الشوك والقرنفل للسنوار
لم تغادر ثقافة التنوع داخل الصف الوطني، عقل السنوار وسلوكه مع تغليب البعد الوطني في كل مرة، ومقابل الصوت العالي ضد القيادة الرسمية للسلطة ومنظمة التحرير، صاغ السنوار معادلة استثنائية.
بعد "طوفان الأقصى" ودور القائد الشهيد، يحيى السنوار، في هذه الملحمة، جرى استذكار جانب آخر من حياة هذا القائد الفلسطيني وبيئته الخاصة والعامة التي وثقها من خلال اعتقاله في سجون العدو الصهيوني، على شكل عمل روائي بعنوان "الشوك والقرنفل".
تحمل السيرة الروائية المذكورة دلالات عديدة، بعضها مفاجئ بالنسبة إلى شخصية من إسلام سياسي مناهض للناصرية، وبعضها الآخر يمكن قراءته بإسقاطات راهنة، مثل رفض إحدى شخصيات الرواية مغادرة القطاع مقابل الحفاظ على حياته واستشهاده، تماماً كما حدث مع السنوار، ومثل درس مغادرة بيروت 1982 من دون ضمان حماية المخيمات، ومثل الطريقة التي استخدمها العدو لاغتيال المجاهد يحيى عياش عن طريق الهاتف، ومثل اهتمام السنوار بصفقات تبادل الأسرى التي شكلت أحد أسباب الطوفان، كما إشارات السنوار إلى أكثر من محطة من محطات التحالف مع فتح في انتخابات جمعية الهلال والجامعة الإسلامية.
ابتداء، نعرف أن مخيمات غزة التي شكلت بيئة الشهيد كانت تعرف، على خلاف المخيمات الأخرى، بالمعسكرات بإيحاء من جمال عبد الناصر، الذي حرص مبكراً ومن خلال الضابط المصري الشهيد العقيد مصطفى حافظ في خمسينيات القرن الماضي، على إضفاء ملامح ميدانية قتالية على هذه المعسكرات، عوضاً عن إيحاءات اللجوء والشتات.
بالإضافة إلى ذلك، يرسم السنوار صورة لهذه المخيمات – المعسكرات من خلال ما هو معروف عنها، ولكن بجرعة تأخذنا إلى ما يشبه قاع المدينة (صنبور الماء المشترك، عربات الكارو)، ومن هذه البيئة العامة يدخلنا في البيئة الخاصة التي شكل أعضاؤها أبطال هذه الرواية ضمن مناخات متنوعة، فكرياً وسياسياً، وعندما يتحدث عن تظاهرات غزة التي خرجت بعد أوسلو، نجد أن شقيقه محمود يشارك في قيادة تظاهرة فتحاوية تدافع عن أوسلو، مقابل شقيقيه الحمساويين حسن ومحمد ومشاركتهما في تظاهرة ضد أوسلو.
محمود خريج الهندسة من جامعة القاهرة، مقابل حسن الذي تخرج من قسم الخراطة والحدادة من مدرسة صناعية وصار من خبراء تصنيع الأسلحة والصواريخ، ومحمد خريج الكيمياء الذي تحول إلى خبير متفجرات، ومعهما ابن عمهما إبراهيم.
تنوع في النقاش السياسي الدائم وفي الخيارات الميدانية، وتأتي سيرة الأب لتكمل هذه الصورة، البيئة التي عاش فيها السنوار، إذ نعرف أنه اختفى فجأة بعد معركة حزيران مع مجمموعة من رجال المقاومة الشعبية، وكان هؤلاء الرجال (لم تشر الرواية إلى ذلك) من امتدادات عمل العقيد الشهيد مصطفى حافظ، وهو الضابط المصري الذي كان ينظم عمليات فدائية مبكراً في القطاع.
بعد عقود على اختفاء والد السنوار، عرفوا أنه غادر إلى مصر ثم إلى الأردن، وتحديداً مخيم البقعة حيث تزوج وأنجب شقيقين للسنوار، هما ماجد وخالد وغادرا إلى لبنان ملتحقين في صفوف فتح قبل أن يعودا مع عرفات بعد أوسلو.
