"ذي ايكونوميست": من غزة إلى أوكرانيا.. الحروب والأزمات تتراكم
الوضع اليوم لم يعد كما كان في السابق. فلا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها التدخل بسهولة في الحروب المشتعلة وبتكلفة منخفضة كما كانت تفعل سابقاً. فخصومها، كالصين وروسيا، غدوا أكثر حزماً وتعاوناً فيما بينهم.
تحت عنوان "من غزة إلى أوكرانيا.. الحروب والأزمات تتراكم"، إلامَ ستفضي الجهود التي يبذلها الدبلوماسيون والجنرالات؟ تناولت صحيفة "ذي إيكونوميست" البريطانية مأزق الولايات المتحدة الذي يفاقمه تراكم الأزمات والحروب وصعوبة احتواء الوضع حال توسع الجبهات.
واعتبر المقال أن الفوضى العالمية الجديدة تعرّض القدرة المؤسسية للولايات المتحدة وحلفائها للإجهاد بينما تعمل على استنزاف قدراتهم العسكرية.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
يشهد العالم في الوقت الراهن أوقاتاً عصيبة. فالحرب الدائرة بين "إسرائيل" وحماس في غزة قد تشهد توسعاً في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتواجه أميركا وإيران من خلف الستار. والحرب الأوكرانية، التي تُعدّ الأضخم منذ عام 1945، تسير في نفق مظلم لا نهاية واضحة له حتى الساعة. وتتعرّض تايوان لتهديدات الطائرات والسفن الحربية الصينية التي يتزايد عددها يوماً بعد آخر بوتيرة سريعة، ويُرجح أن تتسبّب الانتخابات التي تلوح في الأفق في الجزيرة بمزيد من الاضطرابات. بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت حدّة الصراعات الأهلية في كلّ من مالي وميانمار والسودان في الأسابيع الأخيرة.
إن تزاحم الأزمات اليوم ليس سابقة في أي شكل من الأشكال. ويشير المؤرخ سيرغي رادشينكو إلى ذلك بالحديث عن الدخول السوفياتي للمجر وأزمة قناة السويس التي رافقته في عام 1956، والأزمات التي شهدها لبنان ومضيق تايوان في عام 1958 والسنوات المضطربة بين عامي 1978 و1979، عندما قامت الصين بالدخول إلى فيتنام، بالإضافة إلى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وغزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان مرّات عدّة. وفي عام 1999، اندلعت بين الهند وباكستان، المسلحتين حديثاً بالصواريخ النووية، حربٌ في إقليم كشمير تزامناً مع قصف حلف شمال الأطلسي للقوات الصربية في يوغوسلافيا.
لكن الوضع اليوم لم يعد كما كان في السابق. فلا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها التدخل بسهولة في هذه الحروب وبتكلفة منخفضة كما كانت تفعل سابقاً. فخصومها، كالصين وروسيا، غدوا أكثر حزماً وتعاوناً فيما بينهم. وكذلك هو الحال بالنسبة لقوى عدم الانحياز، بما في ذلك الهند وتركيا، التي تتمتع بنفوذ متزايد في رسم الأحداث البعيدة وتعتقد أن نظاماً جديداً وأكثر ملاءمة يوشك على الظهور. بالإضافة إلى ذلك، تستحوذ على العالم فكرة احتمال نشوب حرب مباشرة بين القوى العظمى، ما يفرض على الدول التيقظ لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل بالتزامن مع معالجة الأمور الراهنة والحالات الطارئة التي قد تظهر.
تزايد عدد الجهات المؤثرة في الصراعات
لقد أصبحت القوى العظمى أكثر انقساماً بشأن قضايا كان من الممكن أن تدفعها ذات يوم في الاتجاه نفسه. ففي منطقة الشرق الأوسط، على سبيل المثال، اقتربت روسيا من حماس، ما أدى إلى نسف سنوات من الدبلوماسية الحذرة مع "إسرائيل". أما الصين، التي أصدرت في حروبها الماضية بيانات مطمئنة تحث على وقف التصعيد، فقد استغلت الأزمة لانتقاد دور الولايات المتحدة في المنطقة. وباستثناء بعض رجال السياسة الأقوياء أمثال فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، قطعت معظم الدول الغربية علاقاتها مع روسيا. وحتى الحوار مع الصين باتت تهيمن عليه التهديدات والتحذيرات بشكل متزايد بدلاً من الجهود الرامية إلى معالجة المشكلات المشتركة ومنها تغير المناخ. ولعلّ الاجتماع المخطط له بين الرئيسين جو بايدن وشي جين بينغ في كاليفورنيا في الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر مثال واضح على ذلك، على الرغم من التذمر بشأن التوصل إلى اتفاق حول التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي.
