السياسة والمخابرات في الصراع الروسي البريطاني
لم تتوقّف التدخّلات البريطانية وغيرها في الشأن الروسي حتى بعد انهيار الاشتراكية، ومن ذلك توظيف زعامات الثورات الملونة.
إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية كطرف أساسي في صراع المعسكر الغربي الرأسمالي مع الدولة الروسية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، أظهرت التداعيات الدولية للعملية العسكرية الروسية ضد المحمية النازية الأطلسية في أوكرانيا، أن الصراع الروسي البريطاني لا يقلّ أهمية عن الصراع الروسي الأميركي.
فإذا كان تصريح نائب رئيس الأمن القومي الروسي حول اعتبار المتورطين الإنكليز هدفاً مشروعاً للدولة الروسية، قد جاء ضمن الرد الروسي اللوجستي والعسكري على أهداف أطلسية قاتلة في أوكرانيا وخارجها (أهداف أميركية في سوريا)، إلا أن ثمة خصوصية أيضاً حول الجانب الإنكليزي من التحالف الإنجلو سكسوني، بالنظر إلى تورّط لندن الكبير ضد روسيا في أوكرانيا، بل وداخل الأراضي الروسية نفسها.
في الحقيقة، ليست ثمة مفاجأة في هذا التصعيد المتبادل بين موسكو ولندن، فالصراع هو السمة العامة للعلاقات الروسية البريطانية في كلّ العهود التي مرّت على البلدين، من روسيا القيصرية إلى روسيا الاشتراكية إلى روسيا اليوم، وبالمثل من بريطانيا الفيكتورية ورجلها القوي، اليهودي، دزرائيلي، إلى بريطانيا الحالية، ناهيك بأن الصراع ومحاولات الهيمنة هي السمة العامة لعلاقات بريطانيا مع غالبية شعوب العالم ودوله، منذ أن تسيّدت بريطانيا المنظومة الرأسمالية الاستعمارية، كإمبراطورية لا تغيب الشمس عن أراضيها، مروراً بسقوطها وأفول شمسها على يد تحالف موسكو مع عبد الناصر في الشرق الأوسط.
صحيح أن سمة الصراع المذكورة بين البلدين تخلّلتها لحظات عابرة من التحالفات المؤقتة، كما حدث ضد الجيوش المصرية زمن محمد علي عندما هزمت الجيوش العثمانية وحاصرت إسطنبول، وتحالف الإنكليز مع قيصر روسيا بدعم وتوجيه اليهودي روتشيلد وأمواله، وكما حدث بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو زائد روسيا القيصرية 1916، إلا أن العلاقات بين الطرفين ظلت علاقات صراع أياً كانت طبيعة الحكم في البلدين، كما الموقف في حرب البلقان وغيرها، لكن هذه العلاقات تفاقمت أكثر بعد الثورة الاشتراكية في روسيا وأصبح الاستعمار البريطاني ملاحقاً من حركات التحرّر المدعومة من موسكو.
فيما يخص الصراع البريطاني – الروسي منذ الثورة الاشتراكية وحتى اليوم فقد مرّ بمراحل عديدة، بينها تهديد رئيس الحكومة البريطانية، تشرشل، بضرب موسكو بالقنابل الذرية، وفقاً لما أورده الباحث البريطاني، ايكه، في كتابه "السر الأكبر"، وبينها دور بريطانيا مع واشنطن في إنشاء حلف الناتو ضد موسكو وتغذية هذا الحلف بأحلاف إقليمية هنا وهناك مثل حلف بغداد – أنقره 1955.
لم تتوقّف التدخّلات البريطانية وغيرها في الشأن الروسي حتى بعد انهيار الاشتراكية، ومن ذلك توظيف زعامات الثورات الملونة وغالبيتهم من اليهود لوضع موسكو تحت نفوذ مافيا يهودية محاطة بأوساط ليبرالية روسية، وقد ازداد الصراع بين موسكو ولندن بعد وصول بوتين إلى الكرملين وفتح ملفات المافيات ومنها المافيا اليهودية ممثّلة برجال أعمال مثل خودوركوفسكي الذي تمّ اعتقاله في موسكو، وبيريزوفسكي وعشرات اليهود الهاربين إلى أوكرانيا وبريطانيا.
كما أظهرت الوثائق أنه إضافة إلى دور المخابرات البريطانية في هدم الاتحاد السوفياتي، فقد كان حضور هذه المخابرات في أوكرانيا خطيراً ونافذاً، ليس باسم حقوق الإنسان والليبرالية فقط، بل عبر إنتاج الميليشيا النازية وبناء مختبرات بيولوجية بالتعاون مع المخابرات الأميركية لغايات توظيفها لاحقاً ضد روسيا.
معلوم أن بريطانيا ضالعة في هذا النوع من المختبرات والحروب البيولوجية، بل إنها أوّل من استخدمها في الحرب العالمية الأولى ولم تتردّد لحظة واحدة في تصفية أي شخص يقترب منها، ومن ذلك اتهامها باغتيال الخبير البريطاني، ديفيد كيلي في العراق.
في السنوات الأخيرة، تضاعف الدور البريطاني السياسي والاستخباراتي في روسيا مباشرة وعبر أوكرانيا، بالتقاطع مع لحظة الصراع على شكل العالم الجديد والموقع البريطاني في المنظومة الإمبريالية إلى جانب الإمبريالية الأميركية وبقية المتروبولات الإمبريالية في الناتو والاتحاد الأوروبي.
