أوكرانيا كارثة المحافظين الجُدد في أميركا

تستند آراء المحافظين الجدد إلى الافتراض الخاطئ بأنَّ الولايات المتحدة قادرة على إملاء الظروف في أيِّ منطقة في العالم بفضل تفوقها العسكري والمالي والتكنولوجي والاقتصادي.

  • في أوروبا والولايات المتحدة، فإنَّ الإحباط من الخسائر العسكرية والعواقب الضخمة للحرب والعقوبات سيتزايد.
    في أوروبا والولايات المتحدة، فإنَّ الإحباط من الخسائر العسكرية والعواقب الضخمة للحرب والعقوبات سيتزايد.

الحقيقة التي لا يودّ الألمان سماعها، رغم صحّتها، هي أن المحافظين الأميركيين الجُدد يتحمّلون جزءاً من مسؤولية الحرب في أوكرانيا.

إنّ الحرب في أوكرانيا هي ذروة مشروع حركة المحافظين الجُدد الأميركية منذ 30 عاماً، إذ تتكون حكومة بايدن من المحافظين الجدد نفسهم الذين دفعوا الولايات المتحدة الأميركية إلى الحرب في صربيا (عام 1999)، وأفغانستان (عام 2001)، والعراق (2003)، وسوريا (عام 2011)، وليبيا (عام 2011)، ومن ثمّ أثاروا استفزاز الروس، ما تسبّب بغزوهم أوكرانيا.

ورغم أنّ سجلّ نجاحات المحافظين الجدد يُعدّ "كارثة" بحقّ، فهم أيضاً الذين يشكلون فريق عمل الرئيس الأميركي بايدن. ونتيجةً لذلك، يقود بايدن اليوم أوكرانيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي إلى كارثة جيوسياسية جديدة. وبالتالي، إن كان لدى أوروبا ذرّة من الإدراك والحكمة في اتخاذ القرارات، فسيكون أوّلها النأي بنفسها عن فشل السياسة الخارجية للولايات المتحدة. 

نشأت حركة المفكرين الجُدد في السبعينيات على يد مجموعة من المثقفين العامين، بعضهم تأثر بعالِم السياسة في جامعة شيكاغو ليو شتراوس، وعالم اللغة الكلاسيكي في جامعة ييل دونالد كاغان. 

وكان من قادة حركة المفكرين الجدد نورمان بودوريتز، وإيرفينغ كريستول، وباول وولفويتز، وروبرت كاغان (ابن دونالد)، وفريدريك كاغان (ابن دونالد)، وفيكتوريا نولاند (زوجة روبرت كاغان)، وإليوت كوهين، وإليوت أبرامز، وكيمبرلي ألين كاغان (زوجة فريدريك).

مخطّط بول وولفويتز 

إن رسالة حركة المحافظين الجدد الأساسية تنصّ على تمتّع الولايات المتحدة الأميركية بالتفوق العسكري في كل بقاع العالم، ومواجهة القوى الإقليمية الصاعدة التي يمكن أن تتحدى يوماً ما السيادة العسكرية العالمية أو الإقليمية للولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً روسيا والصين.

ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن يتمركز الجيش الأميركي في مئات القواعد العسكرية في العالم. وبذلك، تكون الولايات المتحدة على أتمّ الجهوزية لشنّ أي حربٍ تختارها إذا لزم الأمر، وتكون الأمم المتحدة في خدمتها فقط لتحقيق هذه الأهداف.

بول وولفويتتز كان أول من حدد هذه الرسالة ووضعها في مسودة إرشادات سياسة الدفاع ((DPG وقدمها لوزارة الدفاع عام 2002. دعت هذه المسودة إلى تمديد شبكة الأمان التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، لتشمل أيضاً أوروبا الوسطى والشرقية، رغم أن وزير الدفاع الألماني هانز ديتريش جينشر كان قد وعد صراحةً عام 1990 بأنَّ إعادة توحيد ألمانيا لن يتبعه أيّ توسع شرقي لحلف الناتو. 