هذا ويشهد العالم تحولاً آخر يتمثل في التقارب المتزايد بين خصوم أميركا. وفي هذا السياق، قال ستيفن هادلي، الذي عمل في مجلس الأمن القومي الأميركي في السبعينيات وفي البنتاغون في الثمانينات قبل أن يصبح مستشار الأمن القومي الخاص بجورج دبليو بوش في عام 2005: "تعمل كلّ من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران على إنشاء محور يناهض بنسخته النظام الدولي الذي تتولّى قيادته الولايات المتحدة الأميركية". لقد عززت الحرب في أوكرانيا الشراكة بين روسيا والصين. ولم تعلن الدولتان عن إبرام تحالف رسميّ بينهما، إلّا أنهما أجرتا في حزيران/يونيو سادس مناورة عسكرية مشتركة في غربي المحيط الهادئ.
وأعقب ذلك إجراء مناورة بحرية مشتركة في المنطقة في آب/أغسطس امتدت على مسافة 13 ألف كيلومتر. كما زودت إيران وكوريا الشمالية روسيا بالأسلحة مقابل حصولهما على التكنولوجيا العسكرية؛ وبالتالي، أدّى ذلك إلى تورّط عدد أكبر من الأطراف في الصراع. فالأزمة التي تشمل عدواً واحداً قد تؤدي بصورة مطردة إلى جذب عدو آخر.
فضلاً عن ذلك، لا تستقطب كل أزمة مزيداً من الأعداء فحسب، بل تجرّ أيضاً عدداً أكبر من الجهات الفاعلة. فقد حضر رؤساء كلّ من أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية قمتي حلف الناتو الماضيتين في أوروبا. ولم يكن الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا هذا العام ليحدث لولا إدخال القذائف الكورية الجنوبية إلى البلاد. كما أثبتت تركيا نفسها كمورد رئيسي للأسلحة في جميع أنحاء المنطقة، حيث أعادت تشكيل الصراعات في ليبيا وسوريا وأذربيجان باستخدام التكنولوجيا العسكرية الخاصة بها ومن خلال مستشاريها. وتخطط الدول الأوروبية بصورة أوثق لكيفية الاستجابة للأزمة المتعلقة بتايوان. وعليه، فإن الأزمات تنطوي على متغيرات أكثر بالنسبة لهذه الدول.
يعكس هذا الأمر تحولاً أوسع في توزيع السلطة الاقتصادية والسياسية. إنّ فكرة "التعددية القطبية"، وهو مصطلح لم يكن يستعمل في السابق سوى في البحوث الأكاديمية يشير اليوم إلى عالم لا تتركز فيه القوة في مكانين، كما كان الحال في الحرب الباردة أو في مكان واحد كما كانت الحال في حقبة التسعينيات التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة لكن في أماكن متعددة، قد دخلت المعترك الديبلوماسي السائد. وفي أيلول/سبتمبر، أشار سوبرامانيام جيشانكار، وزير الخارجية الهندي، إلى أنّ الولايات المتحدة، التي تواجه "العواقب طويلة الأجل لحربها في العراق وأفغانستان"، في إشارة منه إلى حربين فاشلتين، والتدهور الاقتصادي النسبي، "تتكيف مع عالم متعدد الأقطاب".
الحجة قابلة للنقاش. في مقال نُشر له حديثاً، زعم جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، أنّ أميركا أصبحت الآن في وضع أقوى مما كانت عليه عندما كانت غارقة في تلك الحروب. وكتب: "إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تقاتل في أفغانستان، فمن المحتمل جداً أن تفعل روسيا كل ما في وسعها الآن لمساعدة طالبان على إعاقة عمل واشنطن هناك، ومنعها من تركيز اهتمامها على مساعدة أوكرانيا"؛ وهذا أمر منطقي. وممّا لا شك فيه أن صورة الولايات المتحدة الأميركية قد اهتزّت.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في شباط/فبراير، أنّ أكثر من 61% من الروس والصينيين، و51% من الأتراك، و48% من الهنود يتوقعون عالماً ترسم معالمه إما التعددية القطبية أو الهيمنة الصينية. وفي خطابه الأخير بشأن حالة الاتحاد في كانون الثاني/يناير 2016، أصر باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأميركية آنذاك، على أنه "في كل قضية دولية مهمة، لا تتطلع شعوب العالم إلى بكين أو موسكو لتوليها، بل تتوجه إلينا". وبعد مرور 7 سنوات، باتت الأمور أقل وضوحاً.
