"بوليتيكو" تحرّض على وساطة ماكرون: بوتين سحقه في موسكو
اختار بوتين طريق التحدّي، معلناً أن القرم جزء من روسيا، وحذّر من أنه إذا انضمّت أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، فإن الدول الأوروبية ستكون "تلقائياً" في حالة حرب مع بلاده.
تناولت مجلة "بوليتيكو" الأميركية المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيس الروسي، فلاديير بوتين، ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في موسكو أمس، بطريقة تحريضية وساخرة من ماكرون، معتبرة أنه لم يواجه مزاعم بوتين بشأن الوضع في أوكرانيا والقرم، بل تفهّم القلق العميق لروسيا وحاجاتها الأمنية، في تناقض صارخ مع تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن.
وقالت المجلة إنه، بعد أكثر من خمس ساعات من المحادثات مع بوتين في موسكو، لم يكن هناك شكّ كبير في دخول ماكرون عرينَ الدب، بحيث تعرَّض للهجوم. فمع حشد أكثر من 100 ألف جندي روسي وأسلحة ثقيلة عند الحدود الأوكرانية، أصرّ الرئيس الفرنسي ومستشاروه على أنه، بالنظر إلى علاقة القادة الغربيين (المتوترة) بروسيا، فإن ماكرون هو في وضع فريد، يستطيع من خلاله إقناع بوتين باتّباع مسار خفض التصعيد.
وأضافت المجلة أنّ بوتين اختار طريق التحدّي بدلاً من ذلك، معلناً أن القرم جزء من روسيا، وحذّر من أنه إذا انضمّت أوكرانيا إلى حلف الأطلسي ("الناتو")، فإن الدول الأوروبية ستكون "تلقائياً" في حالة حرب مع روسيا. وقال، وهو يوجّه إصبعه إلى مراسل فرنسي، إن "روسيا قوة عسكرية عظمى، وقوة نووية عظمى"، وحذّر من أنه "لن يكون هناك منتصرون، وسوف تنجذبون إلى هذا الصراع ضد إرادتكم".
وسخر بوتين من التأكيدات المتكرّرة من جانب القادة الغربيين، والتي مفادها أن حلف "الناتو" هو "تحالف دفاعي"، مستشهداً بعملياته الهجومية في صربيا وأفغانستان وسوريا وليبيا دليلاً على عكس ذلك. وكرّر اقتناعه بأن الثورة في أوكرانيا عام 2014 كانت "انقلاباً". واتَّهم الحكومة الأوكرانية بمحاولة تسوية الحرب الانفصالية في شرقي أوكرانيا بـ"الوسائل العسكرية"، وعرض منح اللجوء السياسي للرئيس الأوكراني السابق، بيترو بوروشنكو، المتَّهَم بالخيانة فيما يتعلق بمبيعات الفحم، بحيث يتّهمه ممثلو الادعاء بأنه ساعد على تمويل "الانفصاليين" المدعومين من روسيا.
وأضاف تقرير المجلة أن بوتين أصرّ على وجوب إجبار الحكومة الأوكرانية على تنفيذ أحكام اتفاقيات مينسك للسلام، لكنّ ماكرون لم يُظهر أيّ ردّ فعل على ذلك، سوى الإصرار على أنَّ من المهم الاستمرار في الحديث. وحتى في هذه النقطة، كان بوتين "فظاً"، وأصرّ على أنه شعر، خلال الاجتماع، بأن ماكرون كان "يعذّبه" من خلال التحدث كثيراً، في محاولته إيجادَ نوع من التسوية، بحسب المجلة.
وقال ماكرون، بعد إعلان بوتين أن شبه جزيرة القرم جزء لا يتجزّأ من روسيا، إنه "تقع على عاتق فرنسا مسؤولية أن تكون لها أقوى علاقة ممكنة بروسيا". وأضاف "نحن دولتان أوروبيتان عظيمتان، وعضوان في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة". وتابع ماكرون أن "الأمر واضح بالنسبة إليّ: روسيا أوروبية. وإذا كان المرء يؤمن بأوروبا، فيجب أن يكون قادراً على العمل مع روسيا، وإيجاد السبل والوسائل من أجل بناء المستقبل في أوروبا، ومع الأوروبيين".