من مصادفات هذه اللحظة بين عالمين، عالم إمبريالي يقوده الإنجلو سكسون، وعالم متعدد الأقطاب، أن أبرز مفكّري الاستراتيجية الجيوسياسية التي تميّز هذه اللحظة، هو البريطاني ماكندر صاحب النظرية التي ترى مستقبل العالم في حسم الصراع على أوراسيا و"الهارت لاند" – قلب العالم الذي تمثّله روسيا.
انطلاقاً من ذلك وبالتزامن مع صحوة الدب الروسي في الكرملين وبموازاة التدخّل الأميركي المعلن في أوكرانيا والذي كتب عنه الاستراتيجي الأميركي بريجنسكي أكثر من مرة، داعياً إلى تطويق روسيا ومنعها من أن تتحوّل إلى "هارت لاند" بأفق عالمي، اتخذ التدخّل البريطاني أشكالاً مختلفة بينها العمل الاستخباراتي بأقنعة مباشرة وأخرى ليبرالية ومدنية واقتصادية.
ومن ذلك أيضاً إعداد وتدريب مجاميع أوكرانية وكازاخية وجورجية وقفقاسية، كما تنوّعت الأدوات البريطانية بين الجماعات المسلحة في أوكرانيا والقوقاز، وبين أوساط ليبرالية من نشطاء الثورات الملوّنة.
إضافة إلى ذلك يعود الصراع الاستخباراتي الروسي – البريطاني إلى ما بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية وعلاقاتها مع حركات التحرّر في كل مكان، إذ واصلت المخابرات البريطانية عملياتها ونشاطاتها ضد الاتحاد السوفياتي وحركات التحرّر الوطني.
وبسبب تراجع مكانة الإمبريالية البريطانية لصالح الأميركية، نظّمت نشاطاتها بالتنسيق مع مخابرات الأخيرة ونجحتا في اختلاق عشرات الأصوليات التكفيرية انطلاقاً من أفغانستان، حتى أن المؤرخ البريطاني كورتيس في كتابه (التآمر البريطاني مع الأصوليين) أطلق على لندن وصف "لندنستان" وكشف الكتاب المذكور تفاصيل مذهلة عن هذه العلاقة.
ومثل كورتيس كان كاتب وباحث بريطاني آخر هو ديفيد ايكه يفضح في كتابه "السر الأكبر" عشرات الواجهات التي اخترعتها المخابرات البريطانية كأقنعة لنشاطاتها (صفحات 531 – 542) كما فضح عشرات الاغتيالات التي نفّذتها هذه المخابرات.
وثمة ما يقال عن مئات الدراسات التي تعقّبت أو فضحت الدور المذكور في الأزمات التي تعرّضت لها بلدان عديدة، بينها العراق وسوريا واليمن وإيران وليبيا وغيرها، إضافة إلى محطات داخلية على غرار اتهامها بتصفية ديفيد كيلي على شكل انتحار، وهو الخبير البريطاني الذي كذّب رواية بلير حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعلى غرار إخفاء أوراق وملفات تتحدث عن تجسس بريطاني على مقر الأمين العام للأمم المتحدة وذلك وفق ما ذكره بوب وودورد في كتابه (القناع).
فيما يخص المجال الروسي البريطاني وصراع المخابرات بينهما يشار ابتداء إلى ثأر بريطاني قديم – جديد من المخابرات الروسية التي تفوّقت عليها في هذا المجال، سواء في العملية الاستباقية حول أسرار القنبلة الذرية، أو في الفضيحة الاستخباراتية التاريخية التي ساهمت في إخراج بريطانيا من الشرق الأوسط وأسدلت الستار على تسيّدها السياسي والاستخباراتي في هذه المنطقة.
ترتبط هذه الفضيحة فيما عرف بحلقة جامع كامبريدج التي كانت تضم أكاديميين وفنانين وسياسيين احتلوا مواقع أساسية في جهاز المخابرات البريطانية، سواء داخل قصر بكينغهام نفسه عبر المستشار الفني لمتحف اللوحات في القصر الملكي، أو من خلال ما يعرف في الخطاب الاستخباراتي العالمي بأخطر جاسوس في التاريخ، وهو كيم فيلبي.
ينتمي فيلبي إلى عائلة (عريقة) في المخابرات البريطانية الخارجية، منها والده جون فيلبي، الذي عمل في العراق والأردن قبل أن ينتقل إلى جوار الملك عبد العزيز آل سعود، وكان فيلبي الابن ضمن شبكة كامبريدج التي تبنّت أفكاراً اشتراكية ووضعت نفسها في خدمة المخابرات الروسية الخارجية بلا مقابل، أي أنها كانت شبكة أيديولوجية معادية للإمبريالية.
بسبب كفاءاته وثقافته النظرية والأدبية، تدرّج فيلبي بسرعة في جهاز المخابرات البريطانية الخارجية وترّأس أكثر الأقسام حيوية فيها، من جهاز مكافحة التجسس والشيوعية إلى تنسيق العمل مع المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط.
وعندما تمّ اكتشافه عجزت المخابرات البريطانية وصداقاتها العربية والأميركية عن توقيفه في لبنان، إذا أخذته غوّاصة روسية من ميناء بيروت وظل في موسكو حتى وفاته. وقد هزت قضيته الجهاز البريطاني بأكمله بما في ذلك شبكاته والأقنعة التي كان يعمل خلفها في لبنان وغيره، مثل معهد شملان لتدريب وإعداد القادة والإعلاميين.