وقد نتج عن كل هذه الأحداث فوضى عارمة. فالولايات المتحدة وحلفاؤها تريان في هذه الفوضى تهديدات متزايدة بينما ترى روسيا والصين فيها فرصاً كثيرة. أمّا القوى الوسطى، التي تتودد إليها القوى الأكبر وتشعر بالقلق إزاء الخلل الوظيفي المتنامي الذي تعاني منه مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة، فترى في هذه الفوضى كلا الأمرين. وكتب شيفشانكار مينون، الذي شغل منصب وزير الخارجية الهندي ومستشار الأمن القومي، في مقال له نشر العام الماضي: "هناك نوع من الفوضى يتسلل إلى العلاقات الدولية". وأوضح أنّ الأمر "لم يكن فوضى بالمعنى الدقيق للكلمة، بل غياب للمبدأ التنظيمي المركزي أو للدولة المهيمنة".
وقد تفاقمت هذه النزعة نتيجة بروز توجهات أخرى. تشكل أزمة المناخ أحد هذه التوجهات، وهي تزيد من خطر تمدد الصراع في أجزاء كثيرة من العالم، وتخلق من خلال الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر مصادر جديدة للمنافسة، مثل المنافسة على المواد الحيوية التي تشكل أهمية بالغة لتوربينات الرياح والمركبات الكهربائية. ويتمثل التوجه الثاني بتسارع وتيرة التغير التكنولوجي، مع تحسن الذكاء الاصطناعي بمعدل هائل وبروز عواقب لا يمكن التنبؤ بها. أما التوجه الثالث، فيجسد العولمة التي تربط الأزمات ببعضها البعض بطرق جديدة. فالصراع حول تايوان، على سبيل المثال، من شأنه أن يسبب اضطراباً حاداً في قطاع أشباه الموصلات؛ وبالتالي في الاقتصاد العالمي.
ويتلخص التوجه الرابع في الموجة المتصاعدة للنزعة القومية والشعبوية، التي تصيب المحاولات الرامية إلى حل كل هذه المشكلات العالمية. وفي كتاب لهما نُشر عام 2021، أشار كلّ من كولن كال، الذي استقال مؤخراً من منصبه كوكيل وزارة الدفاع للسياسات الخارجية في البنتاغون، وتوماس رايت، المسؤول الكبير في مجلس الأمن القومي، إلى توقف التعاون الدولي خلال جائحة كوفيد-19، بعد مسارعة الدول إلى إغلاق حدودها وحماية أنفسها. وأوضحا أنّه "نتيجة لجميع الأغراض العملية، اندثرت مجموعة السبع. ووجّهت السياسات الوبائية الضربة القاضية للنظام الدولي القديم".
من مكان إلى آخر
إن الفوضى العالمية الجديدة تعرّض القدرة المؤسسية للولايات المتحدة وحلفائها للإجهاد بينما تعمل على استنزاف قدراتهم العسكرية. وبدءاً من النظر إلى الضغوطات المؤسسية، قال هادلي إنّ الحرب الباردة شكّلت "عالماً مُنظّماً". وهو يعترف بوجود تحديات عالمية، لكن كثيراً منها كان مجرد مجموعات فرعية تابعة لصراع القوى العظمى الأكبر. أمّا بالنسبة لمستشاري الأمن القومي في فترة ما بعد الحرب الباردة، فإن الأمر أشبه بالطهي على موقد ذي ثماني شعلات، على كل منها قدر، وكل من هذه القدور يوشك على الغليان".
إن العالم الذي تحدث فيه المزيد من الأزمات في وقت واحد يفرض على القادة والجهات الدبلوماسية المكلفين بإدارتها نوعين من التحديات. إحداها المشكلة التكتيكية المتمثلة في مكافحة عدد من الحرائق في آنٍ واحد. وفي هذا السياق، يقول دبلوماسي بريطاني كبير سابق إن الأزمات تميل إلى أن يكون لها تأثير مركزي، حيث يتولى رؤساء الوزراء أو رؤساء البلاد المسؤولية الشخصية عن القضايا التي قد تكون مشتتة بين وزارتي الخارجية والدفاع. وقد يكون النطاق البيروقراطي محدوداً بشكل مذهل، حتى في الدول الكبيرة والقوية.
