الهوية والانتماء
ساهمت الحرب في أوكرانيا في كشف الحقيقة العدوانية للنظم الغربية. خطورة هذه الحروب وتبعاتها على الشعوب لم تقتصر فقط على تدمير مؤسسات وبنى تحتية وإرث حضاري في هذه البلدان، ولكنها تمثّلت أيضاً في بثّ مفاهيم وأفكار ورؤى زرعت بذور فتنة مستدامة.
كشفت الحروب الأخيرة في القرن الواحد والعشرين، وبأشكالها وجغرافيّتها المختلفة من أفغانستان إلى العراق وليبيا وسوريا واليمن أنها في جوهرها حروب على هوية هذه البلدان، ومحاولة عسكرية فظّة لكسر إرادتها، وتغيير هويتها وانتمائها بما يُرضي الجشع الاستعماري المالي والسياسي، متجاهلين التاريخ والجغرافيا وتطلّعات شعوب هذه البلدان إلى مستقبل مختلف تماماً عن الذي تحاول الحروب فرضه عليهم.
الغطاء الإعلامي لهذه الحروب تدرّج من "الحرب على الإرهاب" إلى "القضاء على أسلحة الدمار الشامل" إلى "نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان"، إلى تغيير أنظمة "أوتوقراطية فردية" واستبدالها بأنظمة "ليبرالية ديمقراطية"، و"محاربة منظمات إرهابية" هم صانعوها ومموّلوها والمروّجون لها.
خطورة هذه الحروب وتبعاتها الكبيرة على الشعوب لم تقتصر فقط على تدمير مؤسسات وبنى تحتية وإرث حضاري في هذه البلدان، ولكنها تمثّلت أيضاً في بثّ مفاهيم وأفكار ورؤى ومصطلحات زرعت بذور فتنة مستدامة في هذه البلدان وعبرها وعلى امتداد الجغرافيا المستهدفة.
وبسبب الاستمرار في التغذية الإعلامية لهذه الأفكار والمفاهيم، فقد تمكّنت من أن تُحدث بلبلة على الأقلّ في أذهان شعوب مستقرّة تاريخياً وجغرافياً، ومرتاحة لإرثها الحضاري والمعرفي والمفهوماتي إلى حين تعرّضها لهذه الحروب وارتباكها في التخلّص من آثارها وآثامها. ومن أخطر هذه الآثار والآثام قد يكون تأثيرها على الهوية والانتماء وزرع بذور الفتنة في هذين الموضوعين من خلال اتخاذ إجراءات استعمارية غير مسبوقة.
إذا بدأنا من الوطن العربي كأنموذج لهذه الحالة، فكلّنا يعلم كيف تمكّن الحلفاء، بريطانيا وفرنسا، من خداع الدول العربية للمشاركة في القتال معهما في الحرب العالمية الأولى بعد قطع الوعود البرّاقة بالحرية والاستقلال، والتي انتهت بعد هذه الحروب بتنفيذ مخطط سايكس بيكو ووعد بلفور، وتقسيم الوطن العربي بطريقة عشوائية إلى كيانات قطرية وخلق كيان غريب في قلب الوطن العربي يقف عائقاً على الأقل في طريق وحدته الجغرافية، والاستثمار الأمثل في موارده الطبيعية والبشرية.
ليس ذلك فقط، بل خلقت هالة قدسية حول هذه التقسيمات الجديدة ووضعتها أو وصفتها وكأنها في تناقض جوهري مع الانتماء الأكبر العروبي الذي يمتدّ على مساحة هذا الوطن لغةً وتاريخاً وحضارةً ومصالح مشتركة.
ثمّ انتقلت هذه القوى ذاتها وحلفاؤها في القرن الواحد والعشرين إلى خلق مفاهيم جديدة تُزعزع وحدة كل قسم خلقته وتبحث عن عوامل انشطاره إلى إثنيات ومذاهب وأعراق متناحرة، وتبحث عن سبل دبّ مشاعر الفتنة والتناقض بين من تشاركوا العيش طوال قرون التاريخ على الأرض ذاتها، والتكافل والتضامن على تقاسم خيراتها بمودّة وتعاون وعدالة عفوية هي جزء أساسي من مكوّنات حضارتهم.
ولأنّ هذه المنطقة قد حظاها الله عزّ وجلّ بأنها مهبط الديانات الثلاث وأرض الأفكار والمفكرين ومرتع الإبداع والمبدعين، فإنّ سمتها الأساسية هي تعدّد المعتقدات والمذاهب والسبل للإيمان بالله الواحد الأحد، وكان هذا التعدّد مصدر غنى وإغناء للجميع إلى أن أصبح مادّة بيد الطامعين والخصوم والمستهدِفين للمنطقة ومصير أبنائها.