أصداء بوريل
ورأت "بوليتيكو" أن فشل ماكرون في الردّ على تصريحات بوتين الاستفزازية المتعددة، من خلال التصريح بالمواقف الحازمة لفرنسا والاتحاد الأوروبي - على سبيل المثال، أن "روسيا غزت شبه جزيرة القرم، وضمّتها بصورة غير قانونية" - كان بمثابة تذكير بزيارة كارثية لموسكو قام بها، العام الماضي، رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي وقف متفرجاً عندما انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الاتحاد الأوروبي، ووصفه بأنه "شريك غير موثوق به".
وأضافت المجلة أن جهود الرئيس الفرنسي في إظهار القلق العميق، بشأن حاجات روسيا ومصالحها، تتناقض بصورة صارخة مع تصريحات الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي التقى، أمس الإثنين، المستشار الألماني أولاف شولتز في واشنطن، إذ حذّر البيت الأبيض بوضوح من أن خط أنابيب الغاز، "نورد ستريم 2"، الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا، لن يُسمح له ببدء التشغيل إذا هاجمت روسيا أوكرانيا.
لم يكرّر شولتز، في مقابلة مع CNN، هذا التهديد بشأن خط الأنابيب المثير للجدل، لكنه أصر على أن ألمانيا والولايات المتحدة تتصرّفان بخطى ثابتة من أجل الردّ على هجوم روسي على أوكرانيا. وقال "يمكنك أن تفهم، وأن تكون متأكداً تماماً من أن ألمانيا ستكون إلى جانب جميع حلفائها، وخصوصاً الولايات المتحدة، وأننا نتَّخذ الخطوات نفسها". وأضاف شولتز، بينما كان الـمُحاوِر يضغط عليه بسبب سبب عدم تكرار التهديد بإلغاء "نورد ستريم 2"، أن "ما نفعله اليوم هو إعطاء هذه الإجابة القوية جداً لروسيا: إذا غزت أوكرانيا، فسيكون لذلك ثمنٌ باهظ للغاية بالنسبة إليها، الأمر الذي ستكون له تأثيرات كبيرة في اقتصادها وفرص تنميتها. ونحن مستعدون لاتخاذ خطوات ستكون لها تكاليف علينا".
وأضافت المجلة أنه، بينما بدا بايدن وشولتز عازمين على تعزيز الخط المتشدد للغرب، تحدَّث ماكرون بنبرة تتَّسم باسترضاء بوتين، وأعرب مراراً عن مخاوفه بشأن مصالح روسيا، بل أشار إلى "الصدمة" التي مرّت فيها روسيا في الأعوام الثلاثين الماضية، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
وقالت المجلة "لكن بوتين لم يَبدُ مصدوماً. على العكس من ذلك، لقد استخدم مؤتمراً صحافياً عقب الاجتماع للشروع في الهجوم، وطرح مراراً شكاواه ضد حلف "الناتو" وأوكرانيا".
وقال بوتين "أريد أن أؤكد مرة أخرى، على الرغم من أنني ذكرت ذلك فعلاً، وأرغب فعلاً في أن تسمعني جيداً، وتعرض هذه النقطة لجمهورك. إذا كانت أوكرانيا عضواً في "الناتو"، وإذا قررت استعادة شبه جزيرة القرم عبر استخدام الوسائل العسكرية، فستدخل الدول الأوروبية تلقائياً في صراع عسكري مع روسيا".
وأكد بوتين أنه، لا هو ولا ماكرون يريدان مثل هذا التطور، على الرغم من أنه لم يُشر، في أيّ وقت من الأوقات، إلى أي استعداد لسحب قواته وأسلحته من المواقع، التي يقول محلّلو الاستخبارات الغربية إن الروس يستطيعون من خلالها شنّ توغل في أوكرانيا في أي لحظة، بل أكد بوتين أن كييف كانت منخرطة في حشد مماثل. وقال إن "أوكرانيا تحشد أيضاً القوات حول دونباس، وحاولت حل القضية بالوسائل العسكرية".
المطالب الأمنية الروسية
وأشار ماكرون إلى أن عدداً من المطالب الروسية يتوافق مع أهداف الغرب. وقال إن "مطالب الضمانات، التي صاغتها روسيا منذ وقت طويل بشأن الحدّ من الانتشار العسكري، وشفافية الأنشطة العسكرية التقليدية في أوروبا، والشفافية في نظام الدفاع المضاد للصواريخ، ونظام مراقبة القوات النووية المتوسطة المدى، والحدّ من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، كلها مطالب روسية تتوافق كلياً مع مطالب الدول الأوروبية". وأضاف أنه "ليس لديّ شكّ في أننا سنكون قادرين على تقديم استجابة جماعية، ليس الأوروبيين فقط، بل سيقوم بذلك أيضاً الحلفاء والأميركيون".