وغالباً ما يدرك الدبلوماسيون المنغمسون في حل الأزمات أن أوقاتهم تتسم بالفوضى بشكل استثنائي. وقد أشارت البارونة كاثرين أشتون، التي شغلت منصب وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي في الفترة الممتدة بين 2009 إلى 2014، إلى أنها كانت تعمل على ملفات "الربيع العربي" والبرنامج النووي الإيراني والنزاع بين صربيا وكوسوفو في الوقت عينه. وقد صرّحت بالقول في إشارة منها إلى الثورة التي اندلعت في كييف عام 2014: "لا زلت أذكر بوضوح شديد عندما بدأت الأزمة الأوكرانية الحيرة التي تملّكتني بشأن قدرتنا على التعامل مع كل هذه القضايا".
ومن ضمن هذه القضايا نذكر المنافسة التي تحولت إلى صراع. إذ كانت الحرب في أوكرانيا منهكة للدبلوماسية بشكل خاص. وتستذكر البارونة أشتون أنه عندما بدأت الأزمة الأوكرانية في عام 2014، كان فريقها المفاوض بشأن المحادثات النووية مع إيران في فيينا يضم نائب وزير الخارجية الروسي. فسافرت إلى كييف لإدانة التدخل الروسي، بينما سافر هو إلى موسكو لإدانة الاتحاد الأوروبي. ثم عدنا وجلسنا على طاولة الحوار وأكملنا محادثاتنا بشأن إيران". إلّا أنّ هذا النوع من التقاسم السريع بات مستحيلاً.
ينحصر عمل مجلس الأمن القومي الأميركي على الأساسيات. ويرجع ذلك جزئياً إلى عدم رغبة الكونغرس في تمويل موظفي البيت الأبيض. وفي مقال لها نُشر عام 2016، استذكرت جوليان سميث، سفيرة الولايات المتحدة الحالية لدى حلف الناتو، الفترة التي قضتها كنائب لمستشار الأمن القومي الخاص ببايدن عندما كان نائباً للرئيس فقالت: "غالباً ما يشتمل اليوم النموذجي على 4 إلى 6 ساعات من الاجتماعات المتتالية حول أي شيء بدءاً من سوريا إلى الأمن السيبراني ثم كوريا الشمالية، يليها قراءة 150 إلى 500 رسالة بريد إلكتروني يومياً. لقد كانت قدرتي على التخطيط أو التفكير بخطط اليوم التالي في المكتب أو تعميق معرفتي بأي قضية منفردة شبه معدومة".
إن توقع تمثيل كبار المسؤولين لبلادهم في الأزمات غالباً ما يفرض ضغوطاً هائلة على مجموعة من الأفراد. فقد قضى أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، كل ساعات يقظته تقريباً في التنقل بين عواصم الشرق الأوسط على مدار الأسابيع الستة الماضية. وسافر مؤخراً من الشرق الأوسط إلى طوكيو لحضور اجتماع لوزراء خارجية مجموعة السبع، ثم إلى الهند ومنها إلى سان فرانسيسكو. وكذلك هو الأمر بالنسبة للسيد سوليفان.
بالقلم والسيف
حتى لو تمكن الدبلوماسيون من إدارة عدة قضايا بنجاح، فإن تزامن الأزمات يمثل مشكلة استراتيجية أكبر عندما يتعلق الأمر بالقوة العسكرية. تُظهر الأزمة الحالية في الشرق الأوسط أن القوة العسكرية تشكل مورداً نادراً، حالها حال القدرة الدبلوماسية. وحتى في السنوات الأخيرة، كان مسؤولو البنتاغون يتباهون بالنجاح الذي تحقق أخيراً في إعادة توازن القوة البحرية من الشرق الأوسط إلى آسيا، بعد عقدين من مكافحة التمرد في أفغانستان والعراق. أمّا اليوم، فقد انعكس هذا الاتجاه تحت وطأة الأحداث الجارية.
شكّل دخول حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" والسفن المصاحبة لها البحر الأحمر في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر المرة الأولى التي تعمل فيها حاملة طائرات أميركية في الشرق الأوسط منذ عامين. وكانت التدريبات التي أجرتها في وقت سابق مع حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر فورد" بمثابة استعراض ضخم للقوة بشكل استثنائي. وفي حال استمرت الحرب في غزة أو اتسعت رقعتها، فقد تحتاج القوات البحرية الأميركية إلى الاختيار بين البقاء في مكانها وخلق فجوات في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك آسيا، أو تشجيع نشاط إيران في المنطقة.
