الأردن في العقل الإسرائيلي
راح العدو الإسرائيلي يرى الأردن من منظار إقليمي أوسع باسم "الأردن الكبير" كاتحاد كونفدرالي لعدد من الحكومات المحلية، وبحث يضم مناطق من العراق وسوريا، بالإضافة إلى الضفة الغربية لنهر الأردن.
بالتزامن مع الانهيار السوفياتي والاستراتيجية الأميركية ضد ما كانت تسمّيه "الدولة الشمولية" في كل مكان (دولة القطاع العام والدعم الحكومي للسلع والخدمات الأساسية مع مستويات متباينة في كل حالة إزاء البيروقراطية والإدارة السياسية)، وكذلك بالتزامن مع معاهدة "وادي عربة" التي لم تترك لا شاردة ولا واردة في كل الحقول، كما ظهرت في كتاب شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، راح العقل الإسرائيلي يحدد تصوراته المريضة والخطيرة لمستقبل بلد وقّع معه معاهدة بحجم المعاهدة المذكورة.
انطلق السيناريو الإسرائيلي من قراءات تقليدية متداولة حول الأردن (خزّان بشري لأزمات المنطقة وتدفقات اللاجئين بسببها مثل الموجات الفلسطينية والعراقية والسورية وكذلك الليبية واليمنية وحتى الأفغانية)، ومن ازدراء واضح لشريكه الجديد في "السلام" عندما راح يستعرض أكثر السيناريوهات ملاءمة لمصالحه، بالاتكاء على تجارب مختلفة، يعود بعضها إلى تاريخ قديم، مثل توظيف تجربة مملكة القدس اللاتينية والإمارات التابعة لها خلال الموجات الأولى مما عُرف بـ"الحملات الصليبية"، أما التجارب الحديثة فأبرزها:
1- تجربة البانتوستان، التي أقامتها حكومة الأقلية العنصرية البيضاء التي كانت تحتل جنوب أفريقيا، وملخصها إقامة كانتونات سياسية في مجالاتها الحيوية وضمن تقاسم وظيفي عنصري بحيث يتحول البانتوستان إلى خزّان بشري ومناطق للصناعات الأقل قيمة والأكثر تلويثاً للبيئة.
2- تجربة البينيلوكس الثلاثي (مركز إسرائيلي ومحيط أردني-فلسطيني على شكل فدرالية أو كونفدرالية)، وفي معرض مقارنته لهذه التجربة مع نسختها الأوروبية راح شمعون بيريز، وبتندّر شديد، يماهي بين "إسرائيل" وهولندا، في مقابل الأردن وبلجيكا (دولة بافر-ستيت سابقة ومركز لحلف الأطلسي)، وبين الضفة الغربية ودوقية لوكسمبورغ.
3- تجربة سنغافورة، في ما يخص تفكيك الشكل السابق للسلطة واللعب على الديموغرافيا البشرية بدفع المجموعة الصينية (البرجوازية والعمالة) إلى سدّة السلطة في مقابل إضعاف مجموعة الملايو وتحويلها إلى أقلية من السكّان الأصليين.
ويبدو أن "العقل الإسرائيلي" اختار صيغة مركبة من التجارب الثلاث، ترافقت مع إطلاق عملية اقتصادية – اجتماعية – سياسية واسعة لتحويل الأردن من دولة بافر-ستيت أو بافر-زون (يعزل الكيان الصهيوني عن المحيط العربي الذي كان يوصف بلغة الرئيسين، جمال عبد الناصر وحافظ الأسد بدول الطوق)، إلى منطقة جسر-ستيت واصلة، ولكن على نحو أفقي كما كانت المناطق الأردنية والفلسطينية مرتبطة بولاية دمشق، قبل إسقاط أول دولة سورية موحدة على مستوى سوريا الطبيعية، وذلك بعد الاحتلال الفرنسي وتمزيقها وفقاً لاستحقاقات "سايكس-بيكو" ووعد "بلفور".
ومن التداعيات الاجتماعية للتحوّل من دولة ريعية تنفق جزءاً من ثمن التخادم السياسي على الطبقة الوسطى إلى دولة جباية، البعد الكارثي بتحميل الطبقات الشعبية الجزء الأكبر من نفقات الدور السياسي الجديد.
