديدة ووسعت أحكام "شراء المنتجات الأميركية" التي تلزم الوكالات الفيدرالية بشراء المنتجات المحلية.
ووفقاً لكل من بايدن وهاريس وترامب، فإن هذه القيود تحمي الصناعات الأميركية من المنافسة الأجنبية. إذ يعتقدون بأن الرسوم الجمركية يمكن أن تعزز الأمن القومي والنمو الاقتصادي وتستعيد الوظائف العمالية، التي يزعمون أنها اندثرت نتيجة المنافسة على الواردات. وخلال حملته الانتخابية عام 2016، صرّح ترامب قائلاً: "سأعيد التفاوض بشأن اتفاقياتنا التجارية الكارثية. ولن نبرم سوى اتفاقيات تجارية عظيمة تضع العامل الأميركي في المقام الأول. كما سنعيد عمّال المناجم والصلب لدينا إلى العمل".
صحيح أن التنافس على الواردات، وتحديداً الواردات الصينية، يكلف الولايات المتحدة الوظائف في قطاع التصنيع. إلا أنّ الساسة مخطئون عندما يقترحون أن سياسة الحماية من شأنها أن تساعد في خلق فرص العمل. وقد كشفت دراسة جديدة أجريناها باستخدام بيانات التجارة والتوظيف الحديثة أنّ منافسة الواردات الصينية لم تعد عاملاً لتشجيع التوظيف في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة. وقد توقفت الولايات المتحدة عن التركيز على وظائف التصنيع بعد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل وقت طويل من بدء واشنطن فرض رسوم على المنتجات الصينية. وظلّت حصة الوظائف الأميركية في قطاع التصنيع ثابتة حتى مع استمرار نمو الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة بين عامي 2011 و2018. وبقيت ثابتة منذ ذلك الحين، حتى مع قيام ترامب بتطبيق الرسوم الجمركية وتراجع الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة.
باختصار، تخوض الولايات المتحدة حربها التجارية الأخيرة. فسياساتها الراهنة مصممة لفترة انقضت منذ وقت طويل، وهي لا تعمل على توسيع سوق العمل. في الواقع، ربما تقوم بمنع التوظيف. واستناداً إلى بحثنا، تساعد التجارة مع الاقتصادات النامية شركات التصنيع الأميركية على توظيف المزيد من العمال، عن طريق تسهيل عملية استيراد المقوّمات لصالح هذه الشركات بشكل كبير.
ولذلك، يتعين على واشنطن أن تتبنى استراتيجية مختلفة. وبدلاً من اتباع سياسات الحماية، يتوجب عليها أن تركز على تقليص الحواجز وتعزيز الروابط الاقتصادية العالمية. والأهم من ذلك، يتعيّن عليها أن تعطي الأولوية لإيجاد السبل الكفيلة بضمان قدرة جميع الأميركيين على الاستفادة من العولمة. ويُعد تحقيق ذلك أفضل طريقة لمساعدة العمال في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم.
إضاعة الفرص
شهد قطاع التصنيع الأميركي في بداية التسعينيات منافسة كبيرة مع الصين. وقد جعل الاستثمار المذهل للبلاد في النمو الاقتصادي القائم على التصدير والأجور المنخفضة نسبياً من الصعب جداً على الصناعات التحويلية الأميركية ذات المهارات المنخفضة التنافس في الأسواق العالمية والمحلية. ونتيجة لذلك، أغلقت الكثير من الشركات مصانعها وسرحت عمّالها.
وكانت هذه الخسائر في الوظائف كبيرة. واستناداً إلى بحث أجراه الخبراء الاقتصاديون روبرت فينسترا، وهونغ ما، ويوان شو، فقد أدى النمو السريع للواردات الصينية إلى فقدان نحو 1.5 مليون وظيفة في الولايات المتحدة بين عامي 1991 و2011. وارتفعت مستويات الفقر والإدمان في المناطق التي تضم عدداً كبيراً من العمال المتضررين، في حين انخفضت معدلات الزواج والخصوبة. ولجأ الكثير من هؤلاء العمّال وأقاربهم إلى ترامب، الذي وعد بالحد من التجارة مع الدول الأخرى وإعادة تشغيل العمالة. وقد ساعده دعمهم في الفوز بالولايات الديمقراطية التقليدية مثل ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسنن، والوصول إلى البيت الأبيض.
وبصفته رئيساً، حاول ترامب الوفاء بوعده. وفرض رسوماً جمركية على كلّ من الصين والمكسيك. وبدأ بفرض رسوم على الواردات من كندا والاتحاد الأوروبي. وبالتالي، أدت الرسوم الجمركية إلى انخفاض الواردات وانخفاض الصادرات الأميركية أيضاً. والأهم من ذلك، فشلت رسومه الجمركية كأجندة لخلق فرص العمل. وتبيّن أنّ "صدمة الصين" قد انتهت قبل أن يتولى ترامب منصبه. ومنذ ذلك الحين، لم يعد للواردات الصينية أي تأثير كبير على التوظيف في الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً لبحثنا، لم تلحق التجارة مع الدول الأخرى الضرر بسوق العمل في الولايات المتحدة. ولم تحقق حصة الوظائف الأميركية في قطاع التصنيع نمواً في عهد ترامب ولا في عهد خليفته.