في غضون ذلك، يزداد اعتقاد المسؤولين الغربيين بأنّ الحرب في أوكرانيا يمكن أن تستمر لمدة 5 سنوات أخرى، في ظل عدم استعداد روسيا أو أوكرانيا للاستسلام، وعدم قدرتهما على الخروج من هذه الأزمة. يعتقد الكثير من مسؤولي الاستخبارات الأميركية، وبعض المسؤولين الآسيويين، أن خطر وقوع هجوم صيني على تايوان سيكون أشد وطأة في نهاية هذا العقد. ومع ذلك، فإنّه من السابق لأوانه الحديث عن أي هجوم في ظل عدم استعداد الصين، وقد فات الأوان لشن هجوم في ظل مواجهة الصين لتراجع محتمل في أعداد السكان وظهور جيل جديد من التكنولوجيا العسكرية الغربية.
إنّ القدرة العسكرية للغرب ستتعرض لضغوطات هائلة في السنوات المقبلة، حتى من دون نشوب أيّ حرب. وتُعدّ الحرب في أوكرانيا بمثابة إشعار بكمية الذخيرة المستهلكة في الحروب الكبرى، ومدى شُح مستودعات الأسلحة الغربية ووسائل تجديدها على أرض الواقع. وتعمل الولايات المتحدة على زيادة إنتاجها من القذائف المدفعية من عيار 155 ملم بشكل كبير. وحتى مع ذلك، يُرجح أن يكون إنتاجها في عام 2025 أقل من إنتاج روسيا في عام 2024.
وتوضح الحربان الدائرتان في أوكرانيا وغزة هذه الضغوطات. إذ تخوض "إسرائيل" وأوكرانيا نوعين مختلفين من الحروب. وتحتاج أوكرانيا إلى صواريخ بعيدة المدى لضرب شبه جزيرة القرم، ومركبات مدرعة للسماح للمشاة بالتقدم في مواجهة الشظايا ومعدات إزالة الألغام لاختراق حقول الألغام الشاسعة. وتريد "إسرائيل" استخدام قنابل ذكية يتم إسقاطها جواً، بما في ذلك القنابل الخارقة للتحصينات، والصواريخ الاعتراضية الخاصة بمنظومة القبة الحديدية للدفاع الجوي، التي يتم إطلاقها بمعدل استثنائي. إلّا أنّ هذا الأمر يُفضي إلى حصول تداخل في مصالح الطرفين.
في العام الماضي، لجأت الولايات المتحدة إلى استخدام مخزونها من القذائف في "إسرائيل" لتسليح أوكرانيا. وفي تشرين الأول/أكتوبر، اضطرت إلى تحويل بعض القذائف التي كانت سترسلها إلى أوكرانيا باتجاه "إسرائيل". كذلك يستخدم كلا الجانبين نظام الدفاع الصاروخي "باتريوت"، الذي يستهدف الطائرات والصواريخ الأكبر حجماً. وكذلك يفعل الحلفاء الآخرون في الشرق الأوسط: ففي 19 تشرين الأول/أكتوبر، استخدمت المملكة العربية السعودية بطارية باتريوت لاعتراض الصواريخ المتجهة إلى "إسرائيل" التي تم إطلاقها من اليمن. ومن المرجح أن يرتفع استهلاك أوكرانيا من الصواريخ الاعتراضية بشكل ملحوظ خلال فصل الشتاء مع قيام روسيا، التي خزنت الصواريخ لأشهر، بإطلاق وابل متواصل من القذائف ضد شبكة الكهرباء في أوكرانيا.
قد تتمكن الإدارة الأميركية من إرضاء حليفيها في الوقت الراهن. ففي الأسابيع الأخيرة، تعهدت فرنسا وألمانيا بزيادة المساعدات لأوكرانيا. وفي حال طال أمد إحدى الحربين أو كليهما، ستحلّ الكارثة. وكتب مارك كانسيان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث في واشنطن: "مع مرور الوقت، سنشهد مقايضات مع تحويل بعض الأنظمة الرئيسة إلى إسرائيل. وعليه، فإنّ بعض الأنظمة التي تحتاجها أوكرانيا لشن هجومها المضاد قد لا تكون متاحة بالأعداد التي ترغب فيها."
