"ذا إنترسبت": إرهاب الطائرات من دون طيّار.. أميركا تتجرّع سمّها

تحليق طائرات من دون طيّار مجهولة الهوية فوق مدن الولايات المتّحدة، يصدم المسؤولين الأميركيّين الذين يبحثون عن تفسيرات لهذه الظاهرة.

  • تحليق طائرات بدون طيّار مجهولة الهوية فوق مدن الولايات المتّحدة
    تحليق طائرات من دون طيّار مجهولة الهوية فوق مدن الولايات المتّحدة

موقع "ذا إنترسبت" الأميركي ينشر تقريراً للكاتب نيك تورس، تحدّث فيه عن إرهاب الطائرات من دون طيّار الذي تمارسه الولايات المتحدة على عدد من الدول، واليوم تتجرّع سمّه بعد رصد تحليق طائرات من دون طيّار مجهولة الهوية فوق مدنها.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

تحليق طائرات من دون طيّار مجهولة الهوية فوق مدن الولايات المتّحدة، يصدم المسؤولين الأميركيين الذين يبحثون عن تفسيرات لهذه الظاهرة. وفي الأسبوع الماضي، أرسل حاكم ولاية نيوجيرسي فيل مورفي رسالة إلى الرئيس جو بايدن، أعرب فيها عن قلقه المتزايد من هذه النشاطات، وطلب مساعدة فيدرالية للتحقّق منها بشكل تامّ. وكان 3 أعضاء في الكونغرس هم كوري بوكر وآندي كيم وتشاك شومر، أرسلوا خطاباً إلى وزير الأمن الداخلي أليخاندرو مايوركاس، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي، ورئيس إدارة الطيران الاتّحادي مايكل ويتيكر، يطلبون إحاطة بشأن الطائرات من دون طيّار المزعومة.

وفي الأسبوع الماضي، افترض النائب جيف فان درو في البداية، أنّ الأجسام الطائرة المجهولة ربّما تكون أقلعت من سفينة إيرانية تعمل عن بعد قبالة الساحل الشرقي للولايات المتّحدة. وقال: "سواء كان هذا عدوّاً أجنبياً أو مجرّد مجموعة من هواة الطائرات من دون طيّار، فلا يمكن السماح بالتحليق بحرّية في مجالنا الجوّي من دون عواقب، وقد حان الوقت للقضاء على هذا التهديد".

بعد أن بدأت الظاهرة في ولاية نيوجيرسي، راحت تنتشر هستيريا الطائرات من دون طيّار كالنار في الهشيم، خاصّة بعد التبليغ عن مشاهدات لها في عدة ولايات منها ماساتشوستس وكاليفورنيا، وأدّت إلى إغلاق مؤقت لمطار في نيويورك، كذلك أغلق المجال الجوّي لقاعدة رايت باترسون العسكرية في ولاية أوهايو.

ويتزايد قلق المشرّعين في الكونغرس على نطاق واسع، من غموض هذه النشاطاتِ، ومن أن تكون طائرات الدرون تضمر أمراً خبيثاً. والمفارقة الصارخة أمام المراقبين، أن أميركا تتعرّض لما تقوم به بشكل دائم في استخدام الطائرات المسيّرة للتجسّس على الشعوب في جميع أنحاء العالم من دون موافقتهم ومعرفتهم، وفي كثير من الحالات تقتلهم.

يقول إريك سبيرلينغ من منظّمة "جاست فورين بوليسي" التي تنتقد السياسة الخارجية السائدة في واشنطن إنّه "بعد عقود من استخدام الحكومة الأميركية لطائرات مسلّحة من دون طيّار فوق المدن والقرى في مختلف أنحاء العالم، بدأ الأميركيون يدركون أخيراً مدى الانزعاج الذي يسبّبه تحليق أجسام مجهولة فوق رؤوسهم، حتّى حين لا تقتل الطائرات المسيّرة الناس، فلا ينبغي أن يكون من الصعب إدراك أن الأمر مزعج بضراوة. ولأنّ الساسة الأميركيين لا يحبّون السير في أحذية الآخرين، آمل أن تساعدهم هذه الحوادث على فهم أنّ مراقبة البلدان الأخرى لن تكسب الولايات المتّحِدة قلوب وعقول شعوبها".

منذ أكثر من عقدين والولايات المتّحدة تحلّق بطائرات من دون طيار فوق رؤوس ملايين البشر في أراضٍ أجنبية، وتراقبهم عن بعد وتسجّل تحرّكاتهم واتّصالاتهم، وتقوم بغارات قاتلة. ومنذ أولى الضربات الأميركية بالطائرات المسيّرة في أفغانستان عام 2001 واليمن في عام 2002، تمّ قتل آلاف البشر من المدنيين حول العالم من ضمنهم ليبيون وباكستانيون وصوماليون وغيرهم.