ضمن هذه البيئة، ولد وعاش السنوار الذي لم يعرف باسمه الحقيقي (أحمد) بل بالاسم الذي اختاره، يحيى، ربما نسبة إلى القائد الشهيد يحيى عياش، كما صار يكنّى بـ "أبو إبراهيم" نسبة إلى ابن عمه الشهيد أيضاً.
وسنعرف من الرواية أن السنوار تخرج من قسم الجيولوجيا من كلية العلوم في الجامعة الإسلامية في غزة، التي كانت قد تأسست حديثاً، وقبل أن يستقر على أفكاره ويواظب على الصلاة بانتظام، كان يتساءل مع كثيرين، هل من صلاح الدين لهذه المرحلة، ولعله اختار هذه الشخصية في اللعبة المفضلة عند الأطفال الفلسطينيين والعرب (عرب ويهود).
وكما لم يكن السنوار شخصية سياسية مغلقة، كان مثل جيله وهو فتى يرقب الفتيات عن بعد ويشارك في التعليقات حولهن حتى وقع في حب إحداهن، وراح يتعمد مصادفتها في الشارع واستراق النظر إليها.
عند الحديث عن شخصية السنوار، كما هي في سيرته الروائية، فإن التنوع الذي يميز هذه الشخصية من شخصيات الإسلام السياسي ليس تنوعاً هامشياً أو من داخل الطيف الفكري نفسه، بل حالة واسعة من الأطياف الفكرية والسياسية كما سنرى، جعلته في غمرة الاحتقانات الطائفية المبرمجة، الأكثر شجاعة بالحفر بالدم والتأسيس لتحالف تاريخي مع المقاومين الذين يشبهونه مثل حزب الله.
بالإضافة إلى غزة التي عرفت تقاليد الجبهات الوطنية والعمل الوطني المشترك، فقد كانت بيئة السنوار الخاصة والقريبة ورفقة السلاح والسجون والدم، تؤسس لنمط جديد من العمل الوطني مقابل بيئة الأصوليات التكفيرية الأخرى التي لم تطلق طلقة واحدة من أجل فلسطين، وانخرطت في الفوضى الطائفية المسلحة في كل مكان.
بالإضافة إلى تنوع عائلته بين فتح وحماس، ينقل إلينا نقاشات شهدها منزل العائلة، بين محمود الفتحاوي ومحمد وحسن الحمساويين، وعبد الحفيظ الماركسي، بل إنه يقول إن عبد الحفيظ كثيراً ما كان يبدو أكثر عمقاً، كما أشار أكثر من مرة إلى الحوارات والخلافات التي كانت تجري داخل السجن بين الإسلاميين والفتحاويين والجبهة الشعبية الماركسية، وداخل جمعية الهلال الأحمر بين الإسلاميين والماركسيين والفتحاويين، وكيف كانوا يتبادلون التحالفات في أكثر من انتخابات، وكيف كانت القوى من مختلف التيارات تعدّ معاً للتظاهرات المشتركة ضد الاحتلال الصهيوني.
أيضاً وحيث كانت بعض تيارات الإسلام السياسي تناهض عبد الناصر والقومية ومصطلح العروبة، كان السنوار ينقل ويقدم صورة مختلفة:
- علاقة أهل غزة مع معسكرات الجيش المصري في عهد جمال عبد الناصر.
- متابعته لرحيل جمال عبد الناصر وقوله: موت جمال عبد الناصر نزل نزول الصاعقة على رؤوس الجماهير الفلسطينية التي رأت فيه، بغالبيتها، زعيم الأمة العربية وأملها، فانطلقت التظاهرات عارمة في كل أنحاء الوطن في مخيماته ومدنه وقراه، وراحت التظاهرة في مخيم الشاطئ تهتف للوحدة العربية وتردد مآثر الرئيس الراحل.