استعادة القوّة
لم تنجح الرسوم الجمركية في إحياء قطاع التصنيع الأميركي، لكنها قد تتمكن من طمسه. وتساهم الصين بنسبة 16.5% فقط من إجمالي واردات الولايات المتحدة. ويأتي الباقي من مجموعة من البلدان الأخرى، بما في ذلك الكثير من الاقتصادات الناشئة، ولا سيّما البرازيل والهند والمكسيك وكوريا الجنوبية وتايلاند وفيتنام. وعندما اطلع فريقنا على تجارة الولايات المتحدة مع هذه الأسواق الناشئة، وجدنا أنّ الواردات قد ساهمت بشكل إيجابي في التوظيف في قطاع التصنيع الأميركي. وبين عامي 2011 و2019، أوجدت الواردات من هذه الاقتصادات نحو 500 ألف وظيفة أميركية، تركزت في عدد من المناطق نفسها التي فقدت وظائفها لصالح الصين قبل عقد من الزمن. والسبب وراء هذا النمو بسيط؛ إذ تميل شركات التصنيع الأميركية إلى إنتاج سلع معقدة تحتوي على مدخلات تستورد من أجزاء أخرى من العالم. ونتيجة لذلك، يصبح لديها وقت أفضل في النمو والتوظيف عندما تكون أسعار الواردات معقولة.
وبعيداً من نشوب خطر احتمال مواجهة المصدرين الأميركيين لرسوم انتقامية، فإنّ هوس واشنطن بالرسوم الجمركية يحوّل الانتباه عن قوة البلاد في مجال الخدمات. وتفرض قطاعات الخدمات التجارية، كالبرمجيات والهندسة والبحث والتطوير والخدمات المالية، أكثر من ضعف عدد العمّال الأميركيين مقارنة بقطاع التصنيع بمتوسط أجور أعلى. وهي توفّر الملايين من فرص العمل للعاملين غير الحاصلين على تعليم جامعي. والكثير من هذه القطاعات هي شركات مصدرة والشركات الأميركية فيها هي شركات رائدة عالمياً. ومع ذلك، فإنّ الكثير من البلدان تضع عوائق كبيرة أمام التجارة في الخدمات، ما يحد من الفرص المتاحة للأميركيين. وبدلاً من زيادة الرسوم الجمركية على السلع، ينبغي لصناع السياسات في الولايات المتحدة التركيز على تقليل العوائق أمام تجارة الخدمات؛ الأمر الذي من شأنه أن يساعد في خلق المزيد من فرص العمل في قطاع الخدمات التجارية.
وتساعد هذه التجارة في خلق فرص عمل أميركية، وهي أخبار جيدة لكل من العمال الأميركيين والعاملين في الخارج الذين ينتجون السلع المصدرة إلى البلاد. وهذا يعني أن الجميع يكسب عندما تنخرط الولايات المتحدة في التجارة العالمية. ولكنه يعني أيضاً أن المقترحات الخاصة بتطبيق الرسوم الجمركية، ولا سيّما تلك الشاملة، كما أعلن ترامب، على الواردات الأميركية يمكن أن تلحق الضرر بسهولة بالعمال الأميركيين والأجانب على حدّ سواء.
بعض الباحثين والمسؤولين الذين يقبلون أنّ للتعريفات الجمركية عيوباً اقتصادية لا زالوا يعتقدون بأنها ضرورية لأغراض الأمن القومي. ويجادلون بأنّ واشنطن يجب أن تقطع تجارتها مع الصين تحديداً لتجنب دعم تقدّم بكين، والتأكد من أنّ الصناعات الأميركية لن تعتمد أبداً على الواردات الصينية. لكن الرسوم الجمركية، كغيرها من تدابير الحماية الأخرى، أدوات حادة يمكن من خلالها معالجة المخاوف المتعلقة بالأمن القومي. ومن أجل الحد من المخاطر في سلاسل التوريد الضرورية للأمن القومي، يتعين على المسؤولين الأميركيين بدلاً من ذلك اتباع سياسات بديلة تستهدف بوضوح حماية الأمن القومي مع تقليل التكاليف الاقتصادية.
إنّ التحديات التي تواجه الولايات المتحدة لا تكمن في العولمة بحد ذاتها. وفي الواقع، يمكن للرسوم الجمركية الشاملة أن تجعل الولايات المتحدة أقل أماناً. وفي حال طبقت واشنطن تدابير حماية واسعة النطاق وعشوائية، فقد ترد الدول الأخرى بالمثل. وعليه، قد تؤدي هذه الحرب التجارية إلى زعزعة الاستقرار. ووفقاً لعدد من علماء السياسة، فإنّ التجارة في السلع والخدمات تساعد في تعزيز السلام من خلال ربط الاقتصادات ببعضها البعض، ما يتطلب من الدول تبني معايير وممارسات مشتركة ويستلزم التعاون بين المسؤولين. كما أنّ قطع هذه العلاقات أو إضعافها من شأنه أن يزيد من خطر نشوب صراع بين الدول.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.