في العام الماضي، خلص تحقيق أجراه موقع "ذا إنترسبت" إلى أنّ هجوماً بطائرة أميركية مسيّرة في الصومال في العام 2018 أسفر عن مقتل 3 مدنيين على الأقلّ وربّما 5، بينهم لول ضاهر محمّد (22 عاماً)، وابنتها مريم بعمر 4 سنوات. ولأكثر من 6 سنوات، حاولت الأسرة الاتّصال بالحكومة الأميركية، بما في ذلك من خلال "بوّابة الإبلاغ" عن الضحايا المدنيين عبر الإنترنت التي تديرها القيادة الأميركية في أفريقيا، لكنّها لم تتلقّ أيّ ردّ. وقال أحد أشقّاء لول في العام الماضي: "لقد علموا أنّ أشخاصاً أبرياء قد قتلوا، ولكنّهم لم يخبرونا أبداً بالسبب، أو يعتذروا ولم يحاسب أحد".

أصيبت أسرة لول بأكملها بصدمة نفسية. وعندما رأى ابن شقيق لول طائرة عاديّة تحلّق فوق مزرعتهم، بدأ يهرول خائفاً ومقتنعاً أنّها قد تقتله. وأخبرت الأسرة ابن لول محمّد، الحقيقة بشأن وفاة والدته، ومنذ ذلك الحين حين يرى أو يسمع طنين طائرة مسيّرة، "يهرع للاختباء تحت شجرة ".

على مدى عقود تعيش معظم الشعوب بالعالم في ظلّ الخوف من الطائرات المسيّرة الأميركية، الذي يقابله المسؤولون في واشنطن بصمت مطبق. وفي وقت سابق من هذا العام طردت "العصابة" الحاكمة في النيجر الجيش الأميركي من القواعد العسكرية المخصّصة للطائرات المسيّرة، التي تقوم بمهمّات غامضة وخفية عن النيجريين الذين كانوا يعيشون تحت أعين أميركا التي لا يرفّ لها جفن.

بِالقرب من القاعدة العسكرية الأميركية في بلدة أغاديز الشمالية في النيجر، أعرب السكّان عن مخاوفهم عند الحديث عن الطائرات من دون طيّار. واشتكّت النسوة في المنطقة اللّاتي تحدّثن بشرط عدم الكشف عن أسمائهنّ خوفاً من الانتقام، من الضوضاء والأبخرة المقبلة من القاعدة الأميركية، وقلقهنّ من ضجيج الطائرات الصغيرة التي تحلّق في منتصف الليل.

"نحن خائفون"، قالت إحداهنّ مرتدية حجابها الوردي، وأضافت: "أعيش في المنطقة منذ ما قبل بناء القاعدة الأميركية التي لا أحد يعرف ماذا يفعلون داخلها، فقط نرى الأضواء الحمراء والزرقاء تومض فوقنا، لا نعرف إلى ماذا ينظرون".

كذلك، أعربت ماريا لامينو غاربا، مديرة مجموعة لإعادة التدوير في تادريس في النيجر، التي تعمل مع الشباب العاطلين من العمل لجمع المواد القابلة لإعادة التدوير، عن مخاوف مماثلة بشأن العيش تحت المجهر الأميركي. قالت العام الماضي: "إنّهم يحلّقون فوق رؤوسنا دائماً وغالباً في الليل، أو في الصباح الباكر. إنّه أمر مخيف. نعتقد أنّهم يراقبوننا".

إنّ الأميركيين مثل فان درو، الذي أطلق شائعة أنّ الطائرات المسيّرة تنطلق من سفينة إيرانية، ثمّ تراجع عنها، يتذوّقون الآن ما هو ممارس في مختلف أنحاء العالم، من ضمنهم أسرة لول وابنتها مريم، وأنّ احتمالات العيش تحت طائرات من دون طيار تابعة لدولة أخرى وخاصّة القاتلة منها أمر مروّع.

وفي دراسة أجريت في العام 2012 على المدنيين في باكستان من قبل كلّيتي الحقوق في جامعة ستانفورد وجامعة نيويورك، أظهرت أنّ "سياسات الضربات الجوّية الأميركية بالطائرات المسيّرة تسبّبت بأضرار جسيمة وغير ملحوظة في الحياة اليومية للمدنيين العاديين، إلى جانب الموت والإصابة الجسدية".

ووجد الباحثون أنّ الوجود المستمر للطائرات من دون طيّار في الأجواء، والخوف من وقوع ضربة في أيّ وقت، وعدم قدرة الناس على حماية أنفسهم أرعب الرجال والنساء والأطفال، وأصابهم بالصدمات النفسية.

في اليمن شنّت الولايات المتّحدة بين أعوام 2013 و2018، 6 غارات بطائرات من دون طيار، وفي إحداها أسفر الهجوم عن مقتل 36 فرداً من عائلتين يمنيتين مصاهرتين، ولم ينجُ الأحياء من تداعيات الهجوم النفسية وخاصّة الأطفال. ويقول أحد أفراد العائلة: "لقد تأثّر الجميع في القرية، وعادة لا يستطيعون النوم بشكل سليم بسبب الخوف. ولا يستطيعون حتّى تناول الطعام بشكل طبيعي، والأطفال يخافون من الخروج واللعب، وبعضهم يعاني مرضاً نفسيّاً حاليّاً بسبب مشاعر الخوف المستمرّة".