أما المشكلة الأكبر، فتتمثل فعلياً في عدم قدرة الإدارة الأميركية على تسليح نفسها وحلفائها في الوقت عينه. وقد أشار إسكندر رحمان من جامعة جونز هوبكنز في بحث جديد له عن الحروب المطوّلة إلى أنّه "في حال كانت خطوط الإنتاج الخاصة بنا تكافح بالفعل لتلبية متطلبات الدولة الأوكرانية من الأسلحة، فإنّها ستكون مرهقة تماماً في حال نشوب صراع فعليّ طويل الأمد مع خصم مثل الصين".
وتشير هذه التحديات إلى توترات أعمق في استراتيجية الدفاع الأميركية. فمنذ عام 1992، تمسك المخططون العسكريون الأميركيون بما كان يعرف بمعيار "الحربين". فكان على القوات المسلحة الأميركية أن تكون مستعدة لخوض حربين متزامنتين متوسطتي الحجم ضد قوى إقليمية، مثل العراق أو إيران، بدلاً من خوض حرب كبيرة واحدة. وفي عام 2018، غيرت إدارة ترامب هذا المعيار إلى معيار "الحرب الواحدة"، التي تُعدّ، من الناحية العملية، التزاماً بالقدرة على خوض حرب إما في أوروبا أو في آسيا، لكن ليس في كليهما في نفس الوقت؛ وقد تمسكت إدارة بايدن بهذا النهج.
وقد هدف هذا النهج إلى بث روح الانضباط في البنتاغون وجعل الغايات متوافقة مع الوسائل. فميزانية الدفاع الأميركية ثابتة تقريباً من الناحية الفعلية، في حين أنّ الإنفاق على الدفاع الصيني قد ارتفع بشكل مُطرد. وبحسب النقّاد، فإنّ معيار الحرب الواحدة يُعدّ الخطر الذي من شأنه أن يغري الأعداء بفتح جبهة ثانية، الأمر الذي قد يجبر الولايات المتحدة إما على التراجع أو اللجوء إلى خيارات غير مجدية، مثل التهديد باستخدام الأسلحة النووية.
تعدد الجبهات
ما هي المخاطر التي قد تواجهها الإدارة الأميركية وحلفاؤها نتيجة عدم امتلاكهما الإمدادات الكافية في المجالين الدبلوماسي والعسكري؟ إذا بقيت الحرب في أوكرانيا جرحاً مفتوحاً في أوروبا وظلت منطقة الشرق الأوسط مشتعلةً، فإنّ العالم الغربي سيُعاني بشدة في حال نشوب أزمة خطيرة أخرى. ويتجلّى أحد هذه المخاطر في استغلال الخصوم للفوضى في أماكن أخرى لتحقيق أهدافهم الخاصة. فعلى سبيل المثال، في حال تورّطت الولايات المتحدة في حرب في منطقة المحيط الهادئ، فمن المؤكد أن إيران ستشعر بثقة أكبر في قدرتها على الإفلات من مسألة تصنيع الأسلحة النووية.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال حدوث تواطئ. إذ يعطي المخططون العسكريون الأوروبيون أهمية لاحتمال قيام روسيا بإجراء مناورات تهديدية أثناء حدوث أزمة تتعلق بتايوان من أجل صرف انتباه الولايات المتحدة وتقييد حلفائها، ومنعهم من مد يد المساعدة في آسيا. وكما في الحرب الباردة، قد يُنظر إلى كل أزمة، مهما كانت صغيرة أو تافهة، على أنها اختبار للقوة الأميركية أو الصينية، ما يجذب انتباه كل دولة إليها.
في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أُهملت الحروب الأهلية وحركات التمرد في جمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي وميانمار والصومال والسودان من الناحية الديبلوماسية، حتى مع استمرار تنامي النفوذ الروسي في منطقة الساحل. وفي الوقت نفسه، في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر، قامت عشرات السفن الصينية بإحاطة السفن الفلبينية من كل جانب، وقذفت إحداها بمدافع المياه، بينما كانت الأخيرة تحاول إعادة إمداد موقع استيطاني في "سكند توماس شول" في بحر الصين الجنوبي، تدّعي الصين أنه ملك لها. وإذا تفاقمت المواجهات، فإنّ بنود معاهدة الدفاع الأميركية مع الفلبين قد تجبر الإدارة الأميركية على التدخل.
نقلتها إلى العربية: زينب منعم.