ويضيف: وقد التحقنا بالتظاهرات كطلاب مدارس والجميع يهتفون للوحدة العربية، فلسطين عربية، بالدم نفديك يا جمال، وكان في انتظارنا قوات كبيرة من "جيش" الاحتلال لم تتردد في إطلاق النار وإصابة العشرات من الفلسطينيين.
- بخلاف التشخيص المعروف للإخوان المسلمين، حول حرب تشرين، يرى السنوار أنها كانت حرباً وطنية لم تستكمل لأسباب محلية وخارجية، منها الدعم الأميركي الكبير للعدو، وكانت نقطة تحوّل استراتيجية في مشاعرنا، رغم أن "إسرائيل" لم ترحل عن فلسطين، فإن مشاعرنا بدأت تنقلب تدريجياً أمام النبرة الجديدة التي بدأنا نسمعها من الرئيس المصري، السادات، حول استعداده للسلام مع "إسرائيل".
- ملاحظات عديدة أخرى تؤكد الوجدان العروبي عند السنوار، مثل وصفه تدمير اليهود للآثار العربية في فلسطين.
عدم التشنج والموضوعية في ملفات حساسة
من الواضح أن بيئة التنوع والانفتاح السياسي والفكري التي عاشها السنوار، انعكست على مجمل مقارباته الأخرى ومنها على سبيل المثال:
- متابعته لمناخات أيلول في الأردن 1970، فإلى جانب تعاطفه مع شعبه في كل مكان، كان من رأيه أن ثمة مسؤولية أيضاً تقع على بعض الفدائيين الذين لم يراعوا الوضع جيداً في الأردن، وبالغوا في تحدي المشاعر ما شكّل مبرراً لتفجير الصراعات هناك، ومن الواضح أن السنوار قام بتبسيط تلك الصراعات على غرار أطراف أردنية وفلسطينية، لكنه في الوقت نفسه، حذّر من تداعياتها.
- بخلاف أوساط متشددة كانت تستخدم أوصافاً مستفزة للعمال الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني، فقد رأى السنوار في بحث العمال الفقراء عن فرصة لتحسين أوضاعهم المتدهورة، حالة موضوعية، فضلاً عن فائدتها اللاحقة على مستوى الرصد الاجتماعي للكيان ومؤسساته.
- في ما يخص خدمة الدروز وبعض العرب والشركس في مؤسسات العدو، بالرغم من مشاعر الاستياء الواضحة عنده، ظل يؤكد أنهم (جزء من شعبنا العربي الفلسطيني) والمهم ليس الانتماء الطائفي أو العرقي بل من يلبس زي "الجيش" الإسرائيلي ويحمل سلاحه ويجعل نفسه هدفاً للمقاومة.
تأريخ للمقاومة بكل فصائلها
بخلاف السائد في التقاليد العربية التي تتجاهل ما قبلها من مآثر وإنجازات، أو تقلل من شأن ذلك، يمكن اعتبار السيرة الروائية للسنوار تأريخاً موضوعياً للمقاومة في غزة، وعموم الوطن الفلسطيني المحتل، من جذورها في خمسينيات القرن العشرين إلى ما بعد حزيران 1967 وحتى تاريخ الانتهاء من كتابة الرواية في السجن 2005.
بحسب السنوار، كانت قوى المقاومة الأساسية بعد حزيران 1967، ممثلة بـ حركة فتح الوطنية، والجبهة الشعبية الماركسية، وقوات التحرير الشعبية التي كان للماركسيين حضور لافت فيها، وكانت بحسب السنوار الأكثر حضوراً وتأثيراً آنذاك، كما عدّ السنوار يوم الكرامة يوماً فاصلاً في انتشار المقاومة وتوسعها.
ومنذ الانتفاضة الأولى التي انطلقت بعد مذبحة العمال في غزة، توسعت المقاومة وتوسع دور حماس فيها التي قدمت عشرات القادة الشهداء، مثل عماد عقل ويحيى عياش.