إلى ذلك، ثمة ما يقال اليوم في مطابخ العدو، إن التقسيمات الأفقية السابقة مع دمشق يمكن أن تصبح واقعاً مع "تل أبيب"، والأخطر في كل ذلك أن سيناريو العدو يربط بين التحوّل من دولة بافر-ستيت عمودية إلى دولة جسر-ستيت أفقية تضم مناطق فلسطينية، وبين تحويل الأردن من دولة جغرافيا سياسية إلى جغرافيا سكانية تتسع لتوطين جغرافي – سكاني، لا سياسي، مع خطورة التوطين في الحالتين.
من أجل الوصول إلى هذه السيناريوهات ومع تأسيس مؤتمر هرتزيليا 2000 ليكون من المطابخ الأساسية في استراتيجية العدو، راح هذا العدو يرى الأردن من منظار إقليمي أوسع باسم "الأردن الكبير" كاتحاد كونفدرالي لعدد من الحكومات المحلية، وبحث يضم مناطق من العراق وسوريا، بالإضافة إلى الضفة الغربية لنهر الأردن (فلسطين الشرقية).
ويمكن وضع العدوان على العراق في هذا السياق، بالإضافة إلى الاعتبارات الأخرى المعروفة، وكذلك العدوان على سوريا، وهو ما ظهر في مشاريع سياسية في حينه، مثل مشروع حكومة الأنبار ومشروع حكومة الموصل ومشروع حكومة حوران، بالإضافة إلى مشروع كانتون درزي وآخر كردي بأسماء مختلفة.
ويقال على هذا الصعيد إن العدو هو الذي أشرف على مؤتمرين عقدا في عمّان، الأول للكرد والثاني جمع شخصيات درزية من لبنان والمعارضة السورية وأخرى من الأردن وفلسطين المحتلة، وكان ضمنهم نائب مقرب من الليكود.
كما هو معروف، فإن صمود المقاومة العراقية وصمود سوريا وفشل المشروع الكردي و"داعش" والقاعدة والقوى الطائفية المرتبطة بهما، "فرمل" مشروع الأردن الكبير وأدى إلى انحساره إلى مشروع كونفدرالية أردنية – فلسطينية برسم النقاش بين حكومات ومقاطعات محلية.
في المقابل، ومع الفشل الواضح على مستوى الإقليم، تتواصل في الأردن عملية تفكيك الدولة وخلخلة البنى الاجتماعية بما يوفر بيئة موضوعية لتمرير مشروع كونفدرالية الكانتونات لاحقاً، ولا سيما التداعيات الناجمة عن إملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين، وكذلك ما يقال بشأن مشاريع استراتيجية تنفذ من قبل صندوق آخر هو الصندوق الإقليمي، كما ورد في كتاب شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، ومن هذه المشاريع خط سكة الحديد الذي يربط ميناء حيفا بالخليج عبر الأردن، والعاصمة الجديدة التي ترتبط بدورها بالتوطين السكاني، وما يمكن تسميته بـ"الترانسفير" الجديد والمدن الصحراوية على أطراف إقليم الوسط الذي يضم العاصمة ومدينة الزرقاء الأكثر اكتظاظاً بالسكان، وليس بعيداً منهما بادية المفرق والأزرق الاستراتيجية التي تمسك بالحدود مع العراق وسوريا والسعودية، وتضم عدداً من القواعد العسكرية الأميركية.
ويتذكر الأردنيون جيداً الاهتمام المفاجئ بشراء الأراضي في هذه المنطقة من رجال السلطتين الأردنية والفلسطينية، قبل أن تظهر تجمعات سكانية مثل ماضونا، واليوم مشروع المدينة الجديدة المذكورة، والذي تفوق تكاليفه الموازنة الأردنية، ويجري تسويق المدينة كواحدة من المدن الذكية في المنطقة، فيما الرائحة الأقوى التي تفوح من مخططاتها هي رائحة الجغرافيا السكانية وتصفية القضية الفلسطينية.
هكذا، لم تكن استهدافات الإملاءات المذكورة للبنك وصندوق النقد الدوليين مرتبطة بالسياسات العالمية لهما من حيث التخلص من رواسب الدول الشمولية وإعادة دمج جنوب العالم في النظام الرأسمالي من موقع التبعية، فتفكيك الدولة في الأردن شديد الصلة بالاستحقاقات الإسرائيلية وجزء من استراتيجيتها المعلنة الداعية إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر الأردن، في إطار التوطين السكاني سابق الذكر والنظر إلى الأردن كجغرافيا في إطار سياسي إسرائيلي.