وأشار الزعيمان إلى أنهما على استعداد لمواصلة هذه المناقشة. وجادل ماكرون في أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة. ومع ذلك، أقرّ الرئيس الفرنسي بأن المحافظة على الدبلوماسية حيةً مع موسكو كانت عملاً شاقّاً. وقال إن "أوروبا يجب أن تعرف كيف تتعامل مع روسيا... هل هذا سهل؟ لا. هل المهمة لها عنصر الجحود؟ نعم. هل يجب التخلّي عنها؟ كلاّ".
وأكدت "بوليتيكو"، في تقريرها، أن هناك حدوداً عملية للتفاوض الفردي. فبينما تستطيع فرنسا، من الناحية النظرية، ومن جانب واحد، أن تمنح بوتين ما يريده، بشأنه طلبه ضمانَ ألا تنضمّ أوكرانيا أبداً إلى حلف "الناتو" – باعتبار أن أي عضو في "الناتو" من بين الأعضاء الـ30 من الحلفاء يمكن أن يمنع انضمام عضو جديد - لم يعرض ماكرون القيام بذلك، على الأقل ليس علناً.
وقالت إن مجموعة من المطالب الروسية الأُخرى - مثل الجزم بأن القوات والصواريخ (التابعة لحلف "الناتو") لن يتم نشرها في الأراضي الأوكرانية - تخضع لسيطرة الولايات المتحدة، أو تتطلب قراراً جماعياً من جانب جميع الحلفاء (في "الناتو")، مثل إصرار الكرملين على أن يسحب "الناتو" قواته من جميع دول أوروبا الشرقية، التي لم تكن أعضاء في حلف الأطلسي قبل عام 1997. وفي النهاية، بدا أن بوتين استنتج أن ماكرون لم يكن راغباً في تلبية طلبات روسيا الفعلية، أو غير قادر على ذلك. ونتيجة لذلك|، لم يقدّم الزعيم الروسي شيئاً ملموساً في المقابل.
ومع قرب نهاية المؤتمر الصحافي، دفع ماكرون أخيراً بوتين قليلاً، وقال إن الغرب لن يخضع للضغط. وبعد اتِّهامه روسيا بـ"انتهاك" مبادئ، مثل "السيادة وسلامة الأراضي وحقوق الإنسان"، أوضح ماكرون أنه "لا "الناتو" ولا الولايات المتحدة الأميركية سيلبّيان جميع المطالب التي تطالب بها روسيا، تحت ضغط عسكري كبير للغاية".
زيارة ماكرون مناورة خطيرة
ورأت "بوليتيكو" أن زيارة ماكرون لموسكو كانت مناورة شديدة الخطورة منذ البداية. لقد ردّ حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، كتابياً، على مطالب روسيا بضمانات أمنية جديدة. وبما أن الكرملين لا يزال يوازن رده (على رد الغرب)، لم يكن من الواضح ما الذي يمكن أن يقوله ماكرون أو يقدّمه، إن كان هناك أمر ما، قد يخاطر في تقسيم الوحدة الغربية وتشويش الرسائل من بروكسل وواشنطن بشأن ضرورة قيام بوتين بسحب قواته.
وأضافت أنه، مع وصول ماكرون إلى الكرملين، سرعان ما اتضح أنه في وضع غير مؤاتٍ ضد الرئيس الروسي الأكثر خبرة. لقد قدّم ماكرون أفكاره الافتتاحية بشأن المواجهة المتوترة. هو جالس في الطرف البعيد من طاولة اجتماعات ضخمة في إحدى غرف الاجتماعات المزخرفة في الكرملين، والمزوَّدة بستائر مزيّنة بالذهب وأرضية خشبية. ومن الجانب الآخر من الطاولة، جلس بوتين ساكناً تقريباً، ونظر إلى ضيفه نظرة جليدية مميتة.
وأضافت "بوليتيكو" أنه كان لدى بوتين سمّاعة أُذن سوداء من أجل سماع الترجمة لكلام ماكرون، لكن لم يكن واضحاً تماماً أنه كان يستمع، كما أعلن الرئيس الفرنسي، فـ"هذا الحوار ضروري لأنه الوحيد، في رأيي، الذي يجعل من الممكن بناء الأمن والاستقرار، بصورة حقيقية، في القارة الأوروبية. إنه، بالطبع، بعيد كل البعد عن الحوار الوحيد الذي يسمعه بوتين، والذي لا يُخفي نيته استعادة القوة العظمى للاتحاد السوفياتي. لديه مجموعة أخرى من المحادثات الجارية مع بايدن، وهي صيغة يعتقد بوضوح أنها ستقدم قرارات حقيقية، بطريقة أو بأخرى".