وفي دراسة أجرتها مؤسّسَة الكرامة لحقوق الإنسان في عام 2015، وجدت أنّ اضطراب ما بعد الصدمة "متفشٍ للغاية" بين اليمنيين الذين يعيشون في قريتين متجاورتين تعمل في أجوائهما الطائرات المسيّرة الأميركية، حيث يعاني الكثيرون من القلق المستمرّ واضطرابات النوم بما في ذلك الكوابيس والأرق. وقال 96% من الأطفال الذين قوبلوا إنّهم يخشون أن يؤدّي هجوم بطائرة من دون طيّار إلى إلحاق الضرر بهم أو بأسرهم أو مجتمعهم. وأضافت الدراسة أنّ "الشعور بالخوف يتفاقم بين الأطفال عندما يسمعون أيّ صوت يشبه طنين الطائرات من دون طيّار".

ولا يقتصر الخوف والقلق على الأطفال، بحسب ما كتبه الصحافي ديفيد رود، الذي اختطفته حركة طالبان الأفغانية في عام 2008 واحتجزته في المناطق القبلية في باكستان، إذ قال: "كانت الطائرات من دون طيّار مرعبة للذين هم تحتها، ومن المستحيل تحديد من أو ماذا تتعقّبه، بينما تحلّق وضجيج المراوح البعيدة بمثابة تذكير دائم بالموت الوشيك".

ووفقاً لدراسة أجريت في العام 2017، كشفت أنّ السكّان الذين يتعرّضون لنشاط مستمرّ للطائرات من دون طيّار يبلّغون عن ردود فعل كبيرة حيث يفرّون ويختبئون ويصاب بعضهم بالإغماء، وضعف الشهيّة، وأعراض نفسية جسدية مختلطة، والاستيقاظ المفاجئ من النوم والهلوسة. ويظهر أنّ خوف المدنيين يشلّ أنشطتهم اليومية، مثل مغادرة منازلهم، والعمل، وحضور المناسبات الاجتماعية، وإرسال أطفالهم إلى المدارس.

يقول المحلّل السياسي البارز في الاتّحاد الأميركي للحرّيات المدنية جاي ستانلي إنّ "هناك سبب يجعلنا نعتبر الخصوصية حقاً من حقوق الإنسان، فلا أحد يريد أن يشعر وكأنّهُ يعيش تحت عين ساورون"، باستعارة من الفيلم السينمائي "سيّد الخواتم"، حيث عين ساورون في الفضاء تراقب حياة الجميع. ويضيف ستانلي: "هذا شيء لا ينبغي للولايات المتّحدة أن تفرضه على الناس في الخارج، ولا ينبغي للأميركيين التسامح معه في مجتمعاتهم".

يعتقد البعض أنّ هناك احتمالاً كبيراً بأن تكون العديد من الطائرات المسيّرة التي شوهدت فوق ولاية نيوجيرسي طائرات تقليدية، وربّما نماذج تجريبية. لكنّ الذعر الذي أحاط بهذه المشاهدات يكشف عن أمر أساسي متّصل بقلق الأميركيين، كما قال جاي ستانلي: "في تجربتي العمل على قضايا الخصوصية من تتبّع الإنترنت وأمان البيانات، أجد أنّ المراقبة الجوّية ذات تأثير قوي على الناس، لأنّ قيام جهة ما بتتبّع معاملاتي المالية وبناء ملفّ شخصي عنّي أمر تجريدي إلى حدّ كبير، ومختلف عن وجود كاميرا فيديو آليّة تحوم فوق الرؤوس وهو أمر ملموس للغاية، وهذا ما يثير الذعر". 

وفي الحقيقة، لن تتمكّن عائلات الضحايا في أفريقيا، أو في اليمن وباكستان وغيرها من الدول، من الحصول على ضمانات معقولة من السلطات بأنهم آمنون تماماً من الأجسام الطائرة المجهولة، مثل تلك التي حصل عليها الأميركيون.

في الأسبوع الماضي، رفض مستشار الأمن القومي جون كيربي المخاوف بشأن مشاهدات الطائرات المسيّرة فوق بعض المدن الأميركية. وقال "ليس لدينا حاليّاً أيّ دليل على أنّ هذه المشاهدات تشكّل تهديداً للأمن القومي أو السلامة العامّة أو لها صلة بدولة أجنبية".

يتعيّن على أعضاء الكونغرس أن يفهموا أنّ مراقبة الناس بطائرات من دون طيار ليست أمراً طبيعيّاً، ويتوجّب عليهم تطبيق هذا الإدراك عندما يتعلّق الأمر بالسياسة الخارجية للولايات المتّحدة، التي قامت على مدى أكثر من عقدين من الزمن، باستخدام الطائرات المسيّرة فوق رؤوس ملايين البشر ومشاهدتهم وتسجيل حركتهم، وقتل بعضهم أحياناً.

نقله إلى العربية: حسين قطايا