كذلك، نادى وولفويتز بحق أميركا في شنّ الحروب وفقاً لما يناسبها، ودافع عن حقها في اتخاذ القرارات المصيرية وحدها، وبشكلٍ مستقلّ، عند اندلاع أيّ أزمة تطال مصالحها. ووفقاً للجنرال ويسلي كلارك، أوضح ولفويترز كلارك في أيار/مايو 1991 أنَّ الولايات المتحدة ستقود عمليات تغيير النظام في العراق وسوريا وغيرها من بلدان حلفاء الاتحاد السوفياتي السابقة. 

توسع الهيمنة الغربية 

دعا المحافظون الجدد إلى توسيع حلف الناتو لضمّ أوكرانيا، حتى قبل أن تصبح هذه سياسة الولايات المتحدة الرسمية عام 2008 في عهد الرئيس جورج دبليو بوش الابن، فقد رأوا أنّ عضوية أوكرانيا في الناتو هي مفتاح الهيمنة الإقليمية والعالمية للولايات المتحدة. 

شرح روبرت كاغان حجج المحافظين الجدد لتوسيع حلف الناتو كما يلي:

"إنّ الروس والصينيين لا يرون في الثورات الملونة التي اندلعت في الاتحاد السوفياتي السابق أيّ شيء طبيعي. فقط الانقلابات الحاصلة بدعمٍ من الغرب لتعزيز النفوذ الغربي في أماكن استراتيجية مهمة من العالم. هل هم مخطئون؟ ألا يمكن أن يكون التحرير الناجح لأوكرانيا، بقيادة الديمقراطيات الغربية ودعمها، نموذجاً (مثالاً) لضمّ هذا البلد إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وباختصار، لتوسيع الهيمنة الليبرالية الغربية؟". 

دور فيكتوريا نولاند في عهد جورج دبليو بوش الابن

يقرّ كاغان بأنّ توسع حلف الناتو ستكون له عواقب وخيمة، ونقل عن خبيرٍ قوله: "الكرملين يستعدّ بكلّ جدية لخوض هذه المعركة في أوكرانيا". لقد سعى المحافظون الجدد خلف هذه الحرب، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تعيَّن على الولايات المتحدة وروسيا السعي إلى أوكرانيا محايدة لخلق حاجزٍ حذر وصمام أمان، ولكن بدلاً من ذلك، سعى المحافظون الجدد خلف هيمنة الولايات المتحدة، فيما خاض الروس المعركة كحالة دفاعٍ من جهة، ومن أجل تحقيق طموحاتهم الإمبراطورية من جهة أخرى. 

هذه الأحداث تذكّرنا بحرب القرم (1853-1856)، عندما حاول كلّ من بريطانيا وفرنسا إضعاف روسيا في البحر الأسود، بعد أن مارست الأخيرة ضغوطاتها على الإمبراطورية العثمانية. 

كاغان كتب هذا المقال كمواطن عادي، فيما كانت زوجته فيكتوريا نولاند تعمل سفيرة للولايات المتحدة لدى الناتو في عهد الرئيس جورج دبليو بوش الابن. نولاند كانت عميلة رفيعة المستوى للمحافظين الجدد. وإلى جانب عملها سفيرة للولايات المتحدة لدى الناتو، كانت أيضاً مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوراسية (الأوروبية-الآسيوية) في عهد الرئيس باراك أوباما من عام 2013 حتى 2017، وكان لها دور فاعل في إطاحة الرئيس الأوكراني فيكتور ياناكوفيتش الموالي لروسيا، وهي الآن وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية لبايدن، وتقوم بتوجيه سياسة الولايات المتحدة تجاه الحرب في أوكرانيا. 

الوعد بتحقيق انتصارٍ أوكرانيّ

تستند آراء المحافظين الجدد إلى الافتراض الخاطئ بأنَّ الولايات المتحدة قادرة على إملاء الظروف في أيِّ منطقة في العالم بفضل تفوقها العسكري والمالي والتكنولوجي والاقتصادي. هذا الموقف بحدّ ذاته يتّسم بغطرسة وازدراء ملحوظين للحقائق، إذ إنَّ الولايات المتحدة في كلّ حربٍ أو صراعٍ إقليميّ كانت طرفاً فاعلاً فيه؛ إمّا هُزِمت وإما بقيت مكانها من دون تغيير شيء.

ومع ذلك، كان المحافظون الجدد على أتمّ الاستعداد لمواجهة روسيا عسكرياً وخوض الحرب "من أجل أوكرانيا"، من خلال توسيع حلف الناتو رغماً عن كلِّ الاعتراضات الروسية الشديدة، معتقدين اعتقاداً راسخاً أن باستطاعتهم هزيمة روسيا بالعقوبات المالية الأميركية وأسلحة حلف الناتو. 

يواصل معهد دراسة الحرب (ISW)، وهو مركز أبحاث للمحافظين الجدد، بقيادة كيمبرلي ألين كاغان (وبدعم من متعهدي الدفاع مثل جنرال ديناميكس ورايثيون)، الوعد بتحقيق انتصار أوكراني. 

وتعليقاً على التقدم الذي أحرزته روسيا في الآونة الأخيرة، قدَّم المعهد تعليقاً نموذجياً: "بصرف النظر عن الجانب المتعلق بمدينة [سيفيرودونيتسك]، فمن المرجّح أن يكون الهجوم الروسي على المستويين التشغيلي والاستراتيجي قد بلغ ذروته، ما يمنح أوكرانيا الفرصة لاستئناف هجماتها المضادة على المستوى التشغيلي لصدِّ القوات الروسية".

سلام يحترم وحدة الأراضي الأوكرانيّة

الحقائق المحلّية على أرض الواقع تشير إلى عكس ذلك، إذ إن العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب بالكاد تركت أثراً سلبياً في روسيا، في حين أنَّ تأثيرها المرتدّ على بقية العالم كان كبيراً.

إضافةً إلى ذلك، إنَّ قدرة الولايات المتحدة الأميركية على مدّ أوكرانيا بالذخيرة والأسلحة مقيّدة بشدة بسبب القدرة التصنيعية (الطاقة الإنتاجية) المحدودة وتعطّل سلاسل التوريد. بطبيعة الحال، إنَّ قدرة روسيا الصناعية تفوق قدرة أوكرانيا بشكلٍ كبير، إذ إنّ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا قبل الحرب كان يعادل عشرات أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا، إضافةً إلى الخسائر الكبيرة التي طالت القدرة الصناعية الأوكرانية نتيجة الحرب.

النتيجة الأكثر ترجيحاً للقتال الحالي هي أنّ روسيا ستحتلّ جزءاً كبيراً من أراضي أوكرانيا، وربما تحول أوكرانيا إلى دولة غير ساحلية أو شبه ساحلية. أمّا في أوروبا والولايات المتحدة، فإنَّ الإحباط من الخسائر العسكرية والعواقب الضخمة للحرب والعقوبات سيتزايد.

قد تكون تداعيات هذه الحرب مدمّرة إذا وصل ديماغوجي يميني إلى السلطة في الولايات المتحدة (أو عاد إلى السلطة في حالة ترامب)، واعداً باستعادة المجد العسكري الباهت لأميركا من خلال التصعيد العسكري الخطر.

وبالتالي، بدلاً من المخاطرة بهذه الكارثة، يكمن الحلّ الحقيقي في إنهاء أوهام المحافظين الجدد على مدى السنوات الثلاثين الماضية، وإعادة أوكرانيا وروسيا إلى طاولة المفاوضات، مع تعهّد الناتو إنهاء التزامه بالتوسّع شرقاً حول أوكرانيا وجورجيا، في مقابل إبرام سلام مستدام يحمي سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها ويحترمها.

 

نقله إلى العربية زينب حجازي

جيفري ديفيد ساكس، خبير اقتصادي أميركي يعمل مستشاراً خاصاً للأهداف الإنمائية للألفية منذ عام 2002، وهو مدير شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.