وبينما كان ماكرون يتحدث، كان بوتين بالكاد يرمش. وفي النهاية فقط، عندما قال ماكرون إنه "مسرور" بسبب عقد الاجتماع، وأشار إلى أنه كان يختتم اللقاء، أومأ بوتين أخيراً، وأعطى رعشة طفيفة بفمه، بدت كابتسامة.
إغراء ماكرون
وأشارت المجلة إلى أن بوتين استخدم ملاحظاته الافتتاحية من أجل تأطير المحادثة بالكامل وفقاً لشروطه، مع العلم برغبة الرئيس الفرنسي في أن يكون في قلب المحادثات الدولية، إلاّ أن بوتين أثار الإطراء لماكرون مراراً، وقال "ما أود تأكيده، بصورة خاصة، أنني أفهم بالطبع أن لدينا قلقاً مشتركاً بشأن ما يحدث في مجال الأمن في أوروبا، وأود أن أشكرك على حقيقة مفادها أن فرنسا تأخذ الجزء الأكثر نشاطاً في تطوير القرارات الأساسية في هذا المجال".
وقالت المجلة إن كبار المسؤولين في الإليزيه شدّدوا، في الأيام الأخيرة، على أن رئيسهم هو الوحيد الذي يمكن لبوتين إجراء مثل هذه المحادثات "العميقة" معه. وشددوا على أن بوتين يعدّ ماكرون مُحاوِراً قيّماً، وهذا الأمر لا يبدو أن البيت الأبيض منشغلٌ به كثيراً.
وبعد لقائه بوتين، قال ماكرون إن فرنسا جلبت "الصوت الأوروبي" إلى موسكو، لأنها تتولى الآن الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، و"لأنها وظيفتها" أيضاً .
وعاد بوتين إلى تعزيز "الأنا" عند ماكرون، عبر قوله إنه "يجب أن يقال إن كل هذه الأعوام، كما قلت للتو، كانت فرنسا تقوم بدور نشط في حل القضايا الأساسية للأمن الأوروبي. أسلافك فعلوا الشيء نفسه".
لكنّ بوتين حدّد أيضاً، ببراعة، أحداثاً معينة من اجل دفع أجندته. وأشار إلى "الهجوم الجورجي على أوسيتيا الجنوبية"، وإلى "الأزمة بين الأوكرانيين في جنوبي شرقي البلاد"، وهي اللغة التي تستخدمها روسيا في محاولة إنكار دورها في الصراع. وشدّد، أيضاً، على الحاجة إلى "ضمان الأمن المتكافئ في أوروبا"، مع الإشارة الضمنية والواضحة إلى أن الوضع الأمني غير متكافئ حالياً - في غير مصلحة روسيا -، ويحتاج إلى إعادة التوازن.
وقالت المجلة إن ماكرون لم يعارض بوتين عندما نفى الرئيس الروسي وجود صلات بين حكومته وجنود المرتزقة التابعين لمجموعة "فاغنر"، التي تغذي المشاعر المعادية لفرنسا في مالي. وقال بوتين إنه "لا علاقة للاتحاد الروسي بالمؤسسات العسكرية الخاصة العاملة في مالي". وردّ ماكرون بالقول إن "إجابة الرئيس (بوتين) كانت واضحة".
وأخيراً، قبل أن يتوجه إلى خلف الأبواب المغلقة مع الرئيس الفرنسي، بدا أن بوتين يلعب على مخاوف بعض المسؤولين الغربيين، الذين يبدو أنهم قلقون من أن ماكرون يعمل بالقطعة، ومن المحتمل أن يكون حريصاً جداً على منح تنازلات للزعيم الروسي القوي، بدلاً من الإصرار الثابت على سَحب الرئيس الروسي القوات والأسلحة الثقيلة الروسية، والمحتشدة عند حدود أوكرانيا.
وقال بوتين "ناقشنا كل هذه القضايا عبر الهاتف، بتفاصيل كافية.. أعلم بأن لديك أفكارك الخاصة بشأن هذا الأمر، ويُسعدني جداً أن تُتاح لي الفرصة للالتقاء ومناقشة كل هذا في مثل هذا الإطار الشخصي".
نقله إلى العربية بتصرف: هيثم مزاحم