وأيّ مراجعة لتاريخ هذه المنطقة تُري من دون أدنى شكّ أنّ معاناة شعوب هذه المنطقة وما حلّ بهم من ويلات، من السومريين إلى الكلدانيين والأكاديين والآشوريين إلى يومنا هذا، كان سببه زرع الفتن بين الأعراق والأديان من قبل القوى الإمبريالية والاستعمارية الطامعة أبداً بحضارتهم وثرواتهم وعمالتهم، والعاملة دائماً وعبر التاريخ وإلى يومنا هذا لاستنزاف ثرواتهم وسرقة مبتكراتهم واختلاق أسباب الفرقة بينهم كي لا يتفقوا على رأي ولا يتمكّنوا من بناء مجتمعاتهم وتحصين أنفسهم في وجه هذه القوى الطامعة بهم.
ومن هنا فقد اختلقت هذه القوى المعادية أسطورة "تناقض الانتماءات"، تلك الانتماءات التي هي في الحقيقة متكاملة مع بعضها البعض، وضرورية لبعضها البعض، وهكذا كانت عبر نشأتها وتطوّرها إلى أن تمّ التدخّل فيها وتجييرها لما يخدم الأعداء ويناقض مصلحة أهل الدار.
فما هو التناقض بين أن يكون المرء مسلماً أو مسيحياً، وسورياً ووطنياً وعروبياً في الوقت ذاته؟ ولماذا عليه أن يختار بين انتمائه إلى فئة أو منطقة وانتمائه إلى بلد وقومية؟ كما قال السيد الرئيس بشار الأسد في لقائه مع الرئيس قيس سعيّد على هامش القمة العربية: "من الطبيعة البشرية أن أنتمي إلى قريتي ومدينتي وبلدي، ولكن على أساس الانتماء الأكبر للأمة... نحن أمّة عربية لديها كلّ مقوّمات الأمة، والبعض يصرّ على الانتماء للبلدان على حساب الانتماء للأمّة، بينما الذين لا أمّة لهم يحاولون خلق أمة".
علّ أهمّ ما يبعث الأمل في عالم اليوم هو الاهتمام الذي توليه شعوب ودول كثيرة لتكامل الانتماءات بدلاً من تناحرها، الأمر الذي تجده الكتلة الغربية مصدر تهديد لهيمنتها وسلطتها على العالم من خلال أحادية قطبها. وكلّما ازداد وعي الشعوب بخطورة ما تمّ فرضه عليهم من تناحر الهويات والانتماءات والعودة إلى التفكير بتكاملها، كلّما تضافرت الجهود لخلق عالم متعدد الأقطاب، ووضع حدّ وإلى الأبد للهيمنة الغربية التي عملت طوال قرون على دبّ الفتنة والشّقاق من أجل تسهيل نهب موارد هذه الشعوب، وإبقائها تحت السيطرة وفق المبدأ الاستعماري "فرّق تسد".
اليوم، وبعد مساهمة الحرب في أوكرانيا في كشف الحقيقة العدوانية للنظم الغربية، وبعد تصدّر الصين للمعركة المفهوماتية، ونشرها لمفاهيم التكامل والاحترام والسيادة والحقوق المرتكزة على التاريخ والجغرافيا والتلاقح بدلاً من التناحر بين الشعوب والبلدان، ومدّ الجسور بدلاً من نسفها، بدأت معركة وعي حقيقية على مستوى المنطقة والعالم ليس أقلّها الاتفاق السعودي – الإيراني، والقمّة العربية بحضور سوريا، الدولة المؤسّسة، والتعاون الخليجي – الإيراني البحري، وانطلاقة إيران إلى أميركا اللاتينية والتي نتقاسم معها الإرث الأخلاقي والحضاري والمعاناة من الهيمنة الاستعمارية.
هذا الوعي الذي ينطلق اليوم بقوة من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، كما تمثّل في حضور النادي الاقتصادي الدولي في مدينة سانتبيترزبورغ، والذي قاطعه الغرب فأخذ ممثلو هذه الدول الصدارة في تعبير جديد وهام عن تغيير جذري في فهم الهوية والانتماء، وإعادة الاعتبار للتاريخ والجغرافيا بديلاً عن الفوضى التي أحدثتها الدول الغربية بانتهاكها لأهمية التاريخ والجغرافيا من خلال فرض نظمها وقيمها الليبرالية الإمبريالية خدمةً لمصالحها هي في نهب ثروات الشعوب على حساب مصالح وهوية وانتماء الشعوب الأخرى.
المرحلة الجديدة التي يحتاجها عالم اليوم هي مرحلة تكامل الانتماءات، وستكون مرحلة جديدة ومثمرة في تاريخ البشرية تحقّق المصلحة الحقيقية والحرية والحقوق في العيش الكريم لمعظم شعوب الأرض، وتنفض عن كاهلها الإرث الاستعماري البغيض والذي عاث في الأرض حروباً وفساداً وتفرقةً وفقراً وإرهاباً وأوبئة واستعماراً وعنصرية وتدميراً للأسرة.