الدين والوطنية
من قلب الحوارات في منزل العائلة والسجن وكلية العلوم في الجامعة الإسلامية، بلور السنوار رؤية خاصة له في قلب المشروع الحمساوي، لخصها في قوله: ثمة وجه آخر للصراع، معركة حضارة وتاريخ ووجود، وليس معركة أرض وشعب طرد منها فقط، قصتنا ليس قصة الأيرلنديين أو الخمير الحمر أو الباكستانيين، هذه قصة فلسطينية تربع في عقدتها المسجد الأقصى، وقد كان من الممكن أن يصعد الرسول مباشرة من مكة، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت المعراج من هنا لإظهار أهمية القدس في هذا الصراع.
هذا عن الفكرة، أما الإسلام السياسي كإطار منظم فقد ولد ضمن الحيثيات التالية في غزة التي لا تشير الرواية إليها مباشرة:
- مثلت حرب حزيران 1967 وغياب الناصرية التي كانت الأكثر حضوراً في القطاع، مناخات جديدة للجماعات الإسلامية، فقبل ذلك كما يقول السنوار (كان اسم الإخوان أشبه بالشتيمة)، وقد تعززت المناخات المذكورة بافتتاح كلية الشريعة وما رافقها من تشكيل نويات إسلامية.
- إلى جانب غياب الناصرية، صعود الثقافة الحاخامية في الكيان الصهيوني وسيطرة الليكود، شارون ونتنياهو، بعد مقتل رابين والسلوك الصهيوني المتوحش بحق الفلسطينيين والمسجد الأقصى والمقدسات.
العدو بلا أقنعة
بالإضافة إلى السلوك الإجرامي الصهيوني المعروف في القطاع وغيره، وضمنه الاعتقالات الواسعة وأقسام التعذيب الوحشي ووحدات الاغتيال مثل الوحدة التي أسسها شارون باسم الوحدة 106 وعرفت بالطواقي الحمر، وتجريف الأحياء وشق شوارع تحت السيطرة، وتحويل المستوطنين إلى قطعان همجية مسلحة، يتوقف السنوار في سيرته الروائية عند أخطر مواجهة للفدائيين والحركة الوطنية مع العملاء والمتساقطين والمتساقطات، وأهمية تنظيف القطاع وبيئة الثورة منهم.
لم يترك العدو فرصة صغيرة من دون توظيفها لتجنيد العملاء، من الحاجة إلى العمل أو تصريح البناء أو غير ذلك، ومن ثم ابتزاز الناس بهذه القضايا التي لم توفر النساء أيضاً، ومن نجاحات العدو في وسط السنوار، تجنيد ابن عمه وكذلك أحد المقربين من يحيى عياش ما أدى إلى اغتياله، كما بلغ الأمر بالعدو أن راح ضباطه يتحركون على مرأى الناس (أبو الديب، أبو وديع وغيرهما).
بحسب السنوار، لم يكن سهلاً التعامل مع هذه القضية من دون تداعيات اجتماعية في مجتمع عائلي، لكن التنظيف كان ضرورياً لتحصين بيئة المقاومة، فضلاً عن كون ذلك ضرورة وطنية، وهو ما حدث فعلاً بعد التخلص من معظم العملاء وتصفية العديد من ضباط الاستخبارات الصهيونية، وإجراء وقفة مراجعة تضع معايير مدروسة بعناية.
العلاقة مع القيادة الرسمية، وحدة وصراع
لم تغادر ثقافة التنوع داخل الصف الوطني، عقل السنوار وسلوكه مع تغليب البعد الوطني في كل مرة، ومقابل الصوت العالي ضد القيادة الرسمية للسلطة ومنظمة التحرير، صاغ السنوار معادلة استثنائية، الموقف الراديكالي الصارم من جهة، وتفويت الفرصة على العدو للعب على التناقضات من جهة أخرى، ومن أمثلة ذلك، تقييمه للرحيل عن بيروت من دون تأمين المخيمات وتجنيبها مذابح مثل صبرا وشاتيلا، مظاهر الثراء في رام الله، والشبهات التي أحاطت باغتيال العديد من المقاومين مثل محي